أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة.. فكان الإسلام، وسيظل الإسلام، ومن
أصدقُ من الله قيلا..؟ لا نخلط أحلاما بحقائق فنحن أصلا "أمة الحقائق"..
نحن مثلا الأمة الوحيدة عبر كل تاريخ وفي كل أمة التي تطرح الحقائق في وجه الآخرين
بهدوء عميق وثبات راسخ قائلة للآخر المختلف "وإنا أوإياكم لعلى هدى أو في
ضلال المبين."، مقدمة نفسها في افتراض الخطأ..!.. وفي هذه الذكرى التي هي في
حينها بل وفي أكثر أوقاتها حينا؛ سيتجلى لنا وجه الأمة في أوفى وجوهها كمالا
وجلالا..
إنها ذكرى يوم من أيام الله على وجه هذه الأرض.. الذكرى الـ223 لاستشهاد
البطل ذي الوجه الحزين
سليمان الحلبي (14 حزيران/ يونيو)، في سبيل دينه وأمته
وعروبته، وليأخذ بحق أستاذه ومعلمه وشيخه الذي أغناه دنيا ودين.. الشيخ الجليل أحمد
الشرقاوي..
فحين أتى البطل ليدرس في الأزهر (حصن الأمة الحصين) عام 1797م تتلمذ على يد
هذه الرجل الذي كان له أستاذا ومعلما ومحتضنا.. نعم.. فقد استضافه في بيته طيلة
وجوده في
مصر، قبل أن يعود إلى حلب لمرض أبيه، ثم يعود سريعا مرة ثانية إلى
القاهرة سنة 1800م.. ليعلم أن الفرنسيين
قد عاثوا في الأرض والعرض فسادا وقتلوا ما
يزيد على 3000 مصري وأعدموا 6 من كبار علماء الأزهر، وسيكون شيخه وصديقه ومعلمه
أحدهم. ما أروع أن يكون الوقت حين يكون، مكتملا منسجما متوافقا مشحونا بكل ما
يلزمه، ليكون ما نسميه "أنسب الأوقات".
القصة هنا بالغة الأهمية.. وأهميتها لن تكون فيما ترويه!.. ولكن فيما يكمن خلف ما ترويه.. لندرك دائما حقيقة ما يراد بنا.. فهو أمر قديم، وموصول بكله وبعضه.. الآن وغدا.. وإلى أن يفهم العالم كله أننا هنا في هذه الدنيا.. لننشئ مدينة فاضلة مكانها أرض البشر.. وما كان كل ما كان، بيننا وبين الغرب في أي يوم إلا لمنعنا من هذا
* * *
وستكون القصة هنا بالغة الأهمية.. وأهميتها لن تكون فيما ترويه!.. ولكن
فيما يكمن خلف ما ترويه.. لندرك دائما حقيقة ما يراد بنا.. فهو أمر قديم، وموصول
بكله وبعضه.. الآن وغدا.. وإلى أن يفهم العالم كله أننا هنا في هذه الدنيا.. لننشئ
مدينة فاضلة مكانها أرض البشر.. وما كان كل ما كان، بيننا وبين الغرب في أي يوم
إلا لمنعنا من هذا.. كما قال المفكر الأمريكى توماس بن (ت: 1802م) في كتابه
المعروف "عصر العقل".. ماذا قال؟ قال: ما حدث مرة، يمكن أن يحدث مرة أخرى! إن الشعلة التي أشعلها "محمد"
في قلوب أتباعه لهي شعلة غير قابلة للانطفاء.. صلى الله على سيدنا محمد وسلم.. وصح
قولك يا أخ توماس.. "غير قابلة للانطفاء"...
* * *
من المهم هنا معرفة أن ما فعله الشيخ الشهيد أحمد الشرقاوي مع البطل الشهيد
كان خُلقا أصيلا لدى كثير من العلماء.. سنجد أن الإمام مالك (ت: 795م) استضاف
الإمام الشافعي (ت: 820م)، رحمهما الله، حين رأى فيه ما رأى، وقال له قولته
الشهيرة: "يا بني: سيكون لك شأن من الشأن، فاتق الله، واجتنب المعاصي"..
وقد كان.
الإمام الأعظم أبو حنيفة (ت: 767م) كان قد سبق، وهو كعادته سابق في كل
شيء.. وفعل ذلك أيضا مع تلميذه الواعد أبي يوسف (ت: 798م).. الذي كان يقول: رحم
الله أبا حنيفة.. أغنانا دنيا ودينا (يقصد بعلمه).
* * *
رجع سليمان، الطالب النجيب، إلى سوريا، ثم قرر العودة ثانية إذن "ليدخل
التاريخ"! وهذه الجملة من لزوم ما لا يلزم.. لأن أمثال "لبطل ذي الوجه
الحزين" سيكونون دائما ممن لا يعنيهم دخول التاريخ، هم فقط لا يعنيهم من
التاريخ إلا النظر والاعتبار.. لا المجد والشهرة ومناة الثالثة الأخرى.
