في باريس، وعقب اجتماع شرم الشيخ، قال وزير
المالية
الإسرائيلي والوزير في وزارة الأمن وزعيم حزب الصهيونية الدينية، بتسلئيل
سموتريتش،
إنه "
لا يوجد شعب فلسطيني، وإنّ الشعب
الفلسطيني اختراع لا يزيد عمره عن مئة
عام". في تاريخ الصراع، لا يمكننا إحصاء هذا النوع من التصريحات، لا سيما
وأنّ "إسرائيل" قامت في جوهرها، على دعاية تفترض حقّاً يهوديّاً حصريّاً
في هذه البلاد يرجع إلى آلاف السنوات، ومن ثمّ فالنفي العلني، والضمني، والإجرائي،
للفلسطيني، ظلّ النمط الحاكم للوعي الإسرائيلي، والسائد في سياسات الإسرائيلي، فلا
جديد فيما قاله سموتريتش، وإن كان مهمّاً من حيثيات رمزية.
أوّل الرمزيات المهمّة، فيما قاله سموتريتش، الرمزية
الفلسطينية الخاصّة، المتداخلة مع سياسات المحو الإسرائيلية، لا العلنية فحسب، بل
الصارخة في شكلها، والعائدة إلى جرائم العصابات الصهيونية الأولى بين يدي النكبة، والمحمولة
على تصريحات علنية سابقة لسموتريتش، وذلك حينما دعا المذكور سابقاً إلى محو بلدة
حوارة الفلسطينية، التي تشكّل خطّ وصل بين وسط الضفّة الغربية ومدينة نابلس، في
حين أن المستوطنين، الذين يمثّلون الجمهور الأهمّ لسموتريتش، قد أخذوا بالفعل في
محو حوارة، بإشعال النيران فيما استطاعوا الوصول إليه منها، من منازل ومتاجر
وسيارات، وهو ما يستدعي التذكير الدائم، بالسعي الإسرائيلي الدائم لمحو الفلسطيني بالحرق
الفعلي بالنار.
لم يتغيّر شيء، إذن، منذ العام 1948، إذ يَعُدُّ الإسرائيليُّ الفلسطينيَّ معضلة لوجوده، لأنّ الفلسطيني في ذاته، بمحض وجوده، بحقيقة علاقته بهذه الأرض، بامتداده التاريخي فيها غير المنقطع فيه ولا عنها، يحول دون تحقّق الذات الإسرائيلية وفق الأيديولوجيا الصهيونية، ومن ثمّ فالدعوة الصريحة لمحو حوارة لم تتوقف عند سموتريتش، فقد تبعه آخرون
ففي شهادات بعض الصهاينة على مجزرة الطنطورة التي وقعت
في أيار/ مايو 1948، ذكر الشهود حرق القرويين بقاذف اللهب، وفي تموز/ يوليو 2014 أحرق
مستوطنون الطفل المقدسي محمد أبو خضير في حي شعفاط بالقدس، وفي تموز/ يوليو 2015 أحرق
مستوطنون عائلة دوابشة في قريا دوما، قرب نابلس، ليستشهد الوالد والأم وطفل رضيع،
وينجو فقط طفل في الرابعة من عمره في حينه. ثمّة كثافة في استدعاء الحرق المباشر
بالنار لمحو الفلسطيني في السنوات الأخيرة، ولن تتسع المساحة والحالة هذه، للتذكير
بحرق العديد من المساجد والبيوت والمزارع في هذه السنوات!
لم يتغيّر شيء، إذن، منذ العام 1948، إذ يَعُدُّ الإسرائيليُّ
الفلسطينيَّ معضلة لوجوده، لأنّ الفلسطيني في ذاته، بمحض وجوده، بحقيقة علاقته
بهذه الأرض، بامتداده التاريخي فيها غير المنقطع فيه ولا عنها، يحول دون تحقّق
الذات الإسرائيلية وفق الأيديولوجيا الصهيونية، ومن ثمّ فالدعوة الصريحة لمحو
حوارة لم تتوقف عند سموتريتش، فقد تبعه آخرون، منهم ليشا يارد، المتحدث باسم عضو
الكنيست الإسرائيلي ليمور سون هار ميليخ، عن حزب "القوة اليهودية"
بزعامة إيتمار بن غفير، ثم يعود سموتريتش، بالدعوة الضمنية لمحو الشعب الفلسطيني كلّه،
بإنكار تحقّقه السياسي وامتداده التاريخي في هذه الأرض. ولم تكن هذه الخطابات
والممارسات، كما سلف قوله، إلا امتداداً للخطّ الصهيوني الاستعماري القائم على
الطمس والمحو، ابتداء من اليسار الإسرائيلي المؤسّس لدولة الاحتلال، وصولاً إلى
الفاشية اليمينية المستعلنة بالتخلّي عن ضرورات الخديعة والتجمّل الكاذب!
