ليس
مثل "
رمضان الآخَر" ما يجعلنا نتذكر التأثير المذهل للتلفزيون على رؤوس
البشر وأفكارهم وسلوكهم.. ذلك أن هناك "شهر رمضان" و"رمضان الآخَر"..
فـ"شهر رمضان" هو ذاك الذي نشهده كما ورد في الكتاب العزيز ونصومه،
ونتذاكر ذكراه الأعز في كل الوجود.. ذكرى نزول القرآن من السماء إلى الأرض..
و"رمضان
الآخَر" هو ذاك الذي يشهدون
مسلسلاته وحواراته ونجومه ونجماته.. وسيكون لنا
حديث آخر إن شاء الله عن فكرة غزو واحتلال أيام وليالي رمضان بإغراءات التفاهة وإشغالات
السفاهة.. لكن دائرة الموضوع ستتسع قليلا هنا.. لنرى حجم الكارثة التي يتعرض لها الإنسان
الحديث في عصره الحديث وما بعد الحديث؛ من تحكم وتوجيه اختياراته ومساراته
والسيطرة التامة التي تشبه "الاستعباد والرق القديم" على كل فضاء حياته.
* * *
نرى حجم الكارثة التي يتعرض لها الإنسان الحديث في عصره الحديث وما بعد الحديث؛ من تحكم وتوجيه اختياراته ومساراته والسيطرة التامة التي تشبه "الاستعباد والرق القديم" على كل فضاء حياته
وكان
الكاتبان الإنجليزيان ألدوس هيكسلى (ت: 1963م) في رواية "عالم جديد جريء"
وجورج أورويل (ت: 1950 م) في رواية (1984)؛ قد تنبآ في روايتيهما هاتين، بخطورة
القوة الإعلامية التي ستحكم العالم في المستقبل.. أيضا بخطورة وقوة أجهزة
المخابرات والتتبع والمراقبة؛ التي عادة ما تلحق بالسلطة المركزية وتمكنها من إحكام
السيطرة على حياة الناس في كل وقت وفي كل مكان..
سيمثل
الإعلام لأجهزة المخابرات كل يوم جديد ما هو أعمق وأكبر وأبعد مدى مما كان ومضى.. وذلك
في عملية فرض الأفكار والآراء على العقول والخيال..
لا
نبالغ إذا قلنا إن العالم من منتصف القرن الماضي تقريبا تحكمه هاتان القوتان، وهما
إذ بدأتا في الاضطلاع بهذه المهمة الكبرى فقد أخذا دورهما يتطور ويتعملق مع تقدم
تكنولوجيا الاتصالات والدعاية إلى حدود غير مسبوقة، كما سبق.
* * *
لذلك
فلن نندهش من أن يهتم مفكر بحجم الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو (ت: 2002م) صاحب مفهوم
"إعادة الإنتاج" في مجال الاجتماع الإنساني، وصاحب التأثير العملي
الواسع على الحركات الاجتماعية والسياسية الحديثة، أن يهتم بتحذيرنا من "التأثير
الاستعبادي" للإعلام على "براءة الإنسان" في النظر إلى الأشياء..
الإنسان
الذي سيصبح "كائنا كما يُراد له أن يكون" دائما موافق لا يدهشه شيء.. ولا
يستلفته شيء.
بورديو
يكاد يكون فرغ نفسه في العقد الأخير من حياته لمواجهة هذه المأساة البشرية المسماة
بوسائل الإعلام والميديا، وشن نقداً حاداً على فسادها وتبعية عدد من المثقفين
الذين أطلق على بعضهم وصف "كلاب الحراسة الجدد"، مستلهما من اسم كتاب بول
نيزان (ت: 1940م) الشهير "كلاب الحراسة"، الذي صدر سنة1932 م والذي وصف
فيه المثقفين والصحافيين بأنهم مُدَعي المصداقية والموضوعية والاستقلالية والحياد..
بأنهم مجرد حراس للأنظمة الاجتماعية والسياسية القائمة، يبررون خطاياها، ويزينون
أفعالها.. ويهيئون الرأي العام لتقبل الأزمات والكوارث.
* * *
ولأن
التلفزيون يتمتع باحتكار واقعي في ذهابه إلى رؤوس جزء كبير من الناس، وتحديد ما
يفكرون به كما يقول بورديو.. فقد كان له النصيب الأكبر من اهتمامه، وذلك للدور
الخطير الذي يقوم به في تكريس الوضع القائم لمصلحة من يستفيد من بقاء واستمرار هذا
الذي هو قائم.. ليس هذا فقط، بل والأهم في تجويف وتفريغ فكرة السياسة والمراقبة
والسؤال والمشاركة، والعمل السياسي نفسه من مضمونه، والتلاعب بعقول الناس.. وله
كتاب مشهور بعنوان "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول" ترجمه المترجم المصري
أ. درويش الحلوجى.. أقام حجة كبيرة على أصحاب فكرة "الإرادة الحرة للإنسان
الحر".
انتهي
بورديو إلى أن القنوات التلفزيونية أصبحت في هذا العصر من تاريخ الإنسانية هي الأداة
الرئيسية للضبط والتحكم الاجتماعي.. ويصف هذه القنوات بأنها عبارة عن أداة من أدوات
"العنف الرمزي" الذي تمارسه السلطة وشلة المستفيدين منها..