فهو لا يشرك بالله شيئا.. إنه رجل شريف.. وإنه ليؤمن إيمان الإحسان (كأني
أراه.. سبحانه وتعالى علوا كبيرا).. ولنا أن نقول إنه كان يذوب ذوبا عند سماع الآية
الكريمة في سورة الزمر "أفغير الله تأمرونّي أعبد أيها الجاهلون..".. ستهتف
حوله ومنه وبه هواتف الأرواح والرياحين، مرددا معها قول الرحمن: "قل الله
أعبد مخلصا له ديني، فاعبدوا ما شئتم من دونه..".. كان البطل كذلك بالفعل.. لا
يعبد إلا الله، وكفى به سبحانه.. لدرجة أنه حين حُرقت يده اليمنى في الجمر كما
سنعرف، لم يتكلم ولم يقل كلمة "آه.."، وتحدث فقط حين حاول من ينفذ الحكم
أن يحرق جزءاً من ذراعه، فقال له: "لن تفعل، الحكم صدر بحرق اليد فقط"،
كما قال لنا الراحل الكبير أ. صلاح عيسى (ت: 2017م) في كتابه المهم "صفحات من
دفتر الوطن".
* * *
إن بطلنا ذا الوجه الحزين حين عاد.. كان أصلا قد عقد نيته على إحداث أكبر خلخله ممكنة في كيان الاحتلال بقتل نابليون (ت: 1821م).. فوجده قد هرب بحجة تغير الأمور في أوروبا واضطراره لمغادرة القاهرة، وأسند القيادة من بعده لجان كليبر.. فليكن كليبر إذن.. وقد كان
الحاصل أن بطلنا ذا الوجه الحزين حين عاد.. كان أصلا قد عقد نيته على إحداث
أكبر خلخله ممكنة في كيان
الاحتلال بقتل نابليون (ت: 1821م).. فوجده قد هرب بحجة
تغير الأمور في أوروبا واضطراره لمغادرة القاهرة، وأسند القيادة من بعده لجان
كليبر.. فليكن كليبر إذن.. وقد كان.
تقول الحكاية التي وراءها ألف حكاية وحكاية، إنه في آذار/ مارس 1800م
اشتعلت ثورة القاهرة الثانية بزعامة السيد الكبير جدا عمر مكرم (ت: 1822م) وسارع
كليبر إلى قدره المقدور، فقتل بما أمكنه القتل والتدمير، وكان هو وجنوده كوحوش
ترعرعت في أنتن غابة.. وبطش بكل شيوخ وعلماء الأزهر الذين شاركوا في الثورة..
الفرنسيون كما يصفهم الكاتب الروسي الأشهر فيودور ديستوفيسكي (ت: 1881م)..
في رائعته "المقامر" قائلا: "مزاياهم وفضائلهم محدودة للغاية، وهم
أسمج مخلوقات العالم".. ويضيف: "لا يُفتن بالفرنسيين إلا قليلو الخبرة،
أما الذي يدرك ما وراء هذه المظاهر على الفور فلا يطيقهم.."!!
* * *
كانت مصر قد شرفت بعودة البطل.. 31 يوماً سيمكثها ذو الوجه الحزين.. يدرس
الواقع الذي يبحث فيه عن ثغرة، لا بد أنها موجودة.. ووجدها.. وظفر به يتمشى مع
فرنسي آخر، فطعنه بخنجر كان يخفيه في ثيابه عدة طعنات وغادر المكان حين تأكد من
موته، لكنه وقع في قبضة الفرنسيين.. فأمر الجنرال جاك مينو (ت: 1810م)، القائد المؤقت بعد كليبر،
بعقد محاكمة عاجلة له، ضمت في عضويتها 9 من كبار القادة الفرنسيين، ولم تستغرق
المحاكمة أكثر من 4 أيام.
* * *
حُكم على البطل بحرق يده اليمنى كما سبق، ووضعه على "خازوق" حتى
الموت.. واجه بطلنا قتله بكل اطمئنان وقوة وشجاعة؛ مرددا الشهادتين وتاليا القرآن
الكريم. وأجمع الرواة على أنه لم يصدر منه أي تصرف يوحي بالضعف أو الندم..
دوافعه لقتل كليبر لها علاقة بالثورة العربية الشعبية ضد الاحتلال والطغيان الأجنبي، ولم يكن الأمر أبدا مجرد اغتيال سياسي لتحقيق مكاسب مادية، كما حاول البعض دفن تلك البطولة الكبيرة في تلك الأكذوبة التافهة كأصحابها
وكيف يكون.. وقد تنزلت الملائكة تنادي: "ألّا تخافوا ولا تحزنوا
وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة"..
كما قرأنا في سورة فٌصِلَت.. في الدنيا قبل موته، وفي الآخرة بعد موته رحمه الله
وألحقنا جميعا به في الجنة.
* * *
الكاتب المسرحي الفريد فرج (ت: 2005م) كتب عن البطل مسرحية بعنوان "سليمان
الحلبي" سنة 1965م أنصف فيها الكاتبُ المصري المسيحي المحترم "البطلَ"،
وأكد فيها أن دوافعه لقتل كليبر لها علاقة بالثورة العربية الشعبية ضد الاحتلال
والطغيان الأجنبي، ولم يكن الأمر أبدا مجرد اغتيال سياسي لتحقيق مكاسب مادية، كما
حاول البعض دفن تلك البطولة الكبيرة في تلك الأكذوبة التافهة كأصحابها.
وأخيرا.. سيكون مدعاة للأسف القول بأن جمجمة رأس البطل توجد حتى يومنا هذا في
متحف بباريس.. اسمه متحف الإنسان في قصر شايو، ومكتوب تحتها "مجرم".. وما
كان البطل كذلك، بل هم المجرمون السفلة المنحطون، المنتهكون لكل القيم الإنسانية
الكبرى في الحق والحرية والكرامة.. والتي علمنا الإسلام العظيم أننا مدينون لها..
بالدفاع عنها وصونها وحمايتها.
twitter.com/helhamamy