صدرت في هذه السنة، 2023، مؤلفات كثيرة تتناول الذكرى الـ20 للاجتياح الأمريكي في
العراق، 20/3/2003؛ وما أعقبه من إسقاط نظام صدّام حسين، وسلسلة الإخفاقات السياسية التي ستقود الولايات المتحدة من عثرة إلى أخرى، وصولا إلى مواجهات عسكرية شرسة مع فصائل جهادية تتبع «القاعدة» أو تنفرد عنها. كان سقوط مدينة الموصل في قبضة تنظيم «داعش»، بمنزلة ذروة قصوى فارقة توّجت سيرورة الغزو. غالبية تلك الأعمال، خاصة ما صدر منها باللغة الإنكليزية في بريطانيا والولايات المتحدة، خلصت إلى تسجيل أنساق شتى لفشل إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، وحكومة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير؛ في ضمان حدود دنيا من كسب السلام، بعد حسم
الحرب.
وتتوقف هذه السطور عند واحد من أفضل المؤلفات في هذا الصدد، كتاب أستاذ التاريخ في جامعة فرجينيا ملفن بول ليفلر، الذي صدر مؤخرا ضمن منشورات جامعة أكسفورد بعنوان «مجابهة صدّام حسين: جورج بوش وغزو العراق». اعتبار أوّل حكم هذا الاختيار، هو أنّ حجم أبحاث الكتاب، من وثائق وإفادات ومعلومات، ليست هائلة ومتنوعة وشاملة، فحسب؛ بل هي فريدة لجهة الموازنة بين المعطيات الأمريكية ونظائرها العراقية. الاعتبار الثاني، هو أنّ ليفلر يتمتع برصانة تأريخية مشهود لها، في حقل دراسي مزروع بكثير من الألغام والعوائق، فضلا عن المحظورات والمنازعات.
ويبدأ ليفلر من تبيان الفوارق بين برهة الهجمات الإرهابية يوم 11/9/2001، حين حظيت أمريكا بتعاطف عالمي سهّل على إدارة بوش الذهاب مباشرة نحو الغزو؛ وبين عقد واحد فقط، أعقب اجتياح العراق وشهد الكثير من المتغيرات: أمريكا متورطة في العراق، مكانتها العالمية آخذة في التراجع، وهيمنتها الاقتصادية تواصل الانحسار، ومعنويات الشعب الأمريكي تواصل الهبوط في غمرة انقسامات سياسية وحزبية وعنصرية؛ وعلى صعيد الخارج تتزايد مشاعر العداء لأمريكا، وتصعد في المقابل قوى جبارة مثل الصين، ويسجّل الانسحاب المخزي من أفغانستان نكسة متعددة المستويات، ويطرح الغزو الروسي في أوكرانيا مزيدا من التحديات، ويبحث بعض أبرز حلفاء أمريكا التقليديين (على شاكلة السعودية والإمارات) عن أصدقاء بدلاء.
ومنذ السطور الأولى، يعلن ليفلر أنّ الهدف من كتابه هو «تفحّص ما جعل الولايات المتحدة تقرّر غزو العراق، ولماذا انحرفت الحرب سريعا، وآلت إلى مأساة للعراقيين وللأمريكيين». وأيضا، يتابع ليفلر: «أحاول تصحيح مفاهيم مغلوطة واسعة الاعتناق، كما أثبّت أيضا بعض الحكمة المترسخة. أضع الرئيس بوش في قلب سيرورة صناعة السياسة حيث يقتضي موقعه. أشدّد على مخاوفه، وحرصه على أمن الوطن الداخلي. أناقش خططه الحربية واستراتيجية دبلوماسيته القسرية. وأشدّد على التمييز بين دوافعه وأهدافه، وأشرح كيف أنّ حربا من أجل الأمن، انقلبت إلى تمرين في بناء الأمّة والترويج للديمقراطية من دون تحضير ملائم».
وللمرء أن يتفق مع العديد من خلاصات ليفلر، خاصة تلك التي تعيد قراءة المشهد في ضوء الانتكاسات الفعلية المتعاقبة، وليس الآمال الأولى الكاذبة، وللمرء أن يختلف معه أيضا، في طائفة غير قليلة من تأويلاته لأسباب الاجتياح الأكثر خفاء، والأبعد خدمة لأغراض جيو -سياسية تتجاوز مآلات 11/9 وحوافزها. وبين الاتفاق والاختلاف ثمة هوامش عديدة، بدورها، تنفع حقوق كتابة التاريخ وإنصاف سلسلة الجوانب المأساوية التي كان الشعب العراقي أوّل دافعي أثمانها الباهظة، وما يزال يسدّد المزيد منها حتى الساعة. وثمة استطراد ملفات لا تنحصر داخل العراق وحده، ولا حتى ضمن الخطوط الأعرض لخيارات السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة؛ لأنها ببساطة تكشف قسطا غير قليل من نهج الولايات المتحدة في إدارة العلاقات الدولية، من موقعها كقوّة كونية سياسية وعسكرية واقتصادية وتكنولوجية عظمى، بمعزل هذه المرّة عن هوية سيّد البيت الأبيض، وما إذا كان جمهوريا أم ديمقراطيا، بوش الأب أم الابن، بيل كلنتون أم باراك أوباما.
