نحن في حضرة القناة الوطنية الأولى التي قامت بإيقاف بث مسلسل "الجبل لحمر" قبل نهايته بأربع حلقات، بل وتجرّأت على بث الحلقة العشرين على أنّها الحلقة الأخيرة، لكن البناء الدرامي والتسلسل المنطقي للأحداث جعل الجمهور ينتبه إلى النهاية "المفتعلة" للمسلسل، وهو ما أثار ضجّة كبرى.
سيبدو لك الأمر غريبا في البدايةّ: قناة تلفزية عمومية
تونسية، وبكامل إرادتها، على إيقاف مسلسلها الذي تنافس به في الموسم الدرامي الرمضاني، مستفزّة بذلك جمهورها الذي بدوره شنّ عليها هجوما رافضا لقرارها المهين له والمستخفّ به. وقد تدافع عن قرارها، فلربّما أنّ هذه القناة مجبرة على خطوتها تلك، ولكن لا مشروعيّة لأي حكم أو موقف دون قراءة بسيطة لتاريخية العلاقة بين هذه القناة وجمهورها. ولو أدركت ذلك سيسقط الاستغراب.
والقناة الوطنية الأولى هي مؤسسة إعلامية عمومية تديرها الصحفية عواطف الدالي، حين أمر رئيس الجمهورية التونسية
قيس سعيد بإعفاء الرئيس المدير العام آنذاك محمد لسعد الداهش من مهامه، وتكليف الدالي بدلا منه.
وفي مسح بسيط لتاريخيّة العلاقة بين القناة والجمهور، ومن خلال تخيير جزء كبير من الجمهور للقنوات الخاصة، ومن خلال البرامج التي لا تحظى باهتمام الجمهور، سندرك حتما أنّ القناة تدير برمجتها دون "الوعي" برغبة الجمهور أو التفكير في تغيّر سماته في العصر الجديد. فليس الجمهور شريكا بالنسبة لها، وإنّما متقبل سلبي لا توليه اعتبارا، والدّليل إيقاف عمل درامي يحظى بنسب مشاهدة مرتفعة.
هل القرار إذن مجرّد خلل إجرائي في تعامل المؤسسة الإعلامية العموميّة مع الشركة المنتجة للـ"الجبل لحمر"، أو رفض "مقنّع" لقضية المسلسل؟
"الجبل لحمر": وجه تونس الباكي...؟
مسلسل "الجبل لحمر" عمل درامي اجتماعي يحملنا إلى عالم الأحياء الشعبية التونسية المهمشة والمفقرة والتي لا يبعد حالها بعد الثورة عن قبلها. فتعيش هذه الأحياء تحت وطأة المشاكل والصعوبات جرّاء ظروف مواطنيها. عالم مفتوح على الجريمة والعنف وسط تجاهل السلطة لأولوياتها.
أن يستعير المسلسل تسمية هذا الحي الشعبي "الجبل لحمر" فهو إشارة أنّه يطرح قضايا تشابه ما يعايشه هذا الفضاء العام والذي لا يتوقف عند هذا الحي بل يتعدّاه إلى أحياء كثيرة في تونس. وتظل الصورة الباكية لهذه الأحياء علامة مهمة من علامات "التلاعب" بأهداف الثورة التونسية وعدم تحقيق العدالة والانتقال الديمقراطي.
المسلسل من إخراج ربيع التكالي ويجمع عدد من أبرز الممثلين التونسيين: دليلة المفتاحي والشاذي العرفاوي ومحمد السياري ونصر الدين السهيلي وأميمة بن حفصية ومجد بلغيث وغيرهم من أبرز وجوه الدراما التونسية.
كيف تفاعل الإعلاميون مع القرار؟
أما الإعلامي برهان بسيس فقد قام بمقارنة بين مسلسل "الفلوجة" الذي بثته قناة تلفزية خاصّة وهي الحوار التونسي ومسلسل "الجبل لحمر" وهذا ما دوّنه: "بين مسلسل الفلوجة ومسلسل الجبل الأحمر مثال ساطع للفرق بين اقتصاد تتحكم فيه بيروقراطية الدولة وقطاعها العام واقتصاد محكوم بالمنافسة الحرة والمبادرة الخاصة....عمل جيد مثل الجبل الأحمر يقع في قبضة بيروقراطية القطاع العام يتوج في الإخير بمهزلة غير مسبوقة يترك فيه الفن والإبداع جانبا ليغطس في نقاش العقود والفصول والقوانين والإجراءات مع شيء من الرقابة والمقص الأحمق والدعاية الغائبة والتوقيت الاعتباطي الغير مفهوم".
ويواصل برهان بسيس في المقارنة بين الفلوجة والجبل لحمر قائلا: "الفلوجة بسيناريو بسيط وعقد مكررة بسيطة، يحقق النجاح الباهر لأنه صناعة ذكاء المبادرة الخاصة دعاية واتصالا وتسويقا. بلاد مازالت تحب تعيش مثل الاتحاد السوفياتي وطموحها في المستقبل أنها تقرب من الصين، طبعا بالبيروقراطية فقط موش بالعمل... ما ينجم يكون وضعها غير الوضع الجميل الي قاعدين نعيشو فيه.... مسلسل بلا حلقة أخيرة..... ولو أنو الفازة حلوة فلسفيا".
