تقارير

حمل المسلمين على نسق ديني واحد.. توجه صائب أم غلو في الدين؟

يسعى بعض أتباع الاتجاهات الدينية الإسلامية إلى حمل عامة المسلمين على نسق ديني واحد.. هل هذا ممكن؟
يسعى بعض أتباع الاتجاهات الدينية الإسلامية إلى حمل عامة المسلمين على نسق ديني واحد، اعتقادا منهم أنه الحق الذي يجب اتباعه، خاصة في قضايا الاعتقاد، وما يرجحونه من اختيارات فقهية يعدونها الأقوى دليلا، وهو ما يعارضه متدينون آخرون ويصفونه بالغلو والتشدد.

غالبا ما يستدعي الذين يعارضون ذلك التوجه موقف الإمام مالك بن أنس حينما أراد الخليفة أبو جعفر المنصور ثم الرشيد من بعده أن يختارا مذهب الإمام مالك، وكتابه الموطأ قانونا قضائيا للدولة، فنهاهما عن ذلك وقال "إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان".

ووفقا لباحثين في العلوم والدراسات الشرعية فإن حمل عامة المسلمين على نسق ديني واحد، يتعارض مع طبيعة الأدلة الشرعية، لا سيما الظني منها سواء من جهة ثبوته أو ودلالته، ولا يتوافق مع تفاوت ما تُنتجه عقول المجتهدين الناظرين في الأدلة الشرعية، إذ تتنوع اجتهاداتهم، وتتباين أفهامهم لتلك الأدلة، ما ينتج عنها أفهاما مختلفة، واجتهادات متعددة.

وعادة ما تُثار في هذا السياق مسألة هل الحق واحد أم متعدد؟ وهو ما أوضحه الباحث السوري المتخصص في الفقه وأصوله، أحمد زاهر سالم بالقول "الحق واحد لا يتعدد، والمصيب في العقليات والمعتقدات واحد (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، (ذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنّى تصرفون)".


                                أحمد زاهر.. باحث سوري متخصص في أصول الفقه

وأضاف: "وذهب جمهور العلماء إلى أن المصيب في فروع الدين والمسائل الفقهية التي ليس فيها دليل قاطع من نص أو إجماع واحد أيضا، وأن لذلك حكما واحدا عند الله تعالى من وافقه وهو من أهل الاجتهاد المتحققين برتبته كان مصيبا حائزا للأجرين، أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ومن أخطأه كان له أجر واحد أجر الاجتهاد فقط".

وتابع لـ"عربي21":  "واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)، فهذا هو الحكم الأصولي للمسائل الفقهية والعقدية أو قل: لأصول الدين وفروعه".

ووفقا لسالم فإن "المصيب واحد في أصول الدين وقضاياه القطعية، وفي مسائله الفقهية الفروعية الظنية، ولكن الفرق بين الأمرين أن من خالف هذا الحق الواحد أو لم يوفق لإصابته في العقائد فهو آثم مبتدع أو كافر، ومن خالفه في المسائل الفرعية الظنية فهو مأجور أجرا واحدا".

واستدرك: "ولكن كل إمام فقيه اجتهد فحكم الله في حقه وحق من يقلده ما أدّاه إليه اجتهاده، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا ينكر الأمر المختلف فيه وإنما ينُكر الأمر المجمع عليه، ولا يُلزّم الناس برأي فقهي واحد ولا بمذهب واحد، ولا بنسق معيشي ديني واحد، ولنا في قصة الإمام مالك مع الخليفة العباسي عبرة وعظة".

وأورد ما قاله الإمام مالك "لما حج أبو جعفر المنصور دعاني، فدخلت عليه، فحدثني وسألني، فأجبته، فقال: إني عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها – يعني الموطأ – فتُنْسخ نُسخا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدونه إلى غيره، وَيَدَعُوا ما سوى ذلك من هذا العلم المُحْدّث، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم".

وأكمل ما قاله مالك للمنصور، فقلت "يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، إن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم، وإنَّ ردَّهم عما اعتقدوا تشديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كل بلد منهم لأنفسهم"، فقال: لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرت به".

وخلص سالم إلى القول: "وهذا الدين الرباني كلمة الله الأخيرة والفضلى للعالمين في كل مكان وزمان، وكل الأحكام الشرعية مرتبطة بالكتاب والسنة نصا أو استنباطا، فمن حكمة الله أن جعل أكثر نصوصهما ظنية محتملة لتعدد الأفهام الاجتهادية، فلو أراد حمل الناس على نسق معين، وطريقة تدين واحدة لجعل النصوص قاطعة في معناها صريحة في مدلولها".

وتابع: "لكنه سبحانه وتعالى أراد السعة على العباد والرحمة بالخلق، ومراعات اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وطبائعهم وبلادهم"، مرجعا توجهات من يريد حمل عامة المسلمين على نسق ديني واحد إلى "ضيق الأفق، وصبغ الدين بالصبغة النفسية الشخصية، والتأثر بالاستبداد السياسي السائد".

