قبل أكثر من ثلاثة عقود مضت بقليل، ومع انتهاء الحرب الباردة التي استمرت نحو أربعة عقود ونصف العقد، أي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، تبوأت الولايات المتحدة منفردة قيادة العالم أحادي القطب، بعد انهيار القطب المنافس، إثر تفكك الاتحاد السوفييتي، وتساقط الأنظمة الشيوعية التي كانت تحكم دول العالم الثاني، الذي وقف في وجه العالم الأول، ومنعه من إعادة تقسيم العالم، بعد الحرب العالمية الثانية بين الدول الرأسمالية، كما سبق لتلك الدول أن فعلت بعد الحرب العالمية الأولى.
وكانت الحرب الباردة سبباً في عدة حروب بين زعامتي العالم ثنائي القطبية، خاصة حين كانت إحداهما تتدخل عسكرياً في بلد ما، فتقدم الأخرى كل أسباب الدعم العسكري والسياسي للدولة التي تحارب منافستها على الزعامة الكونية، وقد حدث هذا في فيتنام، وفي أفغانستان، والعديد من دول أفريقيا وآسيا، وحتى بعض دول أميركا اللاتينية، ولهذا ظن الكثيرون أن انتهاء الحرب الباردة، التي صحيح أنها لم تتسبب في حرب عالمية ثالثة، بسبب ظهور القنابل النووية بعد الحرب العالمية الثانية، لدى المعسكرين، إلا أنها - كما أشرنا - شهدت حروباً إقليمية، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، طرفاً فيها، أحدهما بشكل مباشر في مكان ما فيما يكون الآخر، داعماً بشكل غير مباشر، نقول ظن الكثيرون، أن العالم أحادي القطب سيكون أقل توتراً، وأن عهد الحروب قد ذهب إلى غير رجعة، لكنّ استعراضاً عاجلاً لما حدث يقول غير ذلك.
فقد شهدت العقود الثلاثة الماضية حروباً عديدة، كانت الولايات المتحدة طرفاً مباشراً في معظمها، إن لم يكن في كلها، وذلك بهدف تثبيت أركان نظامها العالمي، أي النظام أحادي القطب، وهي أي الولايات المتحدة، لم تترك أوروبا الشرقية تعيد ترتيب أوضاعها كدول وكإقليم وفق إرادتها، فتدخلت أميركا عسكرياً في يوغوسلافيا السابقة، وبالتحديد ضد الصرب، القومية أو الدولة تالياً التي كانت تقود الاتحاد اليوغوسلافي، وذلك لأن انهيار الأنظمة الشيوعية، في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، كان من نتائجه أن أجج النزعات القومية لدى شعوب كانت مجتمعة في تلك الدول كاتحادات لقوميات مختلفة ومتداخلة، كما كان حال الاتحاد السوفييتي الذي حين تفكك نتج عنه ظهور العديد من الدول المستقلة، منها روسيا، أوكرانيا، جورجيا، بيلاروسيا، أرمينيا، أذربيجان، تركمانستان، أوزبكستان، وغيرها، والاتحاد اليوغوسلافي، الذي نتجت عنه دول: صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، ومقدونيا الشمالية.
كذلك شهد العقد الأول من النظام العالمي أحادي القطب، شن أميركا الحرب الثلاثينية على العراق، وقد بدا العالم أكثر استسلاماً للإرادة الأميركية، التي سعت إلى حل بعض المشاكل السياسية المستمرة منذ الحرب الباردة، ومنها بالطبع القضية
الفلسطينية، التي كانت الحرب الباردة واحدة من أسباب عدم حلها، ذلك لأن فلسطين وعرب الجوار، خاصة مصر وسورية، كانوا يحسبون على المعسكر الشرقي، فيما إسرائيل هي ربيبة الغرب الرأسمالي/الاستعماري، الذي أنشأها أصلاً بهدف تكريس سيطرته على الشرق الأوسط خاصة بعد أن صار منذ الحرب العالمية الأولى واحداً من أهم مصادر الطاقة العالمية، التي تفتقر لها دول غرب أوروبا، الحليف الرئيس لأميركا خلال الحرب الباردة.
أما العقد الثاني، فقد انشغلت فيه أميركا بالحرب على القاعدة وما خرج من عباءتها من جماعات الإسلام السياسي، خاصة في أفغانستان والعراق، ومن ثم سورية، في الوقت الذي كانت فيه تواصل السعي لحل الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، حيث استنفدت عقدين من الزمن (ما بين عامي 1991 - مؤتمر مدريد 2014 - حيث توقفت المفاوضات تماماً) دون جدوى، أي دون أن تنجح في التوصل للحل السياسي المنشود!
