"على هواك"، عنوان العرض، عنوان حمال معان: افهمه كما تريد، و يمكن تصنيفه جماليا بالمسرح الآلاتي الذي يقوم على تحليل وتفكيك العرض الموسيقي من حيث أبعاده الحركية والإيمائية.
ويمكن أن نفهم العنوان في بعد العرض التعددي الثري الذي يتداول مناخات وعوالم كثيرة يمتزج فيه الوطن بالذاتي، وتتعدد داخله الأصوات المتنافرة في ظاهرها كالآلات التي تلتقي في نغمة واحدة، تؤطرها وتوجهها، عصا المايسترو.
واصل توفيق الجبالي تفرده ليقدم العرض بأسلوب تجريبي خارج عن المألوف وصفه بأنه "مسرحي آلاتي"، وليس مسرحا موسيقيا، بما يتيح إلغاء مفاهيم السرد والشخصية والتمثيل والأداء الموسيقي".
ويحيل عنوان
المسرحية (على هواك) إلى القاموس الموسيقي حيث يكرر المؤدي مقطعا بحسب الرغبة بطريقة حرة وليست مقيدة بالأصل. في المسرحية الكل يعزف "على هواه" أو يغني "على هواه"، دون ضوابط أو مايسترو يوحد الجميع حول توليفة، عزف ليس ارتجالا منضبطا ولا فورة ابداعية تتجاوز المألوف، إنما هي شيء قريب من الفوضى والعبث. وقحة هي مشاهد العرض، مجسدة اللامعنى، تضحكُنا من عوراتنا، وما يحيط بنا من بؤس، ضحك صنع بحرفية، باك يتألم، حرفته بلسم. ما هي الموسيقى المنفلتة إن لم تكن، "كالجنون، الذي يتبرّز على الواقع". أي دور للفنان والحالة تلك، وهولا يملك شيئا، بل إنه “لا يمسك شيئا في يديه". والعبارة الأخيرة هي مفتاح من مفاتيح العرض.
"مسرح آلاتي". "مسرح آلاتي بالضرورة وليس مسرحا موسيقيا بما "يتيح إلغاء مفاهيم السرد والشخصية والتمثيل والأداء الموسيقي". الموسيقى باعتبارها فنا والتي يُفترض أن تكون شرفتنا على العالم في كونيته وشموليته وروعته، نحن ندوس بها على أكثر الأشياء قداسة بأناملنا العازفة بالروح وبحناجرنا المحشرجة وأصواتنا القريبة إلى النحيب والعويل تحت مسوغ التطريب".
نروّض اليأس لنلاعبه
في مشهد العميان كم من الألم بسبب الرداءة التي تحيط بهم، نستحضر رواية الكاتب خوزي ساراماغو "العمى" حيث تتمنى زوجة الطبيب أن تصاب بالعمى للتخلص من إحساسها بالألم مما تراه من بؤس، أليس العمى، هو العيش في بيئة لا أمل فيها ولا صلاح؟ وما دور الفنان إذا لم يكن منع تلك اللحظة؟ ألم يقل توفيق الجبالي متحدثا عن " على هواك": "نروّض
اليأس لنلاعبه، ونمازح الحزن لنغلبه؟".
على هواك '' تصور ودراماتورجيا وإخراج توفيق الجبالي ونصوص عياض الشواشي وتوفيق الجبالي وشارك في العرض '' أبناء فضاء آلتياترو'' ونوفل عزارة عصام العياري، في دور "
فرويد"، ومحمد صابر الوسلاتي، وياسمين الديماسي، التي تميزت بحضور لافت على الركح، ووليد العيادي وآمال العويني.
تشريك فناني التياترو اختيار منهجي، وفني، وعملي، متواصل منذ خمسة عشر سنة، أي منذ بداية التكوين. نخبة من الممثلين صقلهم توفيق الجبالي مثل فاطمة صفر، التي منحت دورها رونقا، وأحسنت توظيف صوتها غناء، كما تميزت سيرين بن يحي بتلقائية ملفتة للنظر، وأبدت مطر إشراق، موهبة. عن هذا العمل قال الجبالي: ''رغم نفوري من خوض تجارب مع العموم إلا أنّ إصرار زينب فرحات (زوجة الجبالي الراحلة المناضلة) ودفعني لإنجاز هذا المشروع ''، موّضحا أنه ليس سعيدا بعلاقته مع المؤسسات الثقافية ولكن التزامه الأخلاقي ووفاءه للراحلة زينب فرحات جعله ينجز هذا العمل ويقدمه للعموم وفي بعض الفضاءات الرسمية.
