شهدت
تونس خلال شهر أيار/ مايو 2023 أمطارا استثنائية بعد شتاء قاحل وربيع
لم نعشه، خالفت فيها الطبيعة قواعد سيرها على الضفة الشرقية للمتوسط. استبشر قوم
كثير بالغيث، وعبّر الأكثر عن فرحة أقرب إلى فرح الطفولة بمنظر السيول، وتبادل
نشطاء المواقع الاجتماعية الصور والفيديوهات من كل منطقة غمرتها السيول. وظهر على
السطح وعي جديد بأهمية المطر في تونس، حتى إن طبقة الموظفين الخائفين على أحذيتهم
صمتوا صمتا وربما شارك الكثير منهم في الفرحة متخليا عن سلامة حذائه.
المقال لن يفصّل في تعبيرات الفرح، لكنه يحاول ربط هذا الفرح بظواهر أخرى
تحدث في تونس؛ يمكن وصفها بشيء من التفاؤل بأنها إرهاصات ثورة زراعية في تونس. تقع
خارج رغبة السلطة وطبقتها التجارية المناولة في الخدمات والسياحة تحت يافطة
أيديولوجية اسمها جلب العملة الصعبة، ويعنون بها استدرار النقد الأجنبي. سنفصل عسى
أن يكون لتفاؤلنا عمق أوسع من هذه الورقة.
الغيث يغمر تونس
أغلب التونسيين صاروا يتحدثون يوميا عن الأمطار وعن احتياطي السدود وعن الزراعات الممكنة في هذا الفصل، ويجادل في كلفة المعيشة بعد الغيث وانتبه كثيرون إلى أن تونس تعيش من ماء السماء لا من كرم الحكومات
لست خبيرا في
المناخ لكني أكتب ملتصقا بهموم الفلاحين فأنا منهم. السنوات
الأربع الماضية مرت على تونس قاحلة في جملتها، حتى وصلت الحكومات إلى تقسيط مياه
الشفة للحفاظ على ما تبقى من مخزون ضنين. وقد انتهى شهر نيسان/ أبريل بنُذُر سيئة،
لكن شهر أيار/ مايو خالف التوقعات المناخية للمختصين. المفاجئ في الأمر أن أغلب
التونسيين صاروا يتحدثون يوميا عن الأمطار وعن احتياطي السدود وعن الزراعات الممكنة
في هذا الفصل، ويجادل في كلفة المعيشة بعد الغيث وانتبه كثيرون إلى أن تونس تعيش
من ماء السماء لا من كرم الحكومات.
هذا وعي جديد أو لعله كان كامنا وعبّر عن نفسه لأول مرة بهذا الحماس،
ونقرأه كما يلي: وصل التونسيون إلى حالة يأس من حكوماتهم (دون تسمية واحدة أو
مرحلة)، فكل الحكومات تجاهلت الأرض والفلاح والاحتمالات التنموية والمعيشية
الكامنة في الأرض.
الوعي بتقصير الحكومات يعبّر الآن عن نفسه بهذا الفرح الغامر بنزول الغيث،
كأن لسان حال التونسيين يقول انتهت حلول الأرض ولم تبق إلا حلول السماء (وفي
السماء رزقكم وما تعودون). ربما استحضر المؤمنون الآية، ولكن جمهورا كثيرا يعبر عن
في نفسه في وسائل التواصل قال كلمة حاسمة: تونس بلد الفلاحة ومنها تعيش وبها تنمو،
وليست السياحة وطبقة مستثمري السياحة من سيقود تونس نحو خلاصها، وليس الفرح بالغيث
إلا بعض علامات هذه الثورة الزراعية.
بلد الفلاحة ومنها تعيش وبها تنمو، وليست السياحة وطبقة مستثمري السياحة من سيقود تونس نحو خلاصها، وليس الفرح بالغيث إلا بعض علامات هذه الثورة الزراعية
مجاهدو البذور غير المهجنة
منذ سنوات نتابع بعض نشطاء يمكن تصنيفهم نشطاء بيئة على غير منهج حزب الخضر
الأوروبي؛ أخذوا على كاهلهم استعادة البذور التونسية الأصلية في مجالات زراعية
مختلفة، مستبقين بما يفعلون جهدَ الحكومات الكسولة في الحفاظ على البذور. وقد
تواصلوا بطرق عصرية ونشأت شبكات متطوعة تنفق من مالها وجهدها لتبادل البذور في
كامل القُطر، فتم استرجاع الكثير من الأصول في الحبوب والبقول والغلال، معلنين قرب
نهاية سلطة موردي البذور على الفلاحين.
