مقالات مختارة

إسرائيل على مفترق طرق تاريخي… وتتجنب المسرب الآمن

أزمات عديدة ومتشعّبة ومتداخلة تواجه دولة الاحتلال- جيتي
لا أعتقد بجديّة كل ما صدر عن القيادات العسكريّة والسياسيّة في إسرائيل، في الأيام الأخيرة، من تحذيرات وتهديدات بقرب انفجار عمليات عسكريّة، بمبادرة من «حزب الله» اللبناني، قد تكون الصاعق لتفجّر حرب إقليميّة، إضافة إلى تلميحات عن احتمال توجيه ضربة إسرائيلية لإيران، لعرقلة تقدمها على صعيدي إنتاج أسلحة تقليدية بالغة التطوّر، والاقتراب من إمكانية إنتاجها سلاحاً نووياً.

صحيح أن إسرائيل تملك قدرات عسكرية وأمنية هائلة، تستند إلى كمٍّ هائلٍ من القدرات والكفاءات التكنولوجية، تغريها وتدفعها لخوض مغامرة عسكرية، تهرب بفضلها من مواجهة أزماتها العديدة، المتشعّبة والمتداخلة، والتي يمكن تلخيصها على أصعدتها الثلاثة:

ـ أزمة نظام الحكم فيها، التي تمثّلت بمسلسل معارك انتخابات متتالية، «أنجبت» أزمةً أكثر تعقيداً، حيث انتهت الحلَقة الأخيرة منها في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بفوز أحزاب اليمين بـ64 مقعداً في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) من أصل 120 مقعداً، وحيث تمكنت أحزاب اليمين هذه: (اللّيكود) بقيادة نتنياهو؛ واليمين العنصري الفاشستي، آيديولوجياًّ، (الصهيونيّة الدّينيّة) بقيادة سْموطرِتش؛ واليمين الإجرامي المجنون، المُزايِد بفجاجة على كل يمين صهيونيٍّ عنصري آخر، (القوّة اليهوديّة) بقيادة بن غفير؛ وحزبا «الحريديم» الدّينيّين، غير الصهيونيّين: شاس (بقيادة دِرعي) ويَهدوت هَتوراة (بقيادة غولدكنوف)؛ من تشكيل حكومة ظلاميّة، مغرقة في العنصرية، استفزّت، بتوجهاتها الانقلابية على «نظام الحكم» في إسرائيل، وفي العمل للسيطرة على السلطة القضائية فيها، مئات آلاف الإسرائيليين، الذين انطلقوا في مسلسل تظاهرات أُسبوعية حاشدة، على مدى العشرين أسبوعاً الماضية، شملت كل قطاعات الجماهير الإسرائيلية، بما في ذلك قيادات عسكرية وازنة (في الاحتياط) في سلاح الطيران وغيره من الأسلحة ذات التأثير الكبير والحاسم.

ـ أزمة علاقاتها الدولية، بشكل عام، وتحالفاتها مع دول المعسكر الغربي، وخاصة علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، هذه العلاقات التي تمرّ هذه الأيام في مرحلة حرجة للغاية، أبرزتها، بشكل خاص، حقيقة الخروج الأمريكي عن تقليد ثابت منذ عقود، بتوجيه الرئيس الأمريكي الدعوة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بعد أيّام من تشكيل حكومته، للقيام بزيارة رسمية إلى البيت الأبيض، والاجتماع بالرئيس الأمريكي، وتكرار التأكيد على التحالف الاستراتيجي، الذي يضمن حماية أمريكية، عسكرية وسياسية واقتصادية، لإسرائيل. وها قد مرّ على تشكيل نتنياهو لحكومته الحالية خمسة أشهر دون أن توجّه له الدعوة، وليس هناك من دلائل على قرب حدوث ذلك.

ـ أزمة انسداد الأفق في وجه «جوهرة» السّياسة الإسرائيلية، وهي «اتفاقيات أبراهام» التي بادرت إليها حكومات نتنياهو السابقة، وتابعتها، بعنجهية واضحة، حكومة بينيت وبعدها حكومة لبيد. وفحوى هذه السّياسة هو محاولة القفز عن «الجسر الفلسطيني» وبما يترتب على إسرائيل من استحقاقات، واستبدال ذلك بمسيرة التّطبيع المجاني مع «الدول العربية السنّية المعتدلة» (كما تسمّيها إسرائيل) تحت شعار «السلام مقابل السلام». وقد كانت المصالحة السعوديّة الإيرانيّة برعاية صينيّة، ضربة قاضية لهذه السياسة. وجاءت القمّة العربيّة في جدّة، بتأكيدها على محوريّة القضيّة الفلسطينيّة، وعلى حقوق شعبنا الفلسطيني المشروعة، وتأكيد الالتزام بالمبادرة العربية في قمة بيروت 2002، لتثبيت وترسيخ هذا التّوجّه العربي، ولتجد إسرائيل نفسها وحيدة، بين دول وشعوب المنطقة، في مواجهة ما تتخوّف منه، من تعاظم وتطوّر القدرات العسكريّة الإيرانيّة.