وبالعودة إلى الرمزية الفلسطينية الخاصّة، فهذا
الفلسطيني مستغن عن هذه الصراحة الإسرائيلية للوعي بالإسرائيلي، إذ الفلسطيني
موضوع الطمس والمحو والحرق والنفي والإبادة بالنسبة للإسرائيلي، مانع التحقّق
الذاتي للإسرائيلي، يعاين في الوقت نفسه قتله اليومي، حرقه اليومي، في حين، لا
التصريحات، ولا التاريخ الظاهر بلا التباس، ولا فشل مسارات التسوية، ولا سياسات
القتل والمحو، منعت قيادة منظمة التحرير والسلطة، من لقاء هذا العدوّ، في قمتين
بين مذبحتين وتصريحين، في العقبة وشرم الشيخ!
لا تبتعد الرمزية العربية عن الرمزية الفلسطينية،
فالصراع في جوهره وأصله ومعناه ومبناه، صراع عربي إسرائيلي، كما سُمّي زمناً
طويلاً، قبل الاستغراق البليد في علاقات التطبيع والتحالف مع العدوّ، بل والترويج لسرديته
ودعايته، التي هي عين كلام سموتريتش، كما تكثّف ذلك وتكاثر بعد وصول ترامب للبيت
الأبيض ومع حكومة نتنياهو السابقة، حينما لم يكن من شغل لِما سُمّي بالذباب
الإلكتروني العربي سوى تحطيم الخطاب الفلسطيني والترويج للدعاية الصهيونية. نعم
الصراع العربي الإسرائيلي، قبل رفع الشعارات الوطنية الخاوية على فراغها من المعنى،
لا مقابل الاستعمار بتمثّلاته المتنوعة، بل مقابل القضية الفلسطينية، كالقول
"البلد العربي الفلاني أولاً"، أي قبل فلسطين، لا قبلها من حيث أن تأتي
فلسطين ثانياً، بل من حيث إنّ فلسطين لن تأتي أبداً، لكن ها هي دولة عربية تجد
نفسها، إلى جانب فلسطين، مكوّناً أساسيّاً لدولة "إسرائيل" في علم مرسوم
على المنصة التي أنكر من عليها سموتريتش وجود شعب فلسطيني!
هذه الرمزية تنطوي على كثافة كبيرة، فإنكار الشعب
الفلسطيني من على
رمز يضمّ الأردن إلى "إسرائيل"، هو إنكار للشعب
الأردني، ومن خلف ذلك موقف متحفّز عدوانيّاً إزاء العرب، فإذا كان الفلسطيني المانع
الموضوعي للتحقيق الذاتي الإسرائيلي، وكان الأردن البوابة العربية الأكثر تداخلاً
مع فلسطين، فإنّ الأزمة الوجودية الإسرائيلية تمتدّ بوعيها أنّها بؤرة صغيرة وسط
بحر عربيّ، فما الحال إزاء العرب إن كان محوهم غير ممكن؟! بضمان تخلّفهم وتمزقهم وتبعيتهم
إلى الأبد!
