بعد
اثني عشر عاماً في رئاسة جهاز
الأمن العام اللبناني قادماً من فرع مخابرات الجيش
في الجنوب وقبله من قسم مكافحة الإرهاب، أنهى اللواء عباس إبراهيم في 2 آذار/ مارس
رحلته الطويلة في أقبية أجهزة المخابرات اللبنانية التي امتدت قرابة ثلاثين سنة.
ورغم خلفيته العسكرية الأمنية، إلا أنه لعب دوراً بارزاً في التسويات المحلية
والإقليمية، بل وحتى الدولية، ليدخل بذلك عالم السياسة اللبناني من أوسع أبوابه
وفق ما تُلمح إليه طموحاته.
الأمن الدبلوماسي
لم
يكن لبنان بمنأى عن تداعيات الثورة السورية، فمع اصطفاف
حزب الله -الحزب الشيعي
الأكبر في لبنان- إلى جانب نظام بشار الأسد بمقدراته العسكرية واللوجستية، صُنف
شيعة لبنان كلهم كمؤيدين للنظام ومذابحه التي تصاعدت شيئاً فشيئاً منذ عام 2011.
ولذا، كانت قوافلهم العابرة للأراضي السورية نحو العراق لزيارة المراقد والمقامات
هدفاً لعمليات الخطف والاحتجاز، ما شكل فرصة للواء إبراهيم ليحقق أولى إنجازاته
خارج لبنان ويكرس دوره الدبلوماسي في لبنان والمنطقة بالتفاوض مع الخاطفين
والإفراج عن المحتجَزين.
هذا الدور تعاظم وبرز أكثر خلال المرحلة الأخيرة من سنوات خدمته في الأمن العام، حيث كان عراب صفقة تأمين الوقود بين بيروت وبغداد لتشغيل معامل الكهرباء، وبين بيروت ودمشق لإعادة النازحين السوريين إلى مناطق النظام السوري. ولعل أبرز محطاته الدبلوماسية كانت خلال جولات التفاوض على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، حيث استثمر علاقته بالمفاوض الأمريكي آموس هوكشتاين
لكن
هذا الدور تعاظم وبرز أكثر خلال المرحلة الأخيرة من سنوات خدمته في الأمن العام،
حيث كان عراب صفقة تأمين الوقود بين بيروت وبغداد لتشغيل معامل الكهرباء، وبين
بيروت ودمشق لإعادة النازحين السوريين إلى مناطق النظام السوري. ولعل أبرز محطاته
الدبلوماسية كانت خلال جولات التفاوض على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان
وإسرائيل، حيث استثمر علاقته بالمفاوض الأمريكي آموس هوكشتاين في هذا الملف.
نحو الجانب المظلم
عند
الحديث عن اللواء عباس إبراهيم وأدواره الأمنية والدبلوماسية المحورية التي لعبها
في لبنان والخارج، فإن الجانب المظلم من هذا الدور يطفو على سطح المشهد، بل ويكاد
يغلب عليه. ففي السنوات الأخيرة، برز اسم جهاز الأمن العام في لبنان ليكون الأكثر
قسوة بين أقرانه من أجهزة الأمن اللبنانية، متقدماً على جهاز مخابرات الجيش. فخلال
سنوات إدارة اللواء إبراهيم للأمن العام، ارتبط اسم الجهاز بسياسة الأمن الاستباقي
في لبنان، العنوان الذي رغم جاذبيته إلا أنه اشتمل على سياسات تعسفية عانت منها
فئة محددة من اللبنانيين، هم السُّنَّة!
فاللواء
إبراهيم عُرف بعلاقته الجيدة بالثنائي الشيعي في لبنان: حزب الله المهيمن على
البلاد، ومنافسته في الشارع الشيعي حركة أمل، رغم أن شريحة ليست بالقليلة من
الشيعة يعارضون خيارات هذا الثنائي. ولأن الملفات الساخنة في لبنان لا يمكن فصلها
عن الاصطفاف الطائفي، فقد برز السنة على اختلاف توجهاتهم وتياراتهم كحلفاء طبيعيين
للثورة السورية، فيما كان حزب الله وأمل حلفاء طبيعيين لنظام الأسد.