في ظل مجمل هذه الأزَمات المحليّة والدوليّة والإقليميّة، التي تمرّ بها إسرائيل، تقف «العرَبَة» الإسرائيلية على مفترق طرق، وليس فيها قيادة عاقلة، لا قيادة حكيمة، ولا قيادة شجاعة، تنظر إلى المستقبل، وتختار التقدّم في المسرب الآمن الوحيد، مسرب، أو قُل «جسر» الاعتراف بالحقوق الوطنية السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني. في إسرائيل، حالياً، ومنذ ما بعد بضعة أشهر على توقيع اتفاقية أوسلو، تولّت قيادة إسرائيل حكومات تبنّت سياسة الالتفاف والتراجع عن «اتفاقية أوسلو» وإعدامها، قيادات صهيونية عنصرية، في الائتلاف الحاكم، كما في المعارضة، تحصر اهتمامها في تمرير فترة قيادتها لإسرائيل، دون التّقدم الجريء في المسرب الآمن الوحيد: مسرب «حل الصّراع» والتقدّم بصدق للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وتسديد كل الاستحقاقات المترتّبة على هذا الاعتراف.

لم يبق من المسارب المفتوحة عند المفترق أمام إسرائيل، إلا ثلاثة مسارب، اثنان منهما، يفتحان على بعضهما ويلتقيان: مسرب افتعال صدام عسكري مع إيران، ومسرب التحرّش وافتعال صدام مع «حزب الله» اللبناني. والمسرب الثالث: مسرب التّقدّم لحلٍ مقبول (مرحلياً) مع الشعب الفلسطيني، وهو المسرب الآمن الوحيد.

تعرف القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية قدراتها على توجيه ضربة موجعة لإيران، وتعرف أيضاً قدرتها على توجيه ضربة بالغة القسوة للبنان، وأكثر قسوة لحزب الله.

لكن هذه القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية تعرف أكثر من جميع الآخرين حقيقتين أخريين:
ـ تعرف أنّه مهما كانت قسوة ضرباتها لحزب الله، ولشعب ودولة لبنان، ولإيران، فإنها ستُقابَل بردود عسكرية فورية بالغة القسوة، وأنّ ضرباتها لن تكون قاضية، لا على حزب الله ولا على لبنان ولا على إيران، بل ستكون، بالتأكيد، حافزاً للتّحضير لجولة قادمة.

ـ تعرف أن «المجتمع الإسرائيلي المُدلّل» ( منذ حرب حزيران/يونيو 1967، وأكثر من ذلك: منذ اتفاقية كامب ديفيد) غير قادر، وغير مؤهّل، لتحمّل ضربات بعشرات ومئات آلاف الصواريخ الدقيقة، من حزب الله، ومن إيران وحلفائها الآخرين.

هذه القناعة لدَي، هي القاعدة التي توصلني إلى التقدير بأنّ كلّ تصريحات المسؤولين الإسرائيليين في الأسبوع الأخير، هي مجرّد «تهويشات» لا أكثر، وأنّها موجّهة، في نهاية المطاف، للاستهلاك المحلّي في إسرائيل، لما فيه مصلحة نتنياهو الشخصية، واستجداءً إسرائيلياً للإدارة الأمريكية لتوجيه دعوة لنتنياهو للبيت الأبيض، بهدف التهدئة، ولتأكيد استمرار التحالف والضّمان الأمريكي لسلامة إسرائيل.

لا يجوز لهذه القناعة أن تكون سبباً لأي تراخٍ أو استرخاء من جانب حزب الله أو إيران. فإسرائيل، وبقياداتها الحالية خاصّة، ليست دولة عاقلة، وقد تُقدم حكومة نتنياهو غير الحكيمة، ولأسباب خاصة بوضع نتنياهو الشخصي، وبفعل عنصرية وغباء قيادات أحزاب ائتلافه، على مغامرة، ولا بديل عن اليقظة الدائمة، والاستعداد للرّد.

ماذا، بعد كلّ ما تقدّم، عن فلسطين؟.
فلسطين، الرسميّة والـ»شرعيّة» غائبة. وهذا الغياب الضّار، ليس نتيجة لأسباب موضوعيّة. إنه غيابٌ لأسباب فلسطينية ذاتيّة. فلسطين غائبة، ومُغيّبة، بفعل، والأصحّ: بـ«انعدام فعل» قيادتها الرسميّة والـ«شرعيّة».

(عن صحيفة القدس العربي)
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع