قُدِّر
لرواية "
دعاء الكروان" أن تكون أحدَ أشهر أعمال عميد الأدب العربي بتحوُّلِها
إلى الفِلم الذي أخرجَه هنري بركات عام 1959 وجسَّدَ أبطالَه الثلاثةَ الفنانون أحمد
مظهر في دور مهندس الرّيّ وفاتن حمامة في دور (آمنة) وزهرةُ العُلا في دور (هنادي).
كما قُدِّرَ للرواية والفِلم معًا أن يتمثَّلَهما الوعيُ الجمعيُّ بوَصفِهما حكايةَ
فتاةٍ ريفيّةٍ (بدويّةٍ) فقيرةٍ تصطدمُ بحضارة المدينة وتحاول الانتقامَ لأختِها من
الشابّ الذي أغراها بالخطيئةِ فأزهقَ رُوحَها خالُها القاسي حتى يَدفِنَ معها عارَها،
ثُمّ تجِد نفسَها قد وقعَت في غرام الشابِّ نفسِه لتذوبَ الرغبةُ في الانتقام ويحُلَّ
محلَّها الحُبُّ وتنفتِحَ أمامَها حياةٌ أخرى. وقد ظللتُ أسيرَ هذا التمثُّل قانعًا
بمعرفتي بالرواية من خِلال الفِلم إلى وقتٍ قريبٍ قررتُ فيه أن أقرأَ الرواية. ومع
القراءة اكتشفتُ أنّ الأمرَ أعمقُ ممّا كنتُ أتصوّر، أو على الأقلِّ كان هذا ما تراءى
لي.
ابتداءً،
سطعَت في وعيي حقيقةُ أنّ أديبَنا الكبيرَ كان مازالَ ممسوسًا بهُموم عِلم الاجتماع
أثناء انكبابِه على كتابةِ الرواية، تلك الهمومِ التي سكَنَت عقلَه مع انصرافِه إلى
دراسةِ مُنجَز ابن خلدون في رسالتِه التي نالَ عنها الدكتوراه من جامعة السوربون. نلمِس
ذلك في إفاضتِه في بيان خصائص المكان الذي تبدأُ منه أحداثُ الرواية (قرية بني وركان)
بوَصفِه رِيفًا متبدِّيًا أو باديةً ممسوسةً بالرَّيف.
صحيحٌ
أنّ كُلَّ عملٍ أدبيٍّ لا يَعدَمُ أن يكون في جزءٍ منه على الأقلِّ دراسةً اجتماعيةً،
ويَصدقُ هذا على الرواية بالأخَصّ، إلّا أنّ التاريخَ المبكِّر لكتابة هذه الرواية
بالنظر إلى تاريخ فنّ الروايةِ الحديثِ بعامّةٍ في الأدب العربيّ (إذ ذيَّلَها كاتبُها
بتاريخ فراغِه منها في أيلول/ سبتمبر 1934) يجعلُ الخيط الاجتماعيَّ هنا بارزًا ويكادُ
يكونُ غرضًا مستقلًّا ذا أولويّةٍ في القراءة.
ونرى
تجلّياتٍ أخرى لهذا الهَمّ في استلهامِ الكاتبِ تراثَ الحكايات الشعبية الريفية عن
الغُول ووصايا الجَدّات بعدم الالتفاتِ إليه أثناءَ الارتحال من القرية إلى المركز.
لقد وظَّفَها كاتبُنا بطَريقةِ الإيماء والتلميح دون التصريح، فالغُولُ إغواءُ المدينةِ
ونداءُ الحضارةِ الذي لا قِبَلَ لأحدٍ بمقاومتِه إن تركَ نفسَه له. وثَمّ تجلٍّ آخَر
لهذا الهَمّ نجدُه في حديثِ زنُّوبة، تلك المرأة التاجِرةِ الواسعة الخبرة بالدنيا
وأهلها في الرِّيفِ والحَضَر، التي تلجأُ إليها آمنةُ بعد أن تترُكَ العملَ في بيت
المأمور فتجدُ لها زنُّوبةُ عملًا في بيتِ فلّاحٍ مُوسِرٍ كانت أمُّ آمنةَ تَخدُمُه
فيما مضى. وأعني بالتحديد حديثَ زنُّوبةَ عن (تبنِّيها) أحدَ أبناء ذلك الفلّاح المُوسِر
بأن أدخَلَته وليدًا بين جسدِها وثوبِها، فتقول: "أدخَلتُه من جيبي وأخرجتُه من
تحت ذيلي فأصبحتُ كأني والدتُه، وأصبح لي عليه حقُّ الأمهات وله عليَّ حقُّ الأبناء".
