دأبت الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية
على مر التاريخ على تكوين ميلشيات شبه عسكرية، تكون أداة طيعة وقذرة في يدها، تعمل
خارج أطر الدولة الرسمية، بهدف السيطرة على حركة الشعب، وإحكام القبضة الأمنية على
البلاد، والتنكيل بالخصوم، وتمثلت مهام تلك المجموعات والمليشيات في قمع الحركات
المناوئة للأنظمة الاستبدادية، واعتقال وتصفية الأشخاص والجهات المعارضة، والقضاء
على أي تحرك فردي أو جماعي من قبل أفراد الشعب، ولو كان سليماً.
وهذا ما فعله العقيد معمّر
القذافي،
حيث قام بتأسيس ميلشيات شبه عسكرية، أطلق عليها اسم " اللجان الثورية "
ضم إليها مجموعة من الصعاليك المعدمين الذين كانوا يحلمون بمستقبل على قدر حجمهم،
فتحولوا من صعاليك إلى سادة يتحكمون في المجتمع ولهم نفوذ واسع في الدولة، وصاروا
آلة قتل في يد العقيد يصفي بها خصومه السياسيين ومن يرغب في التخلص منهم من الشعب،
وقد استخدمهم على مدى أربعة عقود من حكمه في تنفيذ أبشع الأساليب القمعية،
والتنكيل بمعارضيه السياسيين، واستهدفهم بالاعتقالات والاغتيالات والتعذيب
والمطاردة والتهجير، فاستشهد الكثير منهم تحت وطأة التعذيب في غياهب ودهاليز
مثابات اللجان الثورية، وهاجر بعضهم إلى الخارج لمتابعة المقاومة من هناك، فلاحقهم
في المنافي، وقام بتصفية العديد منهم. إنّ هذه الميليشيات المسمّاة (اللجان
الثورية) ليس لها من "الثورية" إلا الاسم؛ لأنها في واقع الأمر هي مجرد
خلايا إرهابية، تعمل خارج إطار القانون، مهمتها قتل وتصفية من له رأي مخالف
للقذافي ونظامه المستبد الفاشي، كما تعمل أيضاً على إرهاب المواطنين، والاعتداء
عليهم بدون وجه حق.
ومع مطلع الثمانينيات تحولت
ليبيا إلى
سجن كبير، ووصل القذافي إلى ذروة طغيانه، وبالذات بعد خطاب زوارة وانفراده بالحكم،
دون باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة. ومنع الناس من السفر، وأصبح المواطن الليبي
يحتاج إلى تأشيرة خروج من ليبيا، وموافقات لا حصر لها حتى يستطيع السفر، قضى
القذافي على القطاع الخاص بأفكاره التي نشرها في كتابه الأخضر فحرم العمل التجاري
وصادر الممتلكات والبيوت بالقانون المشؤوم رقم (4) المبني على مقولة البيت لساكنه،
وكان القرار الخطير في تدمير الاقتصاد، هو قرار اغتصاب ثروات الليبيين المالية،
بقرار تبديل العملة خلال أسبوع. تزاحم الناس على المصارف وكانت التعليمات بأن الحد
الأقصى المسموح به للتبديل هو ألف دينار، فمن بدل أقل يأخذ مثل مبلغه ومن زاد عن
الألف؛ لا يعطى إلا ألف دينار فقط. استعان أصحاب المال بأقاربهم، وجيرانهم، وضاعت
الحقوق، وسرق الناس بعضهم بعضا، وترددت شائعات عن إصابات بحالات إغماء، وجلطات
وانتحار، وحرق للعملة بدلا من تسليمها للبنك، وادخار البعض لتلك الفئة من النقود،
فخسرها وصارت لا قيمة لها.