هذه الرمزية تنطوي على كثافة كبيرة، فإنكار الشعب الفلسطيني من على رمز يضمّ الأردن إلى "إسرائيل"، هو إنكار للشعب الأردني، ومن خلف ذلك موقف متحفّز عدوانيّاً إزاء العرب، فإذا كان الفلسطيني المانع الموضوعي للتحقيق الذاتي الإسرائيلي، وكان الأردن البوابة العربية الأكثر تداخلاً مع فلسطين، فإنّ الأزمة الوجودية الإسرائيلية تمتدّ بوعيها أنّها بؤرة صغيرة وسط بحر عربيّ
الموقف الصهيوني من الأردن قديم، فالتصوّر الصهيوني
التأسيسي، يتسع ليشمل الأردن، ففلسطين التي ينبغي إقامة دولة "إسرائيل"
عليها، وفق التوظيف التوراتي في الأيديولوجيا الصهيونية التأسيسية، تشمل فلسطين
الانتدابية وشرق الأردن، ومن ثمّ كان تأسيس إمارة شرق الأردن في حينه، عامل قلق
صهيوني، من إمكان تراجع "بريطانيا العظمى" عن وعد بلفور. وإذا كان هذا
تصوّرا قديما، فإنّه لم يزل حاضراً بنحو أو بآخر في خطابات صهيونية معاصرة، فبعد
خريطة سموتريتش، كتب النائب الإسرائيلي السابق ميخائيل بن آريي، قائلاً: "الأردن
بلد خيالي، هم يتظاهرون بأنهم مصدومون من
الخارطة، عليهم أن يتذكّروا أن هذه البلاد
هي مهد قبيلتي رؤفين وجاد، والتي كُتبت فيها المشناة". وبما أنّ
"إسرائيل" أعجز من التفكير الفعلي في ضمّ الأردن، فينبغي فقط أن نتخيل
الكيفية التي ترى فيها الأردن!
ما يحسن تخيّله، والحالة هذه، لا لو أنّ وزيراً مهمّاً
في بلد عربيّ، بل لو أنّ مواطناً عربيّاً ليست له أيّ حيثية ذات بال، أنكر فيها المشروعية
السياسية لدولة عربية أخرى، أو ادّعى مرجعية مساحة من دولة عربية أخرى إلى دولته، كيف
سيثور إعلام تلك الدولة الأخرى بكلّ أدواته وامتداداته، وربما للدخول في أزمة
سياسية لا يُعرف لها آخر، مع عاصفة من الإهانات الفادحة المتبادلة، وما الأمثلة عن
هذا ببعيدة. لكن هل يرقى أيّ
موقف عربيّ، من سلوك سموتريتش إلى مثل هذا؟!
في هذا السياق، ليست مصر بأبعد من الأردن، حين الدعوة
للمحو، وممارسة الحرق بالفعل، فقبل أقل من ثمانية شهور، كُشِف عن قبر جماعي لجنود
مصريين، دُفنوا في العام 1967، في منطقة اللطرون بين القدس و"تل أبيب".
الحاصل أنّ هؤلاء الجنود قُتلوا حرقاً!
تؤكد على الدجل التنويري الأوروبي ذي العقل النقدي والشكّي وهو يتقبل اصطناع "إسرائيل"، ونفي الوجود الفلسطيني، على أساس كل ما يهين العقل وبداهة الأشياء، فضلاً عن اقتضائه في أقلّ أحواله الشكّ والنظر النقدي! وهذه رمزية أخرى في خطاب سموتريتش من باريس
ليس ثمة حاجة للشرح، بأنّ أحداً لا يريد مواجهة
"إسرائيل"، لكن ألا يمكن أن يكون الدور مختلفاً عمّا هو عليه في العقبة
وشرم الشيخ؟! ألا يمكن أن ينظر العرب لأنفسهم، على نحو مناقض تماماً لنظرة
الإسرائيلي إليهم، بأن يخرجوا من دور "المناطق العازلة" وضمان المكانة
من الزاوية الأمنية الإسرائيلية؟!
وأخيراً، فبعد الدعوة لمحو حوارة، يُستقبل سموتريتش في
باريس، وفي باريس هذه، ينكر وجود شعب فلسطيني، باريس هذه إحدى أكثر العواصم
الأوروبية شراسة في تبني الدعاية الصهيونية حول "معاداة السامية"، وكانت
قناتها الناطقة بالعربية "فرانس 24"، قد أوقفت أخيراً، في هذا الشهر (آذار/
مارس)، مراسلتها الفلسطينية ليلى عودة، للتحقيق معها بتهمة "التحريض ومعاداة
السامية"، لأنّها في مواقفها الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي وصفت ضحايا
شعبها على يد الإسرائيلي، بالشهداء.
المفارقة هذه التي تضجّ بالوقاحة والكذب والدجل الأوروبي،
أوضح من أن تحتاج مزيد وقوف عندها، كما تؤكد على الدجل التنويري الأوروبي ذي العقل
النقدي والشكّي وهو يتقبل اصطناع "إسرائيل"، ونفي الوجود الفلسطيني، على
أساس كل ما يهين العقل وبداهة الأشياء، فضلاً عن اقتضائه في أقلّ أحواله الشكّ والنظر
النقدي! وهذه رمزية أخرى في خطاب سموتريتش من باريس.
twitter.com/sariorabi