وفي
ظل تراجع الثورة السورية ميدانياً، صب جهاز الأمن العام برئاسة عباس إبراهيم
سياساته الأمنية على النشطاء المؤيدين لثوار سوريا، وهم بطبيعة الحال من السنّة.
فبات من المعتاد في لبنان أن يعتقل الأمن العام مؤيدي الثورة السورية لأجل صورة أو
مقطع مصور أو أنشودة، كما دأب على التضييق على هؤلاء النشطاء حتى بعد الإفراج عنهم
من السجون وأفرع التحقيق عبر حرمانهم من تجديد جوازات سفرهم أو استصدار جوازات
جديدة، أو مضايقتهم عند الخروج من البلاد عبر مطار بيروت وسائر المنافذ البحرية
والبرية.
إلى جانب ذلك، لم يكن عباس إبراهيم وجهازه يخفيان
امتعاضهما من نشطاء حقوق الإنسان في لبنان، فدأب على ترهيب المحامين المعارضين
للاعتقالات التعسفية كالمحامي محمد صبلوح. ففي كتاب صادر عن اللواء إبراهيم في
كانون الأول/ ديسمبر 2021، اعتبر أن مدير مركز حقوق السجين في نقابة المحامين في
طرابلس محمد صبلوح "ذو شبهات كثيرة"، كونه "محرّضا على الحراك
والثورات.. ويسيء لبعض الدول"، يعني بذلك النظام السوري، وذلك رداً على رسالة
بعثت بها منظمة العفو الدولية إلى وزير الداخليّة والبلديّات القاضي بسّام المولوي
بشأن مضايقات يتعرّض لها صبلوح على خلفية نشاطه في الدفاع عن المعتقلين الإسلاميين
في لبنان، لا سيما من قبل الأمن العام والنيابة العامة العسكرية.
انسجاماً مع موقفه المؤيد للنظام السوري، عمل جهاز الأمن العام برئاسة عباس إبراهيم مؤخراً على تسليم الموقوفين السوريين المعارضين للنظام إلى دمشق، كقضية الموقوفين الستة الذين سُلم بعضهم إلى النظام نهاية العام 2021، قبل أن يتراجع عن تسليم الباقين بفعل ضغوط المنظمات الحقوقية العالمية
انسجاماً مع موقفه المؤيد للنظام السوري، عمل جهاز الأمن
العام برئاسة عباس إبراهيم مؤخراً على تسليم الموقوفين السوريين المعارضين للنظام
إلى دمشق، كقضية الموقوفين الستة الذين سُلم بعضهم إلى النظام نهاية العام 2021،
قبل أن يتراجع عن تسليم الباقين بفعل ضغوط المنظمات الحقوقية العالمية. يُذكر أن
معظم المعارضين السوريين يعتقلهم جهاز الأمن العام في لبنان ويوجه لهم تهمة
"الإرهاب" لانتمائهم لفصائل الجيش الحر في سوريا، لا لقيامهم بأعمال
"إرهابية" في لبنان.
المقامرة بدماء ضحايا انفجار المرفأ
في 25 كانون الثاني/ يناير الماضي، غادر مسؤول أمن مرفأ
بيروت السابق محمد زياد العوف -المتهم في قضية انفجار المرفأ في 4 آب/ أغسطس-
لبنان على متن طائرة متجهة إلى الولايات المتحدة. ورغم منعه رسمياً من مغادرة
البلاد، شق عوف طريقه إلى مطار بيروت الدولي واستقل طائرة دون أي عوائق من مدير
الأمن العام اللواء عباس الذي غض الطرف عنه وسمح له بالسفر. وتشير هذه الحادثة إلى
تنامي علاقة عباس إبراهيم المتحكم بالسفر من وإلى لبنان بالولايات المتحدة.