وبين أبرز عناصر الملفّ السياسي خلف قرار الغزو، استقرّ ما حلم به رجالات بوش الابن (وخاصة أصحاب «مشروع قرن أمريكي جديد» أمثال بول ولفوفيتز وريشارد بيرل) حول تحويل العراق إلى «دولة ـ أمثولة» حاملة للقِيَم الأمريكية (في طبعتها الرجعية أو النيو ـ محافظة تحديدا) إلى أربع رياح الشرق الأوسط. والحال أنّ أسابيع قليلة فقط أعقبت الاجتياح كانت كافية لدفع هذا الهوس إلى الكواليس بعض الشيء، ليس لأنّ أصحابه فقدوا الإيمان به (عن حسن نيّة أو سوء طوية)؛ بل لأنّ الأولوية القصوى في أشغال الإدارة كانت ممنوحة لاعتبارات التمهيد العسكري على الأرض، وإنقاذ ماء وجه الحليف الأبرز، رئيس الوزراء البريطاني بلير.
وفي استراتيجية السيطرة على النفط العراقي، الاحتياطيّ الأوّل في العالم كما كانت التقديرات تشير عشية الغزو، لم تكتفِ الولايات المتحدة بهدف تأمين حاجاتها إلى الطاقة فحسب، بل أرادت أيضا إكمال طوق السيطرة غير المباشرة على نفط السعودية والكويت، والإمساك تاليا بورقة ضغط اقتصادية ـ سياسية كونية حاسمة، أطلق عليها جوستن بودر تسمية «الفيتو النفطي». وفي الترجمة العملية لأبجدية تلك السيطرة، كان يتوجب أن يصبح في وسع الولايات المتحدة الضغط على اقتصاديات منافسة (مثل الاتحاد الأوروبي واليابان)، أو أخرى مرشحة للمنافسة مستقبلا (الصين وروسيا والهند).
كذلك لم يكن قرار الغزو خاليا من هاجس ما أمكن تسميته «الاستيطان العسكري»، بمعنى حاجة الولايات المتحدة إلى الوجود العسكري، الدائم والكثيف والمستقرّ، في منطقة الشرق الأوسط عموما، والخليج خصوصا، لكن خبراء التخطيط في مجلس الأمن القومي الأمريكي، ثمّ في وزارة الدفاع، كانوا على يقين بأنّ استمرار الوجود العسكري المكثف في السعودية والكويت يتحوّل تدريجيا إلى عبء سياسي؛ إذْ بات بمنزلة حاضنة خصبة لتفريخ مشاعر العداء للولايات المتحدة، واستيلاد المزيد من نماذج أسامة بن لادن، وتعريض أمن النظامين الحاكمين لمخاطر مباشرة. وهكذا، فإنّ قرار غزو العراق واحتلاله كان يعني، أيضا، الاستيطان فيه عسكريا إلى أمد طويل، وتخفيف العبء عن دول الخليج، وحراسة دولة الاحتلال الإسرائيلي عن بُعد، وإحكام القبضة على المنطقة بأسرها عمليا.
ويبقى أنّ الدرس الختامي، الأشبه بتأمّل واقعي لمجمل سردية الاجتياح وليس لأية حكمة مستقبلية، هو التالي في يقين ليفلر: «قد يكون من باب العزاء التفكير في أنّ الأمر كان سينتهي على ما يرام لو توفّر لنا صانعو سياسة أكثر نزاهة. أمّا الحقيقة، فهي أنه من الصعب حيازة معلومات دقيقة وتقييمها موضوعيا. من الصعب قياس التهديد. من الصعب موازنة الوسيلة مع الغاية. من الصعب ترويض الميول والتعصبات. من الصعب وَزْن ردود أفعال أناس لا يعرف عنهم المرء إلا القليل. من الصعب التحكّم بمخاوفنا، وضبط سلطتنا، ولجم غطرستنا».
وقد تصحّ لائحة الصعوبات هذه، في كثير أو قليل، غير أنها لا تجبّ، وهيهات أن تُبطل، حقيقة كبرى تكررت على مدار الحروب جمعاء، وحروب الولايات المتحدة خصوصا، وتحديدا: أنّ كسب الحرب لا يعني البتة كسب السلام، السلام بمعناه الأعرض المركّب الذي يتجاوز وقف إطلاق النار وانتهاء الأعمال العسكرية، الذي لا يعني ما هو أقلّ من استثمار نتائج الحرب لصالح القوّة الظافرة، في المستويات الجيو ـ سياسية والاقتصادية في البدء؛ ثمّ في المستويات الأخرى التالية، المباشرة وغير المباشرة.
وحال الولايات المتحدة في عراق هذه الأيام ليس في حاجة إلى تمحيص، في ضوء تلك الحقيقة الكبرى.
(القدس العربي)