ها
هم يهود
إسرائيل الليبراليون وداعموهم الدوليون يعيدون الكرّة مرة أخرى! لقد خرجوا
إلى الشوارع للاعتراض بعدما تولت حكومة بنيامين
نتنياهو السلطة الجديدة، خشية من
أن تؤثر
خططها للإصلاح القضائي على الحريات الاستعمارية- الاستيطانية لليهود
الإسرائيليين كمواطنين يتمتعون بامتيازات عنصرية واستعمارية في الدولة اليهودية. وهم
يتظاهرون بالآلاف أسبوعيا، ويطالبون الحكومة بالتراجع عن الإصلاحات القضائية التي تسعى
لتنفيذها. وتضم هذه الجموع في صفوفها جنرالات في الجيش، وطيارين من سلاح الجو،
وحتى رؤساء وزراء سابقين. أما المجازر والمذابح المستمرة التي ترتكبها الحكومة
والمستوطنون بحق الشعب الفلسطيني فلا تظهر على شاشات راداراتهم البتة.
وهؤلاء
المعترضون ليسوا وحيدين في مساعيهم لثني حكومة نتنياهو عن تنفيذ خططها، فيبرز من
بين مؤيديهم الدوليين سياسيون وأكاديميون يهود في الولايات المتحدة وبريطانيا. فقد
قام رئيس بلدية مدينة نيويورك السابق، الملياردير مايكل بلومبيرغ، بنشر مقال في
صحيفة نيويورك تايمز يحذر فيه من أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة "تغازل الكارثة"
وتعرض "
الديمقراطية ذاتها التي بنيت عليها الدولة"
للخطر. وقد حذر
الأكاديمي اليهودي البريطاني البارز والمؤيد لإسرائيل، سايمون شاما، من أن إسرائيل
أصبحت "دولة دينية قومية"، وهو مصير مروع لبلد يصوره على أنه كان في
السابق ملتزماً "بحقوق مدنية متساوية لجميع المجموعات الدينية
والعرقية". وقد وصفت مارغريت هودج، عضو البرلمان البريطاني عن حزب العمل
ورئيسة البرلمان عن حركة العمل اليهودية، سلوك حكومة نتنياهو بأنه "اعتداء
على الديمقراطية".
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تعبئة اليهود الإسرائيليين الليبراليين، لا سيما الأشكناز، على اتخاذ إجراءات ضد ما اعتبروه استيلاء سياسياً خطيراً على إسرائيل من شأنه أن يمس بحقوقهم. لقد فعلوا ذلك من قبل وبنفس العنفوان، تحديداً عندما تم انتخاب مناحيم بيغن
ليست
هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تعبئة اليهود الإسرائيليين
الليبراليين، لا
سيما الأشكناز، على اتخاذ إجراءات ضد ما اعتبروه استيلاء سياسياً خطيراً على
إسرائيل من شأنه أن يمس بحقوقهم. لقد فعلوا ذلك من قبل وبنفس العنفوان، تحديداً
عندما تم انتخاب مناحيم بيغن، البولندي المولد، وائتلاف الليكود
اليميني في عام
1977، ومرة أخرى في عام 1981، وبعد اجتياح بيغن للبنان عام 1982.
فبعد
انتخاب بيغن، شرع الأكاديميون الليبراليون الأشكنازيون في إلقاء اللوم على اليهود
الشرقيين "البدائيين" (ومعظمهم من العرب) كونهم قد نزلوا بإسرائيل إلى
درك الشعبوية اليمينية. ونظراً لأن غالبية اليهود الشرقيين كانوا قد صوتوا لصالح
حزب الليكود، الذي يقوده اليهود الأشكنازيون على أي حال، في عملية تصويت احتجاجية
ضد تحالف حزب العمل الذي يقوده أيضاً اليهود الأشكنازيون، والذي حكم إسرائيل منذ
عام 1948 حتى عام 1977 ومارس خلالها التمييز العنصري ضد اليهود الشرقيين، لم يستطع
اليهود الأشكنازيون الليبراليون أن يكبحوا جماح غضبهم.
وقد
تراوحت التفسيرات التي طرحها الأكاديميون والمثقفون الأشكنازيون حول اليهود
الشرقيين، الذين أطلق عليهم اسم المزراحيم (بمعنى الشرقيين) في عقد الثمانينيات، بين
كراهيتهم المزعومة لكل ما هو عربي (بخلاف الأشكنازيين "المستنيرين"
والمحبين للعرب زعماً)، والافتقار إلى الوعي الاشتراكي ودعم الهياكل الاستبدادية
للحكم، لا سيما نتيجة خلفيتهم العربية، حيث إنهم كانوا قد نشأوا في كنف ثقافة
عربية "استبدادية". وقد رد المثقفون المزراحيون بأن اليهود العرب الذين
نشأوا في العالم العربي وجاءوا إلى إسرائيل بين عامي 1948 و1956 كانوا في الواقع
يصوتون باستمرار لحزب العمل، وأن أبناءهم الذين ولدوا وترعرعوا في إسرائيل هم من
صوت لليكود، وبالتالي فقد تعلموا دعم الاستبداد اليميني في إسرائيل وليس في العالم
العربي.