تسود علاقة إبراهيم بالولايات المتحدة أجواء من الترغيب
والترهيب، فقد حكمت محكمة مقاطعة واشنطن ضده في القضية المرفوعة عليه من قبل عائلة
العميل اللبناني لإسرائيل عامر الفاخوري، الذي توفي في الولايات المتحدة في آب/
أغسطس 2020 بعد أشهر قليلة من إطلاق سراحه من سجنه في بيروت حيث كان محتجزاً فيه
منذ عام 2019. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، تقدم اللواء إبراهيم بطلب من محكمة
واشنطن لإزالة أي ذكر لاسمه وجهازه الأمني، لكن المحكمة في 15 آب/ أغسطس رفضت
القيام بذلك.
أثارت هذه الدعوى قلق إبراهيم بشأن سمعته في الولايات
المتحدة، حيث ينفق على حملات دعائية واسعة النطاق لصالحه هناك. ولذا، طالب المحكمة
الأمريكية بمحو الاتهامات الموجهة إليه بالخطف والتعذيب، التي قدمتها عائلة
فاخوري. من هنا، برز دور إبراهيم في إخراج مسؤول أمن مرفأ بيروت السابق محمد زياد
العوف من لبنان حرصاً على علاقته الهشة بواشنطن، حيث إن سفيرة الولايات المتحدة في
لبنان دوروثي شيا تدخلت بنفسها في قضية العوف كونه يمتلك الجنسية الأمريكية.
ماذا بعد الأمن العام؟
يخشى زعيم حركة أمل ورئيس البرلمان اللبناني نبيه بري من أن ينافسه إبراهيم على رئاسة البرلمان، رغم أن بري يترأس المجلس النيابي منذ عام 1992 (31 عاماً)! كما تشير مصادر إلى تخوف قيادة حزب الله من تنامي نفوذ إبراهيم وعلاقاته الغربية نتيجة أدائه الخارجي، حيث استطاع تحقيق مكتسبات لم يحققها دهاقنة السياسة اللبنانيون
لا يُخفِي اللواء عباس إبراهيم طموحه السياسي بعد انتهاء
ولايته في مديرية الأمن العام ببلوغه سن التقاعد القانونية (64 عاماً) وامتناع
البرلمان اللبناني عن التجديد له. فقد أعرب صراحة عن رغبته في تقلد حقيبة وزارة
الخارجية اللبنانية، نظراً لعلاقاته الإقليمية والدولية المتنامية مؤخراً.
لكن هذا الطموح تعترضه عقبات الزعامات السياسية في لبنان
وانخراط أبرز عناصر المشهد اللبناني في الصراع الإقليمي والدولي. فمن جهته، يخشى
زعيم حركة أمل ورئيس البرلمان اللبناني نبيه بري من أن ينافسه إبراهيم على رئاسة
البرلمان، رغم أن بري يترأس المجلس النيابي منذ عام 1992 (31 عاماً)! كما تشير
مصادر إلى تخوف قيادة حزب الله من تنامي نفوذ إبراهيم وعلاقاته الغربية نتيجة
أدائه الخارجي، حيث استطاع تحقيق مكتسبات لم يحققها دهاقنة السياسة اللبنانيون.
كما تنعكس سمعة جهاز الأمن العام الذي قاده اللواء إبراهيم طيلة عقد من الزمن على
صورته الشعبية كرجل أمن واستخبارات لا كسياسي دبلوماسي.
غير أن المشهد اللبناني يتميز بالبراغماتية الشديدة
وزئبقية
التحالفات فيه، فضلاً عن أن اللبنانيين اعتادوا أن يتصدر استحقاقاتهم
السياسية أمراء حرب وزعماء مليشيات كوليد جنبلاط ونبيه بري وسمير جعجع، ما يعني أن
عباس إبراهيم سيجد ولا بد متسعاً لطموحاته تلك، إن استطاع تأمين تحالفاته السياسية
المناسبة.