مهما
كان موقفنا من المشروع السياسي للرئيس
قيس سعيد، ومهما كان توصيفنا لإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 ومخرجاتها، فإننا لا يمكن أن نختلف في أن حاكم قرطاج قد أعاد هندسة المشهد
التونسي
بصورة لم تكن تخطر ببال أكثر العقول سريالية. فقد أثبت الرئيس تهافت
"الاستثناء التونسي" وهشاشة الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا، كما
أثبت قابلية أغلب الأجسام الوسيطة للانقلاب على منجزها الهزيل ذاته المتمثل في
مأسسة بعض أهداف الثورة ودسترها. لقد أكدت "خارطة الطريق الرئاسية" عجز
الجميع عن مواجهة السلطة رغم فقدان الرئيس لشرعيته الشعبية بصورة كبيرة (الأمر
الذي أكدته الانتخابات البرلمانية الأخيرة)، ورغم وعي النخب يمينا ويسارا بأن تلك
الخارطة -في صورة نجاحها- ستؤدي بالضرورة إلى نفي الحاجة إليهم في إدارة الشأن
العام.
إن
احتكار الرئيس للإرادة الشعبية وهيمنته على مختلف السلطات وتواصل العمل بمنطق
المراسيم والأوامر غير القابلة للطعن أمام أية جهة رقابية، قد مكّنه من تطويع جميع
أجهزة الدولة لخدمة هذا "المبدأ التوليدي" للتأسيس الثوري الجديد، ووضع
المعارضة -بل الموالاة النقدية ذاتها- أمام مشهد سلطوي لا مكان لهم فيه إلا
الاستهداف القضائي المُمنهج (قضايا فساد وتآمر على أمن الدولة) أو الاستلحاق
الوظيفي بالسلطة دون الطمع في دور الشريك السياسي أو الاجتماعي في صنع القرار
السيادي.
أعظم ما نجح فيه الرئيس التونسي هو استثمار الصراعات البينية داخل المعارضة وتوظيف الخطابات الهوياتية التي دمرت الانتقال الديمقراطي لفرض مشهد سياسي جديد يُجمع كل الفاعلين الجماعيين فيه (بما في ذلك المعارضة الجذرية) على استحالة العودة إلى الوراء، على الأقل بالصورة التي كان عليها
ولعلّ
أعظم ما نجح فيه الرئيس التونسي هو استثمار الصراعات البينية داخل المعارضة وتوظيف
الخطابات الهوياتية التي دمرت الانتقال الديمقراطي لفرض مشهد سياسي جديد يُجمع كل
الفاعلين الجماعيين فيه (بما في ذلك المعارضة الجذرية) على استحالة العودة إلى
الوراء، على الأقل بالصورة التي كان عليها.
تكمن
أهمية سردية "اللا عودة إلى الوراء" في أنها تجعل الخطاب السياسي للرئيس
هو الخطاب المرجعي لمختلف الفرقاء سواء أكانوا من الموالاة النقدية أم من المعارضة
الجذرية. ونحن لا نتحدث هنا عن أولئك الذين يناصرون الرئيس بصورة لا مشروطة
ويعتبرونه حاملا لبديل سياسي كامل. فهؤلاء لا موقف لهم إلا ما يرتضيه الرئيس وهم
قادرون على تبرير الشيء وضده دون أي حرج من التناقض، فما يهمهم هو إظهار الولاء للشخص/
المشروع وعقلنة خياراته باعتباره بديلا مطلقا للمنظومة السابقة (منظومة
"العشرية السوداء").
ولذلك
فإن "اللا عودة إلى الوراء" عندهم تعني القطع مع
الديمقراطية التمثيلية
وأجسامها الوسيطة ونظامها السياسي القائم على هيمنة الأحزاب والفصل بين السلطات،
كما تعني "اللا عودة إلى الوراء" مركزة السلطة بين يدي الرئيس
و"الالتفاف حوله" -كما قال وزير الداخلية- ضد أعداء الدولة والشعب في
الأحزاب والإعلام والنقابات، أي ضد خصوم النظام وخياراته السياسية والاقتصادية ولو
كانوا من الموالاة النقدية كما هو حال
اتحاد الشغل.
