تصريحات رئيسة
صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، لموقع "
اقتصاد الشرق"، الثلاثاء الماضي، أقل ما يقال؛ إنها ليست على علم أو دراية بطبيعة وهيكلية الاقتصاد
المصري، فدائما وأبدا الصندوق لا يملك أن يقدم سوى تشخيص واحد حتى يمكن الحصول على قرض؛ ألا وهو "اختلال النقدية"، وهو ناجم عن إفراط السلطات النقدية في عرض النقود، كذلك أنّ
التضخم
ناتج عن التشوّهات في هيكل الأسعار المحلية، نتيجة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي والتحديد الإداري لأسعار السلع والخدمات.
والحل من
وجهة نظر الصندوق من خلال سياسة إدارة الطلـب، من دون النظر إلى طبيعة
التضخم وأركان الفجوة التضخمية، متجاهلا أنّ التضخم في مصر لا يرجع إلى الاختلالات القائمة في جوانب السياسة النقدية والمالية فحسب، بل إلى اختلالات هيكلية عميقة، كالاختلال في بنيان هيكل قطاع التجارة الخارجية، الذي يتجلى من خلال اعتماد الاقتصاد الوطني على تصدير سلع محدودة، خصوصا الصادرات الزراعية وبعض المواد الأولية، وارتفاع حجم الواردات، سواء كانت سلعا جاهزة ومواد أولية، أو الواردات من الآلات والتجهيزات ومعدات الإنتاج الصناعي والزراعي وغيرها، وانخفاض نسبة تمويل الصادرات للواردات، ما تسبّب في تفاقم العجز في ميزان المدفوعات.
الحل من وجهة نظر الصندوق من خلال سياسة إدارة الطلـب، من دون النظر إلى طبيعة التضخم وأركان الفجوة التضخمية، متجاهلا أنّ التضخم في مصر لا يرجع إلى الاختلالات القائمة في جوانب السياسة النقدية والمالية فحسب، بل إلى اختلالات هيكلية عميقة، كالاختلال في بنيان هيكل قطاع التجارة الخارجية، الذي يتجلى من خلال اعتماد الاقتصاد الوطني على تصدير سلع محدودة.
كذلك اختلال علاقة النمو بين قطاعات الاقتصاد الوطني،
حيث شهدت قطاعات الإنتاج السلعي انخفاضا فـي نسبة مساهمتها في إجمالي الناتج
المحلي بالأسعار الجارية، بينمـا شـهدت قطاعات التجارة والخدمات ارتفاعا في نسبة
مساهمتها في إجمالي الناتج المحلي، وقد أدت تلك الاختلالات إلى تفاقم مشكلة
الغذاء.
وكذلك عدم وجود سوق منظمة لتداول الأوراق المالية،
تساهم في تحقيق الاستقرار في مستويات الأسعار المحلية، من خلال الدور الذي تؤديه
في تعبئة المدخرات المحلية.
إذا، ضبط معدلات التضخم وتحقيق الاستقرار في مستويات
الأسعار المحلية في الاقتصاد، لا يمكن تحقيقه فقط من خلال سياسة إدارة الطلـب وحدها،
حسب وجهة نظر الصندوق، بل من خلال سياسة إدارة العرض معا.
وهذا ما أكده فشل برنامج الإصلاحات الاقتصادية التي
وضعها الصندوق مع الحكومة. فمن يتابع الأحداث جيدا، يعلم أن الفشل ليس وليد جائحة
"كورونا" أو الحرب الروسية الأوكرانية، بل سبقهما منذ منتصف 2017، حيث
تعمد الصندوق دمج المرحلتين الثانية (التثبيت الاقتصادي) والثالثة (التكيف
الهيكلي)، وتنفيذهما معا مباشرة وفي وقت واحد، ضمن برامج الإصلاحات الاقتصادية
والمالية التي أقرها، وذلك بالموافقة على برنامج الإنعاش الاقتصادي للمرحلة
الثانية المتمثل في إطـار تسهيل الاستعداد الائتماني، والاتفاق مع البنك الدولي
في إطار البرنامج، والاتفاق مع بعض الحكومات الأجنبية المانحة والمؤسسات المالية
في إطار تسهيل الديون.
وهذا في وقت كان من الواجب عليه الانتهاء أولا من
تنفيذ بنود المرحلة الأولى قبل البدء بالمرحلة الثانية، تلك البنود المتعلقة بالحد
من تفاقم معدلات التضخم السنوية وتحقيق الاستقرار في مستويات الأسعار المحلية،
وتخفيض العجز في الموازنة العامة، وتمويل العجز من مصادر حقيقية غير تضخمية،
والوقف الحاصل لتدهور القوة الشرائية للعملة الوطنية، ومنع انهيـار البناء
الاقتصادي والاجتماعي والمؤسساتي للمجتمع المصري.