اكتشفنا أن دور التلفزيون هنا يشتمل على عمل مزدوج المهام.. إظهار شيء وإبرازه.. وإخفاء شيء آخر ونسيانه.. دوره يُظهر ويُخفي.. وسنجد ذلك واضحا بقوة على مستوى المعلومات والأخبار.. سيقوم التلفزيون على جذب الانتباه نحو أحداث، من أجل إخفاء أحداث أخرى
فبحكم
التأثير الواسع للتلفزيون، يعتبره بورديو خطراً كبيرا وداهما على كل شيء، على الحياة
الفكرية والثقافية، على السلوك الأخلاقي للناس، على السياسية وفكرة الديموقراطية
نفسها.. وأن من يتحكمون في
برامجه يهدفون الى شيء واحد.. وواحد فقط.. وهو المزيد
والمزيد من افتراس الضحية (الجمهور) الذي قدم عقله بين يدي هذا السحر والساحر.
بورديو
يشبه عمل التلفزيون فعليا بهذا التشبيه.. عمل الحواة والسحرة!! فهؤلاء يقومون
بعملهم الذي جوهره جذب الانتباه نحو شيء آخر غير الذي يقومون به. ويقول: فقد
اكتشفنا أن دور التلفزيون هنا يشتمل على عمل مزدوج المهام.. إظهار شيء وإبرازه.. وإخفاء
شيء آخر ونسيانه.. دوره يُظهر ويُخفي.. وسنجد ذلك واضحا بقوة على مستوى المعلومات
والأخبار.. سيقوم التلفزيون على جذب الانتباه نحو أحداث، من أجل إخفاء أحداث أخرى.
(المصريون البسطاء الذين لا يقرؤون بورديو توصلوا إلى ذلك بدهائهم العميق القديم واشتهر
بينهم بنظرية شٌفت العصفورة!!).
* * *
يقول بورديو:
إذا ما تم استثمار ساعات البث الثمينة من أجل أشياء تافهة جداً وفارغة جداً فإن
هذه الأشياء التافهة ستصبح "هامة جدا"، وتكمن أهميتها تلك في قدرتها على
إخفاء أشياء ثمينة للغاية وهامة جدا.. هكذا هو التلفزيون.. والذي أصبح بكل أسف
أداة لهيمنة السلطة وقوى المال ونخب المصالح.. وأداة تمرير لما تتطلبه هذه الجهات
النافذة.. على حين يُفترض أن الهدف الأساسي منه في بدايته ومن الإعلام بوجه عام.. أن
يكون أداة تنوير وتثقيف وتوعية وإنضاج للوعي والواقع بما هو أفضل، أو على الأقل
القيام بعملية إعلام حقيقية صادقة لكل ما يجري وفي حيادية تامة..
لكن
هذا لم يحدث، بل وتمت عمليه إبعاد عاصفة للناس عن السياسة والثقافة وكل معالي
الأمور.. والعمل بكل همة ونشاط على تعميم ونشر سلوكيات الاستهلاك والتسلية والكسل
المفرط والسلبية والإذعان.
تمت عمليه إبعاد عاصفة للناس عن السياسة والثقافة وكل معالي الأمور.. والعمل بكل همة ونشاط على تعميم ونشر سلوكيات الاستهلاك والتسلية والكسل المفرط والسلبية والإذعان
* * *
على أن
أخطر وأوجع ما في هذا المشهد البائس هو دور المفكرين والمثقفين في هذا التأثير
المريب.. إذ سيحتاج التلفزيون هنا إلى المثقف الإعلامي الذي يبيع الفيهقات
والتمتمات لمن يدفع.. أيضا إلى المفكرين السريعين الذين يقدمون المعلبات الثقافية
التي تضفي على المقولات هيبة ووقارا وجدية.. وينحتون عبارات مبهمة مزخرفة أو
باقتباسات فلسفية وتاريخية تبهر من يسمعها من الجمهور المرهق والذي يفتح نوافذ دماغه
في مساءاته المرهقة..
من
الأمور التي تعرض لها بودريو أيضا النموذج الأكثر رواجا في التلفزيون.. وهو برامج
الحوار أو "التوك شو"، وراح الرجل بغضب المثقف الطليعي الرسالي.. يكشفها
ويفندها بدقة، بدءا من تركيب البلاتو، مرورا بنبرات المذيع والضيوف المتحدثين، والمناقشات
الحادة المفتعلة وتقديم الندوات الزائفة وانتقاء الأسئلة، وعدم إعطاء الحق في
الكلام لمن يملك أفكارا قوية.. جديدة.. وكيف يجري الضغط على هؤلاء ومنحهم الحق في
وقت غير ملائم.. إلى آخر كل هذه التنويعات التي هي من أخطر وأخبث أدوات التلاعب
بعقول الناس وتوجيه وعيهم.. والأهم ممارسة الرقابة عليهم كي يظلوا دائما تحت خط الوعي..
* * *
الجمهور
العريض الذي يجلس "مسحورا" أمام التلفزيون وبرامجه.. لا يقول نعم هنا من
"تلوا باطلا.. وجلوا صارما" كما قال الشاعر الكبير أبو علاء المعرى (ت:
1057م).. وكما كان يحدث في العصور السحيقة..
لكنه
يقول نعم هنا، من شيء يشبه كثيرا ما وصفه القرآن عن مشهد "يوم الزينة" الذي
احتشد فيه المصريون ذات يوم.. يشاهدون ويتفرجون.. قبل أن يأتينا "عصر الفُرجة"
الشاملة.. بكل كماله.
twitter.com/helhamamy