ولو
أردنا اختزال معنى "اللا عودة إلى الوراء" في هذه السردية السلطوية
لقلنا إنها تعني الدفاع عن النظام الرئاسوي الذي تهيمن عليه النواة الصلبة
للمنظومة القديمة (المركّب الجهوي- المالي- الأمني)، بعيدا عن أي سلطة منافسة قد
تمثلها الأحزاب والمنظمات المدنية والإعلام والشركاء الاجتماعيون. ولذلك فإن
المعارضة لهذه السردية الأولى لا تأتي فقط من المعارضة الجذرية بل تأتي أيضا من
الموالاة النقدية. فهذه الموالاة التي يمثلها اتحاد الشغل والكثير من مكونات
المجتمع المدني (منظمة حقوق الإنسان والمنظمات النسوية ونقابة الصحافيين.. الخ)
كانت من أكبر المساندين للرئيس، بل ما زالت تعترف بشرعية إجراءاته (أو انقلابه كما
تسميه المعارضة الجذرية) وتتبنى سردية اللا عودة إلى الوراء، لكن بمعنى مختلف عن
المعنى الذي يُحرّك الرئيس وأنصار مشروعه السياسي.
لقد
كانت الموالاة النقدية تتوقع مسارا تأسيسيا مختلفا، مسارا يقطع مع النظام
البرلماني المعدل (ومع حركة النهضة)، ولكنه مسار يضمن لها ولحلفائها في
"الأحزاب الديمقراطية" موقعا في صناعة القرار. إننا في حضرة "أفق
انتظار" انتهازي تفننت السلطة في إظهار بؤسه وطوباويته، ولكنّ أصحابه ما زالوا
-إلى هذه اللحظة- مصرّين على موقع الولاء النقدي وعدم القطيعة مع النظام القائم
وإظهار تمايزهم الجذري عن المعارضة بقيادة جبهة الخلاص، الأمر الذي يجعلهم واقعيا
حلفاء موضوعيين للرئيس مهما بلغت انتقاداتهم السياسية والحقوقية.
إننا في حضرة "أفق انتظار" انتهازي تفننت السلطة في إظهار بؤسه وطوباويته، ولكنّ أصحابه ما زالوا -إلى هذه اللحظة- مصرّين على موقع الولاء النقدي وعدم القطيعة مع النظام القائم وإظهار تمايزهم الجذري عن المعارضة بقيادة جبهة الخلاص، الأمر الذي يجعلهم واقعيا حلفاء موضوعيين للرئيس مهما بلغت انتقاداتهم السياسية والحقوقية
قد
يبدو من التناقض أن تتبنى المعارضة الجذرية ذاتها سردية "اللا عودة إلى
الوراء" التي تقرّ من طرف خفي بمشروعية 25 تموز/ يوليو وشرعية الإجراءات الرئاسية في ذلك اليوم. ولكنّ التناقض يرتفع إذا ما
قرأنا هذا الموقف باعتباره ضربا من الواقعية التي فُرضت على المعارضة بعد أن تبنت
لفترة من الزمن موقف عدم الاعتراف المطلق بإجراءات الرئيس، مناديةً بالعودة إلى
الشرعية. فبحكم استحالة عودة مجلس النواب لاستكمال عهدته، أصبح سقف المعارضة
الجذرية هو اجتماع المجلس بصورة مؤقتة للدعوة إلى انتخابات برلمانية ورئاسية سابقة
لأوانها، مع البحث -مع الشركاء السياسيين والاجتماعيين- عن صيغة لإدارة المرحلة
الانتقالية بعيدا عن قصر قرطاج.
ولا
شك في أن هذا الطرح يعترف باستحالة العودة إلى الوراء، بل هو يمهّد لتغييرات جذرية
في النظام السياسي (لا وجود لاعتراض مبدئي على النظام الرئاسي ولا على مشاركة
"أنصار الانقلاب") لكن تحت سقف دستور 2014.
ولو أردنا اختزال هذه السردية الثالثة في مقولتها الأهم لقلنا إنها ترفض
"التأسيس الجديد" باعتباره مشروعا سياسيا لا يقبل الشراكة، وتدعو إلى توسيع
دائرة التوافق مع القبول بإدخال تعديلات جوهرية عليه، سواء من جهة النظام السياسي
أو النظام الانتخابي. ولكنّ "كعب أخيل" في هذا الطرح يتمثل في سوء سمعة
التوافق عند عموم الشعب التونسي وبؤس التسويات التي أنتجها قبل 25 تموز/ يوليو 2021.
