شهد
السودان الحبيب في الأيام الماضية صراعا مسلحا بين قوات الجيش وقوات
الدعم السريع، رفع كل فريق السلاح في وجه الآخر متهما إياه باتهامات وادعاءات متعلقة
بالحرية والديمقراطية، وقع عدد من الجنود
المصريين الذين أرسلهم
السيسي للسودان في
قاعدة مروي أسرى لدى قوات الدعم السريع، ما أثار غضب الشعب المصري.
وبالنظر لحال السيسي ومواقفه التي يبديها في التعامل مع دول الجوار
في القضايا الإقليمية، نجد أن هناك تناقضا واضحا في المواقف التي يتخذها، فنراه مثلا
يدعم المليشيات التي يقودها حفتر في ليبيا، بل ويعتبرها جيشا وطنيا، بينما يرفض التعامل
مع الجيش الليبي المعترف به من المجتمع الدولي، وفي الحالة السودانية، يساوي السيسي
بين الجيش السوداني ومليشيات قوات الدعم السريع التي أعلنت تمردها على الجيش وقامت
بعمل عسكري ضده، ويكتفي السيسي فقط بتمني وقف القتال، ويطالب بالحوار بين الطرفين المتنازعين.
وبالرغم من سقوط شهيد ووجود أسرى مصريين لدى قوات الدعم السريع في السودان، بعكس الحالة في ليبيا، فإن السيسي يدعم مليشيات حفتر عسكريا وسياسيا ضد الحكومة الليبية، بل وانسحب سامح شكري وزير الخارجية من اجتماع لمجلس وزراء الخارجية العرب لمجرد حضور
وزيرة الحارجية الليبية، بينما في السودان يطالب فقط بالحوار بين طرفي النزاع.
قبل اندلاع الحرب بيومين، زار محمد بن زايد مصر في زيارة مفاجئة لم يعلن
عنها من قبل، وكانت محل جدل كبير، الذي تكشف لاحقا أنها كانت حول السودان الشقيق؛ لأن
الإمارات تقف بقوة خلف قوات الدعم السريع، وأرادت حث السيسي على دعم حليفها، أو في الحد
الأدنى اتخاذ موقف محايد.
صارت مصر رهينة لصندوق النقد وأسيرة لمنح خليجية أضعفت مكانتها قبل اقتصادها، وغابت مصر داخليا قبل أن تأفل شمسها خارجيا.
لقد تراجع الدور المصري على الصعيد الدولي، ولم يعد لنا تأثير في القضايا
الكبرى في منطقتنا ناهيك عن العالم؛ وفي تقديري أن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك، هو الانقلاب العسكري الذي وقع في 2013 واستولى به الجيش على السلطة، وأطاح بأول رئيس
مدني منتخب، وليس أدل على ذلك من اتصال وزير الخارجية الأمريكي بوزيري الخارجية السعودي
والإماراتي لبحث تطورات الأوضاع الحالية في السودان، والسعودية والإمارات لا تربطهم
أية حدود برية أو بحرية مع السودان، في حين أن مصر – الجار الأول - التي تعد السودان
عمقا استراتيجيا لها، وما يحدث بها يؤثر إيجابا وسلبا على الأمن القومي المصري، لم يتصل
بها أحد ولم يتم طرح اسمها أصلا في مفاتيح الحل في الأزمة السودانية الحاصلة الآن.
لقد تقزم دور مصر، بل وغاب تماما للأسف في قضايا دولية كثيرة –كانت
هي المنوطة بحلها حتى وقت قريب-؛ ففي آب/ أغسطس 2019 غابت مصر عن الساحة الداخلية للسودان، في حين تصدرت إثيوبيا الوساطة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، وتم توقيع
الاتفاق السياسي برعاية إثيوبية كاملة وغياب تام لمصر، فضلا عن الاتفاق الذي تم توقيعه
في كانون الأول/ ديسمبر 2022 برعاية "الرباعية الدولية" التي تضم السعودية
والولايات المتحدة والإمارات العربية وبريطانيا، في استمرار للغياب والتجاهل للدور المصري،
ما أسفر عن عدم اتصال أي دولة كبرى بمصر ومعرفة موقفها، والطلب منها التدخل لإنهاء هذه
الأزمة.
المنطقة الآن تشهد تغيرات كبيرة على مستوى التأثير والفعل، ولا شك أن
إسرائيل في عمق هذه التغيرات، بعد أن استطاعت عمل اختراقات كبيرة في التطبيع مع دول
عربية وخليجية، ولعل ما يشهده السودان الآن، يمثل دليلا على تنامي الدور الإسرائيلي
في المنطقة، حيث تقدم نفسها كوسيط بين الجيش وقوات الدعم السريع؛ بحكم صداقتها بكلا
الجنرالين المتقاتلين.
لقد ظل الدور المصري لعقود "رمانة ميزان" المنطقة، وكان حل
كل قضايا دول الجوار في القاهرة، بفعل المكانة التي كانت تحتلها مصر إلى أن جاء السيسي
بهذا الانقلاب الدموي، فغابت الديمقراطية والحرية، وتم خنق المجال العام، وصارت مصر
رهينة لصندوق النقد وأسيرة لمنح خليجية أضعفت مكانتها قبل اقتصادها، وغابت مصر داخليا
قبل أن تأفل شمسها خارجيا، إذ تبين أن من يقومون على أمر البلاد، لا يفهمون لغة المصالحات
بقدر ما يحسنون الانقلابات والخيانات والصراعات.