تسرب تجار داخل الحملة التطوعية وشوّهوا فاعليتها، لكن التيار صار أقرب إلى
الموضة أو الهوى الشعبي العام. ويحفظ الناس الآن اسم الشتيوي في مجال استعادة بذور
القمح والشعير التونسية الأصلية، واسم السيد حافظ كرباع في مجال استعادة بذور
القرعيات والبقول والخضر. ونعتقد جازمين أن الاسمين صارا من أسماء الأعلام وقد بثا
في الناس روحا جديدة، لذلك تجوزنا في توصيفهما و"أتباعهما" بمجاهدي
البذور. هذه علامة فارقة في تاريخ
الزراعة في تونس وسيكون لها أثر عظيم وإن تقدم
بخطى فردية وئيدة، ككل حركات الوعي التاريخي التي كنا نطالع عنها كتبا كثيرة ولا
نراها على الأرض. هؤلاء طلائع ثنايا ثورة زراعية قادمة، وعلامتنا على ذلك ما
نلتقطه من غضب تجار توريد البذور المهجنة والمواد الكيماوية المستعملة في الزراعة،
وهي خبزة باردة منحتها السلطات لهذا اللوبي الساكن بعضه في شرايين وزارة الزراعة.
الحكومات تستجدي الوكالات السياحية
منذ وضع الهادي نويرة (وزير أول بورقيبة في عقد السبعينيات) خطة الاتجاه نحو
اقتصاد الخدمات وراهن على القطاع السياحي دخلت تونس الخضراء (اسما وفعلا) في منطقة
النسيان، وتحمّل الفلاحون عبء كل المراحل، فهم الأقل استفادة مما تفعل الحكومات
(الدولة).
وقد وصل قطاع السياحة التونسي إلى آخر قدرته على الجذب في سوق سياحية
معولمة، ونزلت طبقة السياح الوافدين إلى تونس من الطبقة الوسطى الأوروبية إلى فئات
العمر الثالث وأصحاب مِنَح البطالة (بما في ذلك مفقري روسيا بوتين)، لذلك انهارت
مردودية القطاع السياحي (وإن تكتمت طبقة المستثمرين على الأرقام)، وانهارت قدرات
القطاع التشغيلية فلم يعد يستقطب الشباب (وظهرت العمالة الأفريقية المفقرة في
النزل).
معارك تونسية قادمة سيكون فيها كسر عظم بين المؤمنين بالأرض والفلاح، وبين المرابطين على الربح السهل من وراء السياحة. هنا ستقع الثورة التي لم تستوعبها النخب المثقفة التي غرقت في كراسات الثورات العالمية، متناسية أن الفلاح والأرض هما عمق كل ثورة ترفع شعار الاستقلال الغذائي
هذه حقيقة يعرفها التونسيون ونراها في خلفية الفرح بالغيث، فالناس يبحثون
عن مخارج من أزماتهم وتبدو لنا العودة إلى الأرض بعض ما يفكرون فيه. لكننا نتحفظ
رغم التفاؤل عن سُبل تصريف هذا الوعي الزراعي المستعاد، فليس بإمكان موظف نزح إلى
المدينة أن يستعيد أصوله الزراعية وأن يستعيد أرضه وأن ينتقل من وضع الموظف إلى
وضع المزارع.
هذا الوعي لا ينتج عودة إلى الأرياف، لكنه ينتبه إلى أهمية العمل في
الزراعة ونراه ينتهي إلى فرض شروط توجيه قدرات الدولة إلى دعم المزارعين، فأغذية
تونس تنتجها الفئة الأكثر تعرضا للاضطهاد.
لن يكون الأمر بسهولة التعبير عن الرغبة أو الأمل، لذلك فإن معارك تونسية
قادمة سيكون فيها كسر عظم بين المؤمنين بالأرض والفلاح، وبين المرابطين على الربح
السهل من وراء السياحة. هنا ستقع الثورة التي لم تستوعبها النخب المثقفة التي غرقت
في كراسات الثورات العالمية، متناسية أن الفلاح والأرض هما عمق كل ثورة ترفع شعار
الاستقلال الغذائي؛ لأنه إذا استقل الفرد في غذائه استقل سياسيا بالتبعية.
هل أفرطنا في التفاؤل وبنينا وهما جميلا؟ سنتابع فرحة الناس بالغيث فهو ما
يزال يظلل سماء تونس، وننتظر أن يسقط الفلاح التونسي كما فعل دوما حكومات المناولة،
عسى أن ينتبه مستقبلا إلى أن التاجر أوضع من الفلاح وأقل فائدة منه للبلد.