قام القذافي وأعضاء اللجان الثورية
بتصفية معارضيهم جسديا داخل ليبيا وخارجها، وعقليا بوضعهم في مشافي الأمراض
العقلية؛ تقول الدكتورة الأردنية راوية البورنو، وهي استشارية الطب النفسي، عملت
في مدينة بنغازي: مما كان يمارسه " القذّافي " تجاه شعبه، ما يمكن أن
يسمى " بالتّصفية النفسية"، حيث كان يزجّ ببعض المعارضين بمشافي الأمراض
العقلية. وعندما كنت على رأس عملي في " بنغازي " أتى إليّ أعضاء من
كتائب اللجان الثورية، بقرار فيه طلب إحالة أحد المعارضين لمشفى الأمراض العقلية؛
حيث يريدون تصفيته "نفسياً"، فقلت لهم قرار إدخال أيّ أحد للمستشفى، هو
قرار طبّي بحت، ولا يمكن أن أوافق على ذلك.
أما التصفية الجسدية فقد بدأها القذافي
بالتهديد الذي أطلقه في خطاب ألقاه يوم السابع من أبريل/نيسان سنة 1976 فقال إن
"الذين كانوا يشوّهون الجامعة، ويكتبون عليها من الداخل عبارات تشين الجامعة،
فهؤلاء من أعداء الثورة، ويجب تصفيتهم. أنا بدأت المعركة، والله العظيم، ولن أتراجع
حتّى ينزف الدم، ويجري في الشوارع مع أعداء الثورة". ونتيجة لهذا التهديد شنق
بطريقة وحشية غير مسبوقة، بأيدي اللجان الثورية القذرة، كل من عمر علي دبوب، ومحمد
الطيب بن سعود، وبثت مشاهد الإعدام عبر التلفزيون الليبي، وكانا أول من أعدم في
اليوم السابع من أبريل/نيسان الأسود. كما كان من ضحايا النظام أيضا في ذلك اليوم،
عمر الصادق الورفلي (الشهير بعمر المخزومي)، والمصري الجنسية أحمد فؤاد فتح الله
خنقا بميناء بنغازي البحري. وفي نفس اليوم من سنة 1983 شنق الطالب محمد مهذب احفاف
بكلية الهندية بجامعة طرابلس، وأعدم في نفس اليوم داخل السجن بطرابلس كل من عمر
خالد، وناصر محمد سريس، وعلى أحمد عوض الله، وبديع بدر، وعبد الله أبوالقاسم
المسلاتي، وصالح الزروق النوال، وحسن أحمد الكردي. وفي أبريل سنة 1984 شنق رشيد
منصور كعبار، وحافظ المدني الورفلي، داخل حرم جامعة طرابلس. وفي جامعة بنغازي شنق
مصطفى ارحومة النويري، بالإضافة إلى عدد من الضباط أعدموا أمام وحداتهم في نفس
الشهر بعد أن اتهموا بالمشاركة في انقلاب الرائد عمر المحيشي سنة 1975، كل ذلك
لنشر الرعب بين الناس، ولإرهاب الخصوم السياسيين الذين بدأوا في الهروب من جحيم
القذافي خارج البلاد.
لقد كان السابع من أبريل يوما بغيضا في
حياة الشعب الليبي، كانت تعقد فيه حفلات الإعدام التي تنقل مباشرة على الشاشات
ليشاهدها الشعب الليبي، بعضها كان في شهر رمضان المبارك، ولا حول ول قوة إلا
بالله. كان التلفاز ينقل الطلبة الأبرياء الأنقياء من أبناء الشعب الليبي، وهم
يساقون إلى حتفهم، مكبلين، ويساق أيضا زملائهم الطلبة في جامعتي طرابلس وبنغازي،
ليشاهدوهم، وهم يعدمون شنقا ويشاهدوا القتلة من أعضاء اللجان الثورية الدموية وهم
يتعلقون بأرجل الشهداء من الطلبة، شنقوهم بدون محاكمات، ولم توجه لهم أي تهم.