ويصر
الليبراليون الأشكنازيون أيضاً على أن حكومات حزب العمل التي كانت قد شنت حرب عام
1967 واحتلت الأراضي العربية لم تسع لاستعمارها، بل لاستخدامها كعناصر للمساومة من
أجل "السلام" مع البلاد العربية فقط، على النقيض من حكومة الليكود
اليمينية التي أطلقت العنان، وفقاً لليبراليين، للاستيطان في هضبة الجولان والضفة
الغربية والقدس الشرقية وغزة وسيناء، مبددة بذلك فرص "السلام". وقد كانت
جميع هذه المزاعم أكاذيب لا تمت للواقع بصلة.
يصر الليبراليون الأشكنازيون أيضاً على أن حكومات حزب العمل التي كانت قد شنت حرب عام 1967 واحتلت الأراضي العربية لم تسع لاستعمارها، بل لاستخدامها كعناصر للمساومة من أجل "السلام" مع البلاد العربية فقط، على النقيض من حكومة الليكود اليمينية التي أطلقت العنان، وفقاً لليبراليين، للاستيطان في هضبة الجولان والضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة وسيناء، مبددة بذلك فرص "السلام". وقد كانت جميع هذه المزاعم أكاذيب لا تمت للواقع بصلة
فبحلول
عام 1977، أي بعد عشر سنوات من احتلال إسرائيل للأراضي العربية وأثناء حكم حزب
العمل، وتماشياً مع خطة رئيس اللجنة الوزارية للمستوطنات التابعة لحكومة العمل،
يغال ألون، الذي وضع خطته الاستيطانية في عام 1967، المعروفة باسم "خطة ألون"،
فقد ضمت حكومة حزب العمل القدس الشرقية بحكم الأمر الواقع، وأقامت 30 مستعمرة- استيطانية
يهودية في الضفة الغربية وحدها، وأربعا في قطاع غزة، وقد كانت 15 مستعمرة- استيطانية
أخرى قيد الإنشاء. وبين عامي 1967 و1977، كان قد انتقل 50000 مستعمر يهودي بالفعل
إلى المستعمرات اليهودية التي أقيمت في القدس الشرقية. ومن الأمثلة البسيطة على
الاستعمار اللطيف والخفيف لحكومة حزب العمل قيامها بتدمير حي المغاربة في القدس
الشرقية وطرد سكانه بمجرد الانتهاء من احتلال المدينة، لإفساح المجال أمام الغوغاء
من المستوطنين اليهود الإسرائيليين للانقضاض على المدينة المحتلة.
وفي
عام 1972، قامت حكومة حزب العمل -لنأخذ مثالاً بسيطاً آخر- بطرد 10000 مصري من
أراضيهم، بعد أن قامت بمصادرتها في عام 1969، وقامت بجرفها وتدمير منازلهم
ومحاصيلهم ومساجدهم ومدارسهم، لإنشاء ستة كيبوتسات، و9 مستوطنات يهودية ريفية، والمستعمرة
المدينية اليهودية "ياميت" في سيناء المحتلة، والتي بدأت بخمسين مستعمراً
يهودياً، معظمهم من الروس. وقد تم وضع خطط لتنمية مستعمرة "ياميت"، بما
في ذلك بناء ميناء خاص بها، حيث توقعت السلطات الإسرائيلية بأن يبلغ عدد
المستوطنين فيها 200 ألف مستعمر يهودي (وقد تم بناء 18 مستوطنة يهودية في نهاية
المطاف في سيناء وكان لا بد من تفكيكها في عام 1979 بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد).
وقد
تم إنشاء أول مستعمرة يهودية في هضبة الجولان في تموز/ يوليو 1967 حملت اسم "كيبوتس
الجولان". وأثناء قيامه بجولة في هضبة الجولان لأول مرة بعد حرب عام 1967
مباشرة، أخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي من حزب العمل، ليفي إشكول (واسم عائلته
الأصلي "شكولنيك")، المولود في أوكرانيا، الشوق والحنين إلى مسقط رأسه،
حيث صرخ والسعادة تملأ صدره: "هذه تشبه أوكرانيا تماماً!" ويجدر التذكير
في هذا السياق بأن غالبية المستوطنين الأيديولوجيين في جميع أنحاء الأراضي المحتلة
خلال تلك الفترة كانوا من اليهود الأشكناز، أما اليهود الشرقيون الذين انتقلوا
للسكن في المستوطنات فمعظمهم انتقل في الغالب لأسباب اقتصادية.