هذه الالتفاتةُ العابرةُ إلى عادةٍ تبدو غريبةً – على الأقلّ في زماننا – تُطلِعُنا
على ما تمتّع به أديبُنا من بصيرةٍ اجتماعيةٍ من جِهةٍ، وتَخدُمُ غرضًا أهمَّ، إذ نتوصّلُ
بها إلى التعاطُف مع تلك المرأة التي تبدو قويّةً غيرَ مُبالِيةٍ، فهي في الحقيقةِ
تتوسّلُ بمِثلِ هذا الفِعل إلى تعويضِ ما حُرِمَته من نعمةِ الوَلَد. هذا، مع ملاحظةِ
أنّ المرحلةَ العُمريّةَ التي يقرِّرُ أديبُنا أنها تمرُّ بها زمنَ الحدَث الروائيِّ
تجعلُنا نستنتِجُ أنها (تبنَّت) ذلك الولدَ وهي بَعدُ شابّةٌ يُفترَض ألّا تكون قد
يئسَت من الإنجاب، فكأنّها تستبِقُ مصيرَها وتعرفُ قَدَرَها بطَريقةٍ ما، وهو أمرٌ
يتجاوبُ والجوَّ العامَّ للروايةِ الذي تُشيعُ فيه نبرةُ الاسترجاعِ التي تَحكي بها
آمنةُ حكايتَها حالةً من تأمُّل القدَر والنظر في المآل.
هي حالةٌ
نلمحُها من الصفحات الأولى حيثُ يلعبُ أديبُنا على اسمِ القريةِ الحقيقية التي اختارَها
مسرحًا لبداية روايتِه، فيقول: "كان أهل القرية ومَن حولَها يُميلون الألِف قليلًا
ويَذهبون بها نحو الياء، فما أسرع ما أصبح سُبّةً وعارًا يُعابُ به أهلُ القرية، وكيف
لا وقد أصبحَ اسمُها (بين الوركين)". هذا الاسمُ المحرَّف يُلقي بظلالِه على أحداث
الروايةِ، فالجنسُ خارجَ رابطةِ الزواجِ هو الحدَث المركزيُّ المحرِّك للأحداث، وكما
يُحفِظُ الاسمُ "نفسَ البدويِّ الذي لم يتعوّد دُعابةَ القرويين وأهلِ الحضَر"،
أحفظَ وقوعُ هنادي في الفاحشةِ نفسَي أمِّها وخالِها فكانَ موتُها جزاءً مستحَقًّا
من وجهةِ نظرِ الأخير. والجنسُ غيرُ الشرعيِّ كذلك هو موطِنُ الخِلاف بين شِقَّي عالَم
الرواية، فهو عارٌ في بني وركان، لاسيَّما إن نَظَرنا إلى الأنثى التي ارتكَبَته، وهو
مجرّد حدثٍ عابرٍ لا يُتوقَّفُ له كثيرًا في المدينةِ حيثُ مهندسُ الريّ الوسيم. ولعلّ
ارتباطَ الجنسِ بالمَوتِ (موت هنادي) في الروايةِ يتردد في استدعاءٍ آخَر من التراث
الشعبيّ، يتمثّلُ في أغنية "آه يانا يانا من غرامُه يانا. إن كنت احبُّه ما عَلَيْ
ملامَه"، تلك الأغنيةِ التي تنزلُ من نفسِ هنادي منزلةً خاصّةً، وتعني بالنسبة
إلى آمنةَ شيئًا أقربَ إلى رثاءِ هنادي نفسَها مبكِّرا.
بَيدَ
أنّ هناك ملمحًا أهمّ من ملمح الهمّ الاجتماعيّ كما أسلَفتُ الإشارةَ إليه، يتمثّلُ
في جوانبَ معيّنةٍ من شخصيّة آمنةَ، أظنُّها لا يُلتفَت إليها بالقَدر الذي تستحقُّه،
على الأقلّ في التلقّي العامّ لحكايةِ هنادي وآمنة. إنّ آمنةَ تُفيضُ في مواضعَ كثيرةٍ
في الحديثِ عمّا يميِّزُها من أختِها. ومنبعُ هذا التميُّزِ هو المعرفة. وهي ليسَت
مجرَّدَ معرفةٍ بطُرُق المجتمَع المتحضِّر في ممارسةِ الحياة، تلك التي تعبِّرُ عنها
العبارة الفرنسيةُ "معرفةُ الحياة Le Savoir Vivre"، وإنما هي معرفةٌ إنسانيةٌ عامّةٌ طَموحٌ لا تَقنَع بسَقف. ندركُ
هذا من شغف آمنة بمشاركةِ خديجةَ ابنةِ المأمور دروسَها التي كانت تَلَقّاها في البيت،
وتلهُّفِها إلى الاستزادةِ منها. كما نعرفُها من شغفِها بالتسلُّل خُفيةً إلى غرفة
أبناء الفلّاحِ المتعلِّمين لتأخذ كتابًا من كتبِهم "تُخفيه بين جسدِها وثوبِها"
لتطّلِع عليه في الرُّكن الذي تبيتُ فيه من المنزل. لكن مهلًا، ألا تذكِّرُنا هذه العلاقةُ
الجسديّةُ بالكتاب بفِعل التبنّي الذي وَصفَته زنُّوبة؟!
بلى،
إنهما تصِفان إخفاءَ الولدِ المتبنَّى والكتابِ بالألفاظِ نفسِها "بين الجسد والثوب".
وإذَن، فإنّ آمنةَ تبحثُ عن ولدٍ من نوعٍ آخَر، ولدٍ غير بشريّ. تبحثُ عن معرفةٍ تأتنِسُ
بها وتتقوّى في هذا العالَم. ولعلّ هذا الملمحَ أن يكون نقطة الاتصال والانفصال بين
الأختَين هنادي وآمنة ومعهما زنُّوبة. هنادي ذاقَت لذّة الجسَد بين ذراعَي المهندِس،
وحُكِم عليها بالموت جزاءَ هذه اللذة في بيئتِها "الريفية المتبدّية، أو البدوية
الممسوسة بالريف" كما يصِفُها الكاتب. وزنّوبةُ لا يُصرَّح لنا بطبيعة ما ذاقَته
من لذائذ الجسَد، وإن كانت الإشاراتُ تتواتَر إلى أنها قد جَنَت منها الشيءَ الكثيرَ،
ولم يُحكَم عليها بالموت، فهي في النهاية امرأةٌ واقعةٌ على تُخوم الريف والحَضَر،
لا تَسري عليها أحكامُ أيٍّ منهما، لكنّ ما تتلهّفُ إليه من لذائذ الجسَد ولم تذُقه
هو لذّة الأمومةِ التي يكتملُ بها الفردوسُ الجسديّ. وأخيرًا لدينا آمنة، وهذه قُدِّرَ
لها من نعومة أظافرِها أن تستبدِل بلذّة الجسدِ التقليديةِ لذّة المعرفة، كما قُدِّر
أن تَخرُج من عالَم قريتِها أخيرًا إلى غير رجعةٍ، بكلِّ تصوُّراتِه وأحكامِه وقِيَمِه،
وأن تيمِّمَ شطرَ عالَم المدينةِ وتنغمسَ فيه، لكنّها لا تقعُ فريسةَ الإغواء الجسديّ،
وإنما تُناطِحُ إرادةَ المهندِس في نِدّيّةٍ حتى تُجبرَه على احترامِ استقلالِها وإرادتِها.
لكن مهلًا مرّةً أخرى، ألا يذكِّرُنا هذا مرّةً أخرى بسيرةِ مُبدِع الروايةِ نفسِه؟!