لقد تهمتهم الوحيدة أنهم رفضوا مصادرة
الحريات، وتغييب القانون، وتدخل سلطة الانقلاب في استقلالية اتحاد الطلبة. كان
السجين السابق صالح الشتيوي الدعيكي، يقبع في دهاليز وأقبية أحد مثابات اللجان
الثورية الدموية ينتظر مصيره، وقد حكم عليه بالمؤبد بتهمة توزيع مناشير ضد نظام
القذافي!! يصف الدعيكي شعوره وهو في تلك الحالة بأن السابع من أبريل المشؤوم (صار
موعدا للموت وللدماء لا يمر كسائر أيام الله “، ولم نكن بمنأى عن تداعياته نحن
السجناء السياسيين، وكيف نكون بمنأى عنه ونحن نشاهد مساءا من غادرنا صباحا، وهو في
حبل المشنقة في الجامعة التي تركها قبل إحدى عشر سنة، بعيدا عن القانون، وفي غياب
المنظمات الدولية.. لا يمر هذا اليوم إلا وأيدينا على قلوبنا وسؤالنا الدائم من
المستهدف ومن التالي؟".
وفي بداية سنة 1980 بدء القذافي ولجانه
الثورية في سلسة من الاغتيالات وعمليات التصفية الجسدية للمعارضين السياسيين في
الداخل والخارج معلنا: "التصفية الجسدية هي المرحلة الأخيرة في جدلية الصراع
الثوري لحسمه نهائيا". فقتل المحامي عامر الدغيس تحت التعذيب، وقتل أيضا رجل
الأعمال سالم الرتيمي، بعد أن استدرج إلى السفارة الليبية في روما، وعثر عليه في
صندوق سيارته وآثار الطعن والخنق بادية على جثته. وقامت اللجان الثورية في
أبريل/نيسان 1980 باغتيال الشهيد محمد مصطفى رمضان المذيع الشهير بـ (البي بي سي)
أثناء خروجه من صلاة الجمعة في العاصمة البريطانية لندن، وتمت تصفية عبداللطيف
المنتصر في بيروت، ومحمود عبدالسلام نافع، وفي نفس الشهر قتل في روما وكيل سيارات
"البيجو" عبدالجليل عارف أمام مشهد وبصر زوجته وبناته في أحد مقاهي
روما، وفي مايو من نفس العام قتل رجل الأعمال عبدالله محمد الخازمي في فندق
"تورينو" بروما، كما وجد رجل الأعمال فؤاد أبوحجر مقتولا بغرفته في فندق
بروما. وفي أبريل/نيسان 1985 قامت تلك اللجان القذرة بتصفية جبريل عبدالرازق
الدينالي فِي ألمانيا.. هذه فقط عينة لعشرات الجرائم يندي لها الجبين، جرائم أشرفت
عليها دولة بكل أجهزتها وكياناتها.
مرت عقود على جرائم اللجان الثورية،
ولم يملك أي قيادي منهم، الشجاعة للاعتراف والاعتذار، عن تلك الجرائم البشعة، تلك
صفات لا يملكها إلا رجل تحرك قلبه وعَلم أن هناك يوم سيلتقي فيه مع ضحاياه. حينها،
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وقال
صلى الله عليه وسلم: "يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده
وأوداجه تشخب دما فيقول يا رب سل هذا فيم قتلني حتى يدنيه من العرش".
كل من شارك في هذا الجرائم، عليه أن
يشعر بالخزي والعار حتى يلقى الله ويلقى خصومه فيقتصوا منه، وعليه التوبة الصادقة
قبل الممات، لعلها تخفف عنه بعضا من كربات ذلك اليوم وذلك اللقاء. حقا إن السابع
من أبريل يوم أسودا في تاريخ ليبيا لا يجب أن ينسى، بل يجب أن تكون ذكراه ناقوسا
يدق كل عام ليرفض النسيان.