وعندما
اجتاحت حكومة بيغن لبنان في عام 1982 وقتلت حوالي 18000 مدني لبناني وفلسطيني
وتآمرت مع حزب الكتائب اللبناني الفاشي لذبح آلاف الفلسطينيين في مخيمي صبرا
وشاتيلا للاجئين، أصيب الليبراليون الأشكناز بالرعب من أن بيغن والليكود قد قاموا بـ"تدنيس"
إسرائيل التي كانت جميلة قبل أن يعتلوا سدة الحكم. وإن بدت هذه اللازمة مألوفة لنا،
فذلك لأنها بالفعل نفس الصيغة
التي نسمعها في كل التظاهرات الليبرالية الحالية
التي يقودها الأشكناز المناهضون لنتنياهو في إسرائيل، والتي ترددها الجوقة المؤيدة
لإسرائيل في بريطانيا والولايات المتحدة. فبعد الاجتياح الإسرائيلي وارتكاب المذابح
في لبنان، كتب أكاديميون
يهود أمريكيون متنفذون من المدافعين عن إسرائيل، بمن فيهم
دانيال بيل، وإيرفينغ هاو، وسيمور مارتن ليبسيت، ومايكل والزر، رسالة إلى صحيفة
نيويورك تايمز يؤكدون فيها أنه "يجب علينا جميعاً الآن أن نقول لحكومة بيغن-
شارون: أنتم تلحقون ضررا جسيما باسم إسرائيل، المرتبط منذ فترة طويلة بالديمقراطية
والمصالحة والسلام".
أما
المحرر الصهيوني لصحيفة "فيلدج فويس" نات هنتوف (الذي انضم لاحقاً إلى
الحملة اليمينية المؤيدة لإسرائيل في 2004/2005 والتي سعت إلى طردي من وظيفتي في
جامعة كولومبيا)، فقد أعرب عن أسفه حينها لأن جيش بيغن الإسرائيلي أصبح يضم قتلة:
"منذ تأسيس الدولة اليهودية، كان هناك بالفعل تقليد "طوهر هنيشق" (أي
"طهارة السلاح" أو "أخلاق السلاح") في القوات المسلحة
الإسرائيلية. وحتى وقت قريب، كان على الجنود الإسرائيليين أن يكونوا حذرين للغاية
بشأن إصابة المدنيين، ناهيك عن قتلهم". وتتجلى هذه "الأخلاق"
و"الطهارة" في المذابح العديدة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي منذ عام
1948 التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي منذ عام 1948 بحق المدنيين العرب.
النفاق الذي يتغلغل في هذه الكلمات في عام 1982 بأي حال من الأحوال أكثر فظاعة من النفاق الحالي لليهود الليبراليين في إسرائيل وجوقة مؤيديهم الدولية. فما تسعى إليه كلتا المجموعتين من المدافعين هو تجميل وإضفاء الطابع الديمقراطي على إسرائيل، التي لم تكن يوماً أكثر من مستعمرة- استيطانية مفترسة قائمة على قوانين تمنح امتيازات عنصرية واستعمارية للمستوطنين اليهود الذين يعيشون في ظل ديمقراطية العرق السائد
وبالفعل،
حتى مهندس ومؤسس برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي شمعون بيريز، جزار قانا
المستقبلي، فقد خاطب الكنيست بأسف لفقدان إرث دافيد بن غوريون، والذي شدد، حسب قوله،
على أن مصير إسرائيل "يعتمد على قوتها وأخلاقيتها. أخلاقيتنا، وليس القوة
فقط، هي ما ينبغي أن يوجه خطانا".
ليس
النفاق الذي يتغلغل في هذه الكلمات في عام 1982 بأي حال من الأحوال أكثر فظاعة من
النفاق الحالي لليهود الليبراليين في إسرائيل وجوقة مؤيديهم الدولية. فما تسعى إليه
كلتا المجموعتين من المدافعين هو تجميل وإضفاء الطابع الديمقراطي على إسرائيل،
التي لم تكن يوماً أكثر من مستعمرة- استيطانية مفترسة قائمة على قوانين تمنح
امتيازات عنصرية واستعمارية للمستوطنين اليهود الذين يعيشون في ظل ديمقراطية العرق
السائد.
في
حقيقة الأمر، تستمر كلتا المجموعتين من المتظاهرين بالالتزام الكامل في الحفاظ على
إسرائيل كدولة يهودية، حتى وإن كان متظاهرو عام 1982 قد شعروا بالحرج من حروب
إسرائيل القاتلة ومذابحها، وهي حروب لا تتسبب بأي إحراج للمحتجين الحاليين. أما حقيقة
أن الحقوق التي يتمتع بها هؤلاء المحتجون اليهود والتي يخشون فقدانها كانت دائماً
قائمة على تجريد الشعب الفلسطيني من أراضيه ووطنه والإمعان في اضطهاده، إنما تكشف
أن حركتهم الاحتجاجية لا تسعى إلى الحفاظ على الديمقراطية، بل على الحفاظ على
ديمقراطية العرق السائد لا أكثر.