الإعلامي سمير الوافي: لهذه الأسباب صمت المخرج والمنتج عن الرقابة على المسلسل.
دوّن الإعلامي سمير الوافي على صفحته الرّسمية بفيسبوك: "حتى لا نظلم التلفزة الوطنية ونحملها المسؤولية وحدها.. رغم أنها تبقى المسؤولة على حسن تنفيذ العقد والمسؤولة أخلاقيا أمام مشاهديها والمسؤولة على التعاقد مع أي منتج غير جدي. فإن ما يتداول نقلا عن مصادر من إدارتها. هو أن منتج مسلسل " الجبل لحمر" لم يلتزم بالعقد الذي ينص على إنتاج مسلسل بعشرين حلقة فقط. وفق ميزانية محددة خصصت لذلك لا يمكن تجاوزها".
لكن المنتج لم يصل إلى النهاية في الحلقة 20 ولم يختم مسلسله وقرر التمديد لوحده بإضافة أربعة حلقات. وأعلم التلفزة بذلك في آخر لحظة ليضعها أمام الأمر الواقع وضغط الوقت. مطالبا بحوالي نصف مليار مقابل الأربعة حلقات. فرفضت التلفزة ذلك طبعا وأمام إصرار الطرفين على موقفهما توقف المسلسل في الحلقة 20 بدون نهاية وخاتمة سوى هذه النهاية الحزينة والمهزلة الخارجة عن السيناريو وعن الشاشة".
ويستدرك سمير الوافي ويضيف: "تلك هي قصة الجبل الأحمر حسب رد مصادر من التلفزة...وإذا صحت والمفروض أنها صحيحة...فإنها لا تبرئ التلفزة من مسؤولية التهاون في مراقبة تنفيذ الإنتاج وفي التعاقد مع منتج تنقصه الجدية ومن المسؤولية الأخلاقية أمام المشاهدين"؟
وجدير بالذكر أنّه قبل إيقاف مسلسل الجبل لحمر فقد صرّح بعض الممثلين على غرار محمد السياري أن المسلسل تعرّض لمقص الرقيب بحذف مشاهد حول المخدرات والعنف وهو ما أحدث خللا على البناء الدرامي للعمل.
وقال ممثل شاب من أبطال مسلسل "الجبل لحمر" حكيم بالكحلة أنّ ما حصل "فضيحة" في تاريخ التلفزة الوطنية. مضيفا أن مسلسل " الجبل لحمر" يمتدّ على 24 حلقة ولكن التلفزة اكتفت بعشرين حلقة رغم أنها كانت المبادرة بالتمطيط في الحلقات إلى 20 بعد ما كان في البداية 15 حلقة وتمت الموافقة على عشرين حلقة ولكن التلفزة خذلتهم لما فرض التمطيط أربع حلقات إضافية. وقال إن إدارة إنتاج المسلسل مطالبة بتقديم مطلب للتلفزة التونسية في بث بقية الحلقات والعودة للتفاوض معها مجددا.
والملفت للانتباه أنّه غداة الضجة التي تبعت قرار إيقاف مسلسل "الجبل لحمر"، تصدر المؤسسة الإعلامية العمومية "الحكومية" بلاغا تحذّر فيه العاملين بالقناة من إدلاء أي تصريح دون إذن من الإدارة، وحصرت أمر التصريحات لدى المكلف بالاتصال للقناة، دون أن توضح في أي بلاغ حقيقة الإيقاف، ودون أي اعتذار من جمهورها. ليبقى هذا الجمهور غاضبا، ولتبقى الإدارة صامتة، يبدو أنّه الشعار الجديد لمؤسسة إعلامية عمومية تموّل من المال العام في فترة حكم الرئيس قيس سعيد، الذي حافظ على تكليفه لرئيسة مديرة عامة بصفة مؤقتة تجاوزت السنتين.
صحيح أنّ التلفزة التونسية هي مؤسسة عمومية وتخضع للقوانين الإدارية العمومية، ولا يمكن أن تبثّ حلقات مسلسل غير مذكورة في العقد، ولكن لا يمكن في الوقت ذاته أن تتعامل مع هكذا وضعية دون اعتبار لهويتها كمؤسسة إعلامية مطالبة باحترام جمهورها وبرمجة بأكملها.
هذا الموقف الذي يتطلب اجتهادا لا يمكن أن تحسم فيه رئيسة مديرة عامة مكلفة ومؤقتة لأكثر من سنتين. وهذا الموقف كشف عن ضرورة مراجعة القوانين المسيرة لإدارة المؤسسة الإعلامية، والذي يجب ألا يكون نسخة متجانسة مع القانون العام للإدارة في أي مجال غير إعلامي.