وفي ذات الإطار أوضح الداعية اليمني، عبد الله النهيدي أنه "من خلال تتبع أصول الشريعة تبين مراعاتها لاختلاف الناس، خصوصا باب المعاملات، وفروع الشريعة كلها ترسخ مبدأ مرونة الشريعة واتساعها لكل المتغيرات، فالثبات في الشريعة جاء في أصول الدين، والشمول جاء في التوسعة على الناس في الفروع".


                                                عبد الله النهيدي.. عالم يمني.

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "من خلال تتبع قضايا الخلاف التي حصلت بين الصحابة في فهم النصوص، وتنزيلها تبين أن الشريعة ترسخ التنوع، وقد اختلف الصحابة، واختلف من بعدهم التابعون، واختلف الفقهاء من بعد التابعين، وترسخت المذاهب، وبدأ ترسيخ هذا المبدأ منذ أن قال عليه الصلاة والسلام "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" ومعروف ما جرى بين الصحابة من الاختلاف في ذلك، وإقرار الرسول لهم وعدم تعنيفه لهم.

وأكمل: "وعندما قرأ أحد الصحابة آية، وقرأ عمر بن الخطاب على خلافه اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف أيا منهما، وقال (كلاكما مصيب، ولا تختلفا)" وسار على ذلك الصحابة، بل إن عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب محمد لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن لنا رخصة.. ومعروفة كذلك قصة الإمام مالك مع أبي جعفر المنصور".

وطبقا للنهيدي فإن "هذا ما درج عليه كل أئمة الإسلام، فإن يسر الشريعة وسعتها هو في استيعابها لكل المتغيرات، وأفهام الناس، بل أكثر من هذا فإن الشريعة تراعي حتى ميول الإنسان الشخصية، أو قل تكوينه الفطري" مستشهدا بما ورد في قضية أسرى بدر حيث كان رأي أبي بكر يميل للين والسماحة، ورأي عمر يميل للشدة والعقوبة.. والملاحظ هنا أنه كان للتكوين النفسي أو الفطري أثر في اتخاذ الرأي".

وفي ذات الإطار قال الأكاديمي المغربي، المتخصص في أصول الفقه ومقاصد الشريعة، الدكتور محمد رفيع "اختلف الأصوليون فيما اصطلحوا عليه بمسألة التخطئة والتصويب عند اختلاف المجتهدين بين قائل بأن الاجتهاد دائر على الخطأ والصواب، وأن الصواب متعين، وهم الجمهور، وبين قائل بأن كل مجتهد مصيب لأن الصواب غير متعين".


                                               محمد رفيع.. باحث مغربي

وأردف "والمقصود أن الرأي الصواب في لحظة زمنية ومكانية وحالية ما، لا يمكن أن يتعدد، لكن إذا حصل تغير في الزمان أو المكان أو الحال قد يصبح الرأي الخطأ السابق صوابا مناسبا، وهكذا، وكل ذلك في سياق تشريعي فقهي اجتهادي، مع تقديرهم للرأي المخالف المصنف خطأ، لكونه اجتهادا مأجورا، والدليل على ذلك الشاهد الفقهي والكلامي في التراث الإسلامي القائم على التعددية المذهبية المتعايشة".

وردا على سؤال "عربي21" عن واقع التطبيق الإسلامي في الوقت الراهن في ضوء ما سبق ذكره لفت رفيع إلى أن "مجرى سلوك عدد من المتدينين في تدبير التعددية في الرأي، وفي المذهب على خلاف هذا المفهوم الأصولي لتعددية الرأي الاجتهادي، حيث يستميتون في حمل الناس على رأي واحد ومذهب يرونه، ويرفضون أي رأي مخالف، وقد يصنفونه رأيا ضالا مخالفا للشرع".

وأرجع ذلك إلى "ضيق الأفق المعرفي عند القوم، وقلة زادهم من الوعي الشرعي، ووقوع الكثير منهم ضحية تزييف الوعي الشرعي، مع القصور الشديد في إدراك الواقع المعاصر ومقتضياته، فهم يجهلون أن الاختلاف في الرأي والاجتهاد والمذهب سنة كونية بمقتضى إرادة الله الكونية، وسنة شرعية وفق إرادة الله التشريعية، ذلك أن الله أقام شرعه على كليات محكمات محدودة، بمثابة المرجعية المعيارية للاختلاف".

وأنهى كلامه بالإشارة إلى أن "مساحة الظنيات واسعة ممدودة، وهي تشكل مجالا واسعا للاجتهاد والاختلاف، لأن الشريعة تسع الناس جميعا مهما اختلفوا زمانا ومكانا وأحوالا وطبائع، فقرر الحق سبحانه أصولا مرجعية، وأحال على الاجتهاد الزمني في التفاصيل، في قوله (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)".