فالتوافق بين النهضة وورثة المنظومة القديمة (بجناحيها السياسي والنقابي) قد أفشل
الانتقال الديمقراطي في المستوى السياسي، وجعل الانتقال الاقتصادي مجرد حلم من
أحلام اليقظة.
لفهم
عبثية المشهد التونسي واستحالة الوصول إلى حل للأزمة في المدى المنظور، نستطيع أن
نكتفيَ بمبادرة "الإنقاذ" التي يقودها الاتحاد العام التونسي للشغل.
فهذه المبادرة التي تتحرك تحت سقف "تصحيح المسار" وتعترف بشرعيته وترفض
العودة إلى الوراء (أي إلى دستور 2014 والنظام البرلماني المعدل) تواجه برفض رئاسي
صريح، ولكنها ما زالت محل ترحيب من المعارضة الجذرية أو على الأقل لم تواجه برفض
صريح من الطرف الذي لا يضيع النقابيون فرصة لشيطنته والتبرؤ منه. كما أن العبثية
تظهر في خطاب الاتحاد الذي يتحدث عن أولوية الاجتماعي والاقتصادي على السياسي،
وضرورة خلق الثروة لحل الأزمة. فهذا الاتحاد نفسه هو من ابتز كل الحكومات
المتعاقبة بعد الثورة وفرض عليها توجيه الميزانية العمومية والقروض الخارجية،
للتأجير لا لخلق الثروة، وهو الذي عطّل الإنتاج في أهم المنشآت العمومية خدمةً
لحلفائه السياسيين في الداخل والخارج. ولكنه الآن لا يجد أي حرج في التملص من
مسؤوليته المؤكدة على بؤس "العشرية السوداء" ولا يعتبر نفسه معنيا بخطاب
القطيعة معها.
الرئيس يعتبر نفسه بديلا لا شريكا، وهو يعادي كل الأجسام الوسيطة المهيمنة على الديمقراطية التمثيلية ولا يفاضل بينها إلا بصورة تكتيكية ومؤقتة. ولذلك فإن مواجهته للاتحاد العام التونسي للشغل وغيره من مكونات الموالاة النقدية هو أمر متوقع، كما أن استهدافه للمعارضة الجذرية هو أمر لا مهرب منه بمنطق السلط
ختاما،
فإن قدرة الرئيس إلى حدود هذه اللحظة على فرض خارطة طريقه (وآخر محطاتها المرتقبة
هي حل البلديات وإدارتها بنيابات خصوصية تعيّنها السلطة إلى حين تشكيل مجالس
الأقاليم والجهات) ترجع في جزء منها إلى أنه يحمل السردية الأكثر منطقية والأقل
تناقضا، بالمقارنة مع سرديتي الموالاة النقدية والمعارضة الجذرية.
فالرئيس
يعتبر نفسه بديلا لا شريكا، وهو يعادي كل الأجسام الوسيطة المهيمنة على
الديمقراطية التمثيلية ولا يفاضل بينها إلا بصورة تكتيكية ومؤقتة. ولذلك فإن
مواجهته للاتحاد العام التونسي للشغل وغيره من مكونات الموالاة النقدية هو أمر
متوقع، كما أن استهدافه للمعارضة الجذرية هو أمر لا مهرب منه بمنطق السلطة.
فالإشكال
ليس في الرئيس الذي أعلن منذ حملته الانتخابية أنه بديل وليس شريكا لمن هم في الحكم
والمعارضة، بل الإشكال في أولئك الذين ينادون بـ"اللا عودة إلى الوراء"
ثم يطلبون منزلة "الشريك الاجتماعي" (امتيازات السلطة وشرف المعارضة)،
ويحلمون بدورٍ سياسيٍ كانوا قد تعوّدوا عليه زمن الترويكا والتوافق. كما أن
الإشكال هو في المعارضة الجذرية التي لم تستطع إلى الآن توصيف الواقع توصيفا
موضوعيا بعيدا عن منطق الرغبة وعن النزعة الاختزالية التي تحصر المشكلة في الرئيس وتتجنب
مواجهة النواة الصلبة للحكم وحلفائها الموضوعيين (خاصة اتحاد الشغل وأغلب مكونات
المجتمع المدني)، وهو ما يجعل من تلك المعارضة -في أفضل الأحوال- مجرد مشروع للحكم
الديمقراطي الصوري الذي تهندسه واقعيا وتحدد سقف تحرّكه "السيادي"
مكوّناتُ المنظومة القديمة ورُعاتها الإقليميين والدوليين.
twitter.com/adel_arabi21