وحين حرم توفيق الجبالي من حقه في عرض هذا العمل ضمن أيام قرطاج المسرحية كتب ساخرا، متحديا: "بلّغ أصدقاءنا الذين يتساءلون عن سبب عدم برمجة عملنا الأخير على "هواك "في فعاليات أيام قرطاج المسرحية، أن اللجنة الفنية القائمة على شؤوننا ابلغتنا قرارها بعدم برمجة "على هواك" لخلو ملف ترشحنا لشريط مصور للعمل، وان كنا نفخر بهذا القرار الحكيم السامي، إلا أن فخرنا كان سيتقد أكثر ويورق ويزهر، لو كان وراء هذا القرار الإداري موقف نقدي/جمالي من هذا العمل.
إن امعان أولي الألباب في ازدراء منجزنا منذ عقود وتحفزهم للبحث عن مسوغات وهمية/بارانويية لتصنيفنا إداريا وعجزهم عن تمثل ماهية الفن عموما، والمسرح خصوصا، وقطيعته الأنطولوجية مع الواقع كشرط من شروط تعريفه، يزيدنا اعتزازا باغترابنا الاختياري عن عوالهم الإدارية/الجامدة، وطول المسافات الفاصلة بين ممارساتنا الجمالية بيروقراطيتهم، وحقولها الدلالية القاحلة".
"إلى حورية زوجي بالجنة"
عمل منفلت ومتشظ، لا يمكنك الإمساك بخيوط أفكاره، ما لم تروض شظاياه المتناثرة في زمن يمتد على سنوات حبلى بنكسات متتالية، هي خيبات مجتمع تراكمت. وأنت تتابع "على هواك" تدرك أنك في قبضة نص عنكبوتي، التف حول مكامن حيرتك ضحكا وبكاء. إنها الشخصية التونسية المتناقضة، التي حيرت المنصف وناس، والهادي التيمومي، وأساطين علم الاجتماع في تونس.
لا أحد أفلت من مشرط الجبالي، الكل يتوقع أن تناله سهام نقد يرهف الحد فتسيل الدماء على الركح دون أن تلطخه، لا فرقة ناجية على ركح الجبالي، شعراء وساسة، وأطباء، وملل ونحل، وعلماء نفس. ولا بد هنا أن نستحضر المشهد الساخر، الذي طالب فيه فرويد بعرضه على طبيب نفسي. شراك الجبالي لا يعنيها أن تكون شيعيا، أو شيوعيا، أو سلفيا... هكذا هو توفيق الجبالي الذي كانت جل أعماله، ب "السواك الحار"، مثل "ثلاثين وأنا حاير فيك"، و"صفر فاصل"، و"مانيفستو السرور".
ماذا على الركح (خشبة المسرح) سوى لغة ليست ككل اللغات، وقصائد لا تشبه ما يقوله الشعراء. القوافي منفلتة، والموازين على غير رحاها تدور، والأجساد ترقص خارج نغمات، كأنها هياكل اعتنقت العبث، لا خرائط ولا عناوين، ولا مفر، ولا مستقر، زال الفارق واختفت الحواجز، وتاهت المعاني، وتمزقت الأوتار من آلات، تكسر سٌلّمها، وذبلت نوتتها، وتاه إيقاعها، في غياب المايسترو. لا أحد بيده شيء، وهذه العبارة المفصلية التي تكررت في العرض هي أحد مفاتيحه.
لا أحد يملك شيئا في يده. جمع الركح موسيقيين وممثلين مرروا بشكل سري ألمهم، عبر ضجيج آلاتهم التي لم تستطع حجب صخب أرواحهم الثائرة، كانت الموسيقى في العرض جوهرا لا مجرد مكمّل أو ديكور.
هذه المسرحية إجابة على الخراب، والتخريب، لماذا تريدون مسرحا يلمّع، ويغطي عوراتكم، وخيباتكم، ونكساتكم المتتالية؟ لماذا تريدون التغطية على حالات العطب والعمى، والروائح العطنة، التي تنبعث من المدينة غير الفاضلة؟
"لا أمسك شيئا في يدي"، سوى قبضة ريح أو أغنية تخٌجّ كرياح بين فج الخراب في كل مستوياته. وتكتمل صورة الخراب، برسالة امرأة: "إلى حورية زوجي بالجنة" وتبدأ في تعداد عيوبه ومثالبه بدءا بالشخير وغيره. أو تلك التي يستنجد فيها عالم النفس سيغموند فرويد بممثل آخر بحثا عن استشارة قانونية حول "هذه العيشة الكلبة"