أما خلال العقد الثالث من النظام العالمي أحادي القطب، أي من العام 2011، وحتى الآن تقريباً، فقد شهد العالم العربي حروباً داخلية، على شاكلة ما وقع في أوروبا الشرقية مطلع تسعينيات القرن الماضي، وذلك بهدف تغيير الأنظمة التي لم تكن في حالة وفاق مع النظام الأميركي (أنظمة العراق، سورية، ليبيا، اليمن)، بحجة أنها أنظمة مستبدة، في حين أن غيرها من الأنظمة هي على تلك الشاكلة، لكنها لم تكن يوماً عدوة للولايات المتحدة، أي أنها اتبعت النظام الرأسمالي، لكن «الربيع العربي» لم يدخل إليها، والمهم هنا أن أميركا ورغم أنها رعت إعلان المبادئ العام 1993، ومن ثم التفاوض من أجل الحل السياسي، إلا أنها لم تجبر إسرائيل على الانصياع للقانون الدولي، والانسحاب من الأرض الفلسطينية والعربية المحتلة، ثم وبعد نحو 10 سنوات من توقف التفاوض رسمياً من أجل ذلك الحل، أظهرت أميركا بوضوح، أنها لا تقوى سوى على محاولة إبقاء الوضع الحالي الاحتلالي على ما هو عليه، أي أنه ليس هناك أي أمل في ظهور الدولة الفلسطينية المستقلة في ظل النظام العالمي أحادي القطب بالزعامة الأميركية.
وقد ترافق ظهور النظام العالمي أحادي القطب مع ثورة الاتصالات، والتكنولوجيا الحديثة، ومع ظهور اقتصاد الهاي تيك، أي صناعة أدوات الاتصال، مثل الموبايلات وأجهزة الكمبيوتر، مع البرامج المختلفة، ومنها برامج التواصل الاجتماعي، التي أحدثت انقلاباً في الاقتصاد العالمي، حيث اتسعت الفجوة بين الفقراء والأغنياء كثيراً، ومع سقوط نظام العدالة الاجتماعية الاشتراكي، وتعميم القيم والنظام الرأسمالي، فقد اتسع نطاق المليونيرات ممن يملكون الملايين ليشمل ملايين الأفراد من البشر، بل وظهر المليارديرات، أي من يملكون مليارات الدولارات، ومنهم اليوم من يمتلك مئات المليارات، وتزيد ثروته على ثروات الكثير من الدول، بحيث بات العالم محكوماً ومملوكاً لأفراد قلائل، ما زاد من احتقان البشرية، فظهرت المجاعات، والحروب من طبيعة الحرب الاقتصادية، في ظل جائحة كورونا التي فتكت بالبشرية مدة عامين.
والآن يبدو بعد ثلاثة عقود، أن الولايات المتحدة لم تنتبه خلالها إلى حدوث المتغيرات الكونية، التي باتت لا تستوي مع نظامها العالمي أحادي القطب، وبعد أن استهدفت كوريا الشمالية، ومن ثم إيران، كدول خارج نطاق التسليم بالهيمنة الأميركية، الأولى ضعيفة اقتصادياً، لكنها أفلتت من القبضة الأميركية بامتلاكها السلاح النووي، فيما الثانية لديها ثروة نفطية وتأثير أيديولوجي طائفي إقليمي، مع طموح نووي، لكن الأنداد الحقيقيين للولايات المتحدة، كانوا كثراً، وقد رفعوا رؤوسهم مع مرور الوقت خلال العقود الثلاثة الماضية، وهم بالطبع
الصين، روسيا، ثم بدرجة ما الهند، وحتى الاتحاد الأوروبي، الذي أراد بوحدته القارية أن يكون شريكاً للولايات المتحدة، لا خصماً ولا تابعاً.
وحقيقة الأمر أن الولايات المتحدة تبدو كما لو أنها نامت وصحت فجأة فوجدت الخصوم والمنافسين والأنداد فجأة، لذا لم تدرِ بمن تبدأ، وإذا كان دونالد ترامب حاول أن يكسر شوكة كوريا الشمالية أولاً ومن ثم إيران، فإن جو بايدن يسعى إلى تحطيم روسيا وعينه على الصين، لذا فإن كلاً من الصين وروسيا، ومعهما إيران وكوريا وحتى الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، أي دول بريكس، بدأت تتكتل في كتلة اقتصادية سياسية، مرشحة في شهر آب القادم لانضمام المزيد من الدول، حيث يمكن لبريك أن يكون نداً لمجموعة السبع الكبار.
ويبقى أن يترافق مع التكتل الاقتصادي على جانب بريكس حلف عسكري يواجه الناتو، حتى يصبح العالم فعلاً ثنائي التكتل العالمي، وذلك على أساس التنوع الاقتصادي، بحيث يمكن لفلسطين أن تحلم بالمرور عبر طريق الحرير الذي يجمع الصين بالعالم العربي، للظفر بدولتها المستقلة في ظل ذلك النظام، بعد أن لم تحقق ذلك في ظل النظام أحادي القطب الأميركي، وبهذا تبدو زيارة الرئيس محمود
عباس للصين أول خطوة على هذا الطريق، بعد أن كانت أوسلو بوابة لتلك الدولة في ظل النظام العالمي أحادي القطب.
(
الأيام الفلسطينية)