ذهب مؤرخو الانتفاضة الأولى (انتفاضة 1987) ومسجّلو وقائعها، فضلًا عن تقريرات السياسيين والمراقبين إلى أنها امتدّت ست سنوات، وانتهت مع التوقيع على اتفاق
أوسلو والمشروع في تطبيقه، على اعتبار أنه (اتفاق أوسلو) طوى صفحتها وكان خاتمتها الذي أجمل ما اعتبره البعض الاستثمار السياسي الممكن لها!
لكننا نختلف مع هذا التقييم رغم ما حظيَ به من شيوع وانتشار وتعميم واسع يكاد يغدو مسلّمة راسخة يُعتبر نقضها – كما نفعل هنا – مستهجنًا ومستغربًا، وربما صادمًا لكثيرين. ولإيضاح ما نذهب إله نورد حججنا فيما يلي:
1- خاصية الدحرجة: كان من أهم مميزات الانتفاضة (1987) خاصية "الدحرجة" وتعني الانتقال بالحدث الانتفاضي من طور إلى طور آخر أكثر تقدّمًا وجرأة وإبداعًا. فقد كان المظهر الأساسي في شهور الانتفاضة الأولى، هو خروج الحشود المتحدية بالهتافات التي تذهب للاحتكاك بقوات
الاحتلال ورجمها بالحجارة، وقد أصبح هذا الفعل بالتحديد هو ما منح (انتفاضة 1987) عنوانها ورمزها الساحر، وكأن
الفلسطينيين أنتجوا ولأول مرة نموذجهم الخاص بهم الذي يحمل خصائص تجربتهم الخارجة من ترتبهم المحلية: "صنع في فلسطين"! بعد أن حاولت تجربتهم السابقة التي انطلقت في 1965 استعارة نماذج من تربة أخرى غير تربتهم، على وجاهتها وأهميتها.
وعلى ضفاف الحشود الشعبية التي كانت ترجم بالحجارة؛ نشأت ما كانت تسمّيه بيانات "القيادة الوطنية الموّحدة" بـ"القوات الضاربة". أما بيانات حماس فقد سمّتها "السواعد الرامية"، وكان عمادها الشبّان الصغار الملثّمين الذين تقع على عاتقهم فعاليات أيام التصعيد النهارية أو الليلية، والتي كانت تصطدم مباشرة بقوات الجيش أو باعتراض سيارات المستوطنين... ومع مرور الأيام سرعان ما أخذت هذه القوات الضاربة والرامية نوعًا من الصيَغ الميلشياوية، فبالنسبة لحركة "فتح" التي كانت الأكثر حيوية ودينامية من حيث إنشاء تشكيلاتها المختلفة مثل "كتائب الشهيد أبو جهاد" أو "الجيش الشعبي" ، أو "الفهد الأسْود" الذي عُرف في شمال الضفة الغربية ، أو "صقور فتح" في قطاع غزة، وعرفت منطقة رام الله مسمّى "الأسد المُقنّع". وأخذت هذه التشكيلات تلبس زيًّا موحّدًا، ونشطت فعاليّاتها الأساسية آنذاك في الداخل الفلسطيني أساسًا، كالقيام بالاستعراضات أو الكتابة الليلية على الجدران أو إصدار البينات التحريضية وتوزيعها وإذاعتها أو فرض الإضرابات، وحتى وجدنا فعاليّات الجانب الأخطر والأكثر حركية منها، كـ"الفهد الأسْود" و"صقور فتح" تتخصص في استهداف المشبوهين والعملاء، وليس بالضرورة مع صانعي العملاء (الاحتلال) وكان هناك جزء يسير منها له علاقة مباشرة بالمسّ بالاحتلال.
وعلى منوال "فتح" شيّدت الجبهة الشعبية "النسر الأحمر" أما الجبهة الديمقراطية فاتّخذت مسمّى "النجم الأحمر". أما حركة حماس فيكاد يكون تطوّرها على هذا الصعيد العصابي الأخير، عندما أعلنت تشكيلها العسكري "كتائب الشهيد عز الدين القسّام" مع مطلع عام 1992 التي ورثت مسارا عسكريًّا وأمنيًّا وحركيًّا، أخذ بالاتساق عبرها والمضيّ بها بكل جدّية "استحوذت فيها على الانتباه"، بحسب تعبير أحد المراقبين الأكاديميين الفلسطينيين المهمّين، وهو يُعلّق على عمليات كتائب القسّام مع نهاية عام 1992، التي انتهت بالإبعاد الكبير لقيادات وكوادر الحركة الإسلامية إلى جنوب لبنان (مرج الزهور)، وإن أي دارس وباحث مدقّق سيلحظ ذلك الخيط المتدحرج منذ عام 1987 وحتى اليوم بالرغم من كل التعرّجات السياسية المعاكسة، وهو ما سوف نوضحه هنا.
2- الانتفاضة نمط حياة: إن الفعل الانتفاضي الذي انفجر في أواخر 1987 كان من ذلك النوع الذي ينطوي على شحنة ثورية عالية وعاتية لها خاصية الاندفاع والسير نحو الأمام وعدم الالتفات إلى الخلف، وهي خاصيّة عرفتها الثورات الكبيرة في التاريخ. ورغم ما طرأ من عوامل تآكل داخلي حاولت سلب الظاهرة الانتفاضية روحها، تمثّل ذلك بصورة جليّة في طريقة القيادة الرسمية الفلسطينية في الاستثمار السياسي لها، كما تمخّضت عنه اتفاقات أوسلو، غير أن "الانتفاضة" كظاهرة تحمل داخلها خاصية تجديد نفسها، برهنت أنها ماضية وغير متوقفة، بل اكتسبت قدرة على التكييف والتطوّر والتدحرج، بالرغم من أن إعلانات إيقافها وطيّ صفحتها بين فترة وأخرى.
وبما أن الاحتلال بمظاهره وتجلّياته يزداد ويستطيل ويتغوّل بالرغم من أوسلو، بل إنه أخذ دفعة قوية متلفّعًا بأوسلو، فإن وسائل مواجهته هي الأخرى ظلّت مواكبة له منتجة نمط عيش وحياة، كما لم يسبق من قبل أوسلو، واشتدّت الرقابة على المعابر وتطوّرت، بل إن عنف الاحتلال تصاعد أضعاف مضاعفة على الحواجز العسكرية، أو حدوث وفيات للمرضى عليها، بسبب منعهم من الوصول للمستشفيات في الوقت المناسب، وطيلة هذه الأعوام لم تتوقف ظاهرة المطاردين (المطلوبين-Wanted) بل نجد الظاهرة تتطور في العام الأخير إلى مجموعات وليس أفرادًا كما عليه الحال في "عرين الأسود" الذي ورِث "الفهد الأسْود" في نابلس، أو "كتيبة جنين" وما تناسل عنها من كتائب هنا وهناك من شمال الضفة الغربية.
وعرفت مدينة نابلس بالتحديد (كمدينة شاميّة نموذجيّة تعيش تحت احتلال مستطيل) إنتاج وإعادة إنتاج بطلها الشعبي باستمرار، وإن كان بطلها الشعبي في نسخته الأخيرة يظهر هذه المرّة بصورة مجموعة، وليس شخصًا بعينه. أما عن مظاهر ارتقاء الشهداء وحملات الاعتقال اليومية والمواجهات بالحجارة أو المولوتوف، أو السكين التي تطوّرت إلى صورة الاشتباك، بل ازدادت وتكثّفت مقارنة بما كانت عليه في سنوات الانتفاضة الأولى.