أظنُّ
الإجابةَ هنا بالإيجاب، بلى يذكِّرُنا. إنّ
طه حسين نفسَه هو ذلك الشابُّ المكفوفُ
الذي خرجَ من رحِم القرية المصرية غير مسلَّحٍ إلا بحِفظِه القرآنَ وإرادةٍ حديديةٍ
لا يحُدُّ طموحَها ولا توقَها إلى المعرفة شيء. إنه هو الذي اجتذبَته الثقافةُ الفرنسيةُ
التي استعمرَت العقولَ والأهواءَ أكثرَ ممّا استعمرَت البلاد. تلك الثقافةُ التي يبدو
جوهرُ حكمتِها في عبارة "Le Savoir Vivre"، فجاءَت سيرةُ آمنةَ
صدىً لهذه العبارة، وجاءَ وصفُها المنبهر بدروس اللغة الفرنسيةِ مصداقًا لهذا التوازي
بين السِّيرَتين: الخيالية الأنثوية/ والحقيقيةِ الخاصّة بمُبدع الشخصية. ثُمّ ألا
يمكنُنا أن نرى في ملمح العلاقة الجسديّةِ بالكتاب - تلك المبنيّة على حاسّة اللمسِ
لا البصَر – صدىً لحالة أديبِنا نفسِه، كَونَه مكفوفا؟
إنّ
هناك إلحاحًا غريبًا في الرواية على وَسم جِهَتَي القرية والمركز بالغرب والشرق على
الترتيب. لقد قضَت هنادي نحبَها "في الغرب"، وارتحلَت آمنةُ هاربةً من بيتِ
أسرتِها صوبَ الشرق. والحَقُّ أنّ أهلَ ريفِ مصر في الوادي والدلتا يتميّزُون فِعلًا
عن القاهريِّين بانتباهِهم إلى الجهات في حديثِهم عن الأماكن، لكنّ قارئ الروايةِ قد
يتّفقُ معي في أنّ فيها إلحاحًا على هذه النقطة بالتحديد. وفي رأيي أنّ أديبَنا ربما
يكونُ قد احتالَ هذه الحِيلةَ ليلبِّسَ علينا الجهاتِ الحقيقيةَ للعالَم الكبير الذي
تقِف روايتُه رمزًا عليه إذا صدقَت مزاعِمُ هذه القراءة. إنّ الواقعَ أنّ آمنةَ قد
ارتحلَت من
ثقافة الشرق إلى ثقافة الغرب مِن وجهة نظر الكاتب. ارتحلَت من ثقافة
"بين الوركين" المغلَقة المحدودة بالوَرِكَين إلى عالَم "معرفة الحياة"
تبعًا للرؤية الفرنسية. وهي لم ترتحِل والحنينُ يحرِّكُها إلى ما تركَته وراءَها، وإنما
ارتحلَت كارهةً إيّاه، محمَّلَةً بزادٍ معرفيٍّ جمَعته ممّا أُتيحَ لها من الاتّصال
سابقًا بتلك الثقافة الغربية في بيت المأمور، فلمّا استقرّ بها المُقام في بيت المهندِس
(الغرب) كانت له نِدًّا لا فريسةً كأختها.
هكذا
يبدو أنّ طه حسين قد جعل من آمنةَ معادلًا روائيًّا لسِيرتِه الشخصيّة والمكانة التي
رأى أنه يتميّز بها عن قومِه. لقد ارتحلَ إلى فرنسا قلعة الغرب محمَّلًا بما يجعلُه
نِدًّا لأهلِها، وهناك عَملَ جاهدًا على إثباتِ أنه ذلك النِّدّ، فوقفَ موقفَ الناقِد
البصير من مُنجَز الآداب الأوربية، وبغضّ النظر عن أنه ظلَّ إلى النهاية مؤمنًا بضرورة
تقارُب الشرق والغرب ليكتسب الشرقُ حياةً جديدةً، فإنه كان يحلُم بشَرقٍ قويٍّ يستطيعُ
الوقوفَ للغَرب نِدًّا يُجبرُه على احترامِه، بديلًا عن الشرق المتهالِك الذي سقطَ
فريسةً للغرب في أول صِدامٍ حضاريٍّ بعد الحملات الصليبية، تمامًا كما أرادَ لآمنةَ
أن تُجبر المهندسَ على الانصياع لإرادتِها بعد أن سقطَت هنادي فريسةً لإغوائه. ويظلُّ
الكروانُ في الرواية شاهدًا سرمديًّا على ما يَحدثُ بين الشرق والغرب من مناوَشات.
كما تظلّ هذه مجرّدَ قراءةٍ بين قراءاتٍ كثيرةٍ محتمَلةٍ للنصّ، خاضعةٍ لتحيُّزاتي
وخبراتِي المعرفية المتواضعة، وللقارئ بالطبع أن يختلف معها أو يتّفق.