ليس ذلك فحسب، بل عندما بدأ بتطبيق المرحلة الثانية
والثالثة معا، لم يطبق الصندوق أهم السياسات التي يتضمنها برنامج التثبيت الاقتصادي
والتكيف الهيكلي، كسياسة التحكم في كمية النقود وسياسة تحرير التجارة الخارجية
وتحرير الأسعار، بل كان شغله الشاغل بذل المزيد من الضغوط على الحكومة
بتعويم
العملة الوطنية، دون ضوابط وآليات تلك الخطوة التي أضرت بالاقتصاد الوطني كثيرا، حيث
أطلق عليها وصف تخفيض القيمة الخارجية للعملة الوطنية، ولكن من دون وضع تقييم
حقيقي لقيمتها، وترك العملة الوطنية تسبح من دون أن يحدّد لها سعر صرف مرنا مناسبا
وقتها، حيث طبّق عليها قوانين سباحة العملات (التعويم) التي تمتاز بالإنتاجية
والتشغيل الصناعي الكامل، وهذا ما يفتقر إليه الاقتصاد الوطني. أما الآن، فالمطالبة
بتعويم جديد للعملة معناه تدمير الاقتصاد الوطني كليا.
تتعرض مصر لضغوط غير مسبوقة من جهات خارجية وداخلية من
أجل تعويم جديد أو خفض آخر لقيمة الجنيه، ومن الخطأ العظيم أن ترضخ الدولة لتلك
الضغوط، فالوضع الاقتصادي وخاصة النقدي والمالي لا يتحمل.
تتعرض مصر لضغوط غير مسبوقة من جهات خارجية وداخلية من أجل تعويم جديد أو خفض آخر لقيمة الجنيه، ومن الخطأ العظيم أن ترضخ الدولة لتلك الضغوط، فالوضع الاقتصادي وخاصة النقدي والمالي لا يتحمل.
فالاستسلام هذه المرة، يعني الدخول فعليا في مرحلة
"التعويم المفرط"؛ أي مزيد من الخفض الدراماتيكي إلى أن يفقد الجنية 440
في المئة من قيمته أمام الدولار الواحد، حتى التحول إلى نظام
سعر الصرف المرن أصبح
من الماضي، في ظل تلك الأوضاع المالية والنقدية التي تمر بها البلاد. أي إن أنظمة
التعويم من أكثرها حرية إلى أقلها مرونة لم تعد صالحة التطبيق في الاقتصاد الوطني
في ظل تلك الظروف والمعطيات الاقتصادية الداخلية والخارجية؛ لعدة أسباب، منها:
1- ففي ظل الظروف التي تتبع فيها البنوك المركزية العالمية
سياسة رفع الفائدة من أجل كبح التضخم، لا يصح أو من غير الموفق اتباع أي من تلك
الأنظمة (الحرة أو المرنة)، التي تقوم في أساسها على أن تكون معدلات الفائدة
المحلية منخفضة مقارنة بمعدلات الفائدة العالمية، هذا يعني دخول البلاد في مراحل
تضخم أكثر حدية ومنها التضخم الجامح أو المدمر الذي يصاحبه الدولرة.
2- عدم تنافسية السلع المحلية، والزيادة في حجم
الصادرات دائما بمقدار السالب؛ لأنها لا تفوق حركة خروج رؤوس الأموال والطلب على
الواردات حتى يتحقق التوازن في ميزان المدفوعات ويصبح شيئا تلقائيا؛ دون الحاجة
الدائمة إلى استخدام الاحتياطي النقدي للحفاظ على استقرار أسعار الصرف.
3- انعدام وجود سوق صرف عميقة تتمتع بقدر كاف من
السيولة النقدية وقادرة على تحديد سعر العملة الوطنية بشفافية. وأسواق الصرف لا
تحكمها تشريعات قوية تعزز الثقة والمصداقية تحد من المضاربة على العملات.
من الأفضل في ظل هذا التوقيت مع عدم توافر تلك العوامل والشروط، أن يتم الحفاظ على درجة عالية من المصداقية لا الأنظمة (الحرة أو المرنة) المعتمدة في نجاحها على استيعاب الصدمات المحلية والخارجية.
4- عدم استقلالية البنك المركزي المصري في إدارة
السياسات النقدية بما يملكه من أدوات.
إذا، من الأفضل في ظل هذا التوقيت مع عدم توافر تلك
العوامل والشروط، أن يتم الحفاظ على درجة عالية من المصداقية لا الأنظمة (الحرة أو
المرنة) المعتمدة في نجاحها على استيعاب الصدمات المحلية والخارجية، والمصداقية المتوفرة في نظام "soft conventional peg"
(نظام الصرف الثابت الناعم أو الزاحف التقليدي حدود تقلباته مقبولة ± 5 في المئة
خلال ثلاثة أشهر وبعدها تكون حدود التقلبات 1 في المئة).
هذا ما كنا ننادي به منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر من
العام الماضي، وأتمنى أن يكون هو المتبع والمعلن عنه الآن من قبل صانع السياسات
النقدية، فتحركات سعر الصرف توحي بذلك من شهر كانون الثاني/ يناير الماضي من العام
الحالي، مع العلم أن هذا يحتاج كثيرا من الجهد والعمل والوقت حتى يؤتي نتائجه.
أتمنى أن يكون هذا هو فكر السلطة النقدية في مصر، حتى
تختفي الفجوة بين السعر الرسمي والسوقي، لكي تعود نقطة الموارد الاقتصادية عند
توازنها في مصر.