كثيرون ممن تابعوا وشاهدوا المسلسل
التلفزيوني «Breaking Bad»، وهو مسلسل جريمة درامي، توزعت حلقاته الـ(62) على خمسة مواسم، واعتبره المشاهدون والنقاد واحدا من أفضل مع ما أنتجته الدراما التلفزيونية في التاريخ، وقد ترشح المسلسل لـ(262) جائزة، فاز بـ(110) جوائز، من أهمها جائزة إيمي وجائزة غولدن غلوب. ويروي المسلسل قصة مُعلم كيمياء، خمسيني، متزوج وله ابن مصاب بالشلل الدماغي، وينتظر مع زوجته مولودا جديدا، ويعمل في وظيفة أخرى في محطة لغسيل السيارات لتأمين احتياجات العائلة، فهو يمثل الطبقة المتوسطة من المجتمع الأمريكي، يشخص بإصابته بسرطان الرئة في المرحلة الرابعة، وهنا تنقلب حياته رأسا على عقب، ويُواجهه السؤال الذي يطرحه ملايين من المرضى في الولايات المتحدة، خاصة أولئك الذين لا يملكون تأمينا صحيا للعلاج، أو راتبا تقاعديا لإعالة أسرهم، ويساورهم القلق في كيفية الحصول على العلاج، وتأمين عائلاتهم بعد وفاتهم.
يجد بطل المسلسل، مدرس الكيمياء، الجواب على هذا السؤال بين ثنايا المهنة التي يُتقنها «الكيمياء»، من خلال تصنيع مادة (الميثامفيتامين)، وهي مادة مخدرة، بمساعدة أحد طلابه المدمنين، وينخرطان في عالم تصنيع وبيع المخدرات، الذي يجرهما خطوة تلو أخرى إلى عالم الجريمة بدمويتها ووحشيتها.
قد يكون الأمر مفاجئا للبعض تلك الجماهيرية الواسعة التي حققها هذا المسلسل، وفي قدرة السيناريو والحبكة الدرامية المتميزة وأداء بطل المسلسل والممثلين الآخرين في استعطاف وحشد مشاعر المشاهدين لصالح (والتر وايت). فقد أظهر المشاهدون قلقا كبيرا إزاء مصير البطل، وتمنوا أن ينجو من كُل الحروب التي خاضها مع عصابات وتجار المخدرات، وهذا ما يذكرني بالتعاطف الكبير الذي حظي به امبراطور المخدرات بابلو إسكوبار من قبل مشاهدي المسلسل الناجح، الذي تم إنتاجه حول حياة (إسكوبار)، فقد لمسوا الجزء الخيّر الصغير في شخصية هذا المجرم، الذي طغى على إجرامه ووحشيته.
لقد تعامل القائمون على العمل بذكاء في محاولة تطبيعنا مع الشر واستساغته، وسُقِينا إيّاه على دفعات من خلال حلقات المسلسل التشويقية، التي تدفع بالمشاهد للمتابعة حتى النهاية، ليشعر وكأنه بات جزءا من هذه الدراما أو فردا من عائلة والتر، ومن ثم يضع المشاهد على المحك ومواجهة السؤال الرئيسي والمصيري، فيما إذا ما كان سيسلك الطريق نفسه حال تعرضه لظروف مشابهة، وهل يمكن أن نتعاطف مع مجرم لكونه يُشبهنا أو تربطنا به صلات قرابة الدم أو الملة، أو الظروف الحياتية، وهل علينا أن نحاكم الشخص أم الفعل الذي ارتكبه؟
إنما أراد منتج المسلسل أن يرسل رسالة، مفادها أن هذا الحدّ الفاصل بين الخير والشر واهن ومتقلب، فحتى الناس الخيرون قد يجدون أنفسهم فجأة على الضفة الأخرى، لكن الانشغال بفلسفة الخير والشر لا يجب أن توهمنا بصحة التغاضي عن فداحة الجرم الذي لا تبرره مشروعية الهدف أو قسوة الواقع، فملايين من البشر يتعرضون للظلم وللظروف القاسية، ومع ذلك يناضلون ويجتهدون لتغيير هذا الواقع، ولكن فئة قليلة منهم يلجؤون إلى ارتكاب الخطأ.
قد نكون نمارس التطبيع مع الخطأ ونتقبله دون إدراك منا؛ لأن العواطف الإنسانية تطغى أحيانا على العقل، لكن عملية تقبل إثم الآخر بسبب ظروفه القاسية وتعرضه للظلم تتم ببطء ونتشربها رويدا رويدا؛ لأننا بشر في النهاية ويتعاطف بعضنا مع بعض، لذلك جاء القول الرباني دقيقا في التحذير من تتبع خطوات الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء؛ فالإنسان ضعيف بطبعه تتقاذفه النزعات والرغبات، وهنا يحدث الصدام بين هذه النوازع والرغبات وبين الفطرة السليمة، بين الخير والشر، ويصعب التغلب عليها دفعة واحدة فيضعف الإنسان ويتقبل تدريجيا ما يزينه له شيطانه، أو ما تأمره به نفسه التي تتقاذفها أمواج الحيرة وفقدان الإيمان والثقة.
(الغد الأردنية)