المسلّمة التي ينبني عليها
النظام الاقتصادي العالمي السائد اليوم، هي أن السوق بنت الطبيعة، وأن الرأسمالية من طبائع الأشياء. إلا أن هذا النظام الذي صار مسلطا على جميع البشر في مختلف البلدان، غنيها وفقيرها، لم ينبت فطريا في الطبيعة سدا لفراغ هي تكرهه، ولا هو نشأ بفعل قوى لا-شخصية يحركها ما يسمى مكر التاريخ، وما يسميه هيغل بمزيد الدقة «خداع العقل في التاريخ».
هذا النظام الاقتصادي، نظام الرأسمالية المتوحشة، لم ينشأ صدفة خارج إرادة البشر، ولم يظهر خفية خلف ظهور وكلاء الفعل الاجتماعي. بل الحقيقة أن هذا النظام، الجامع لشروط القلق الفردي والشقاوة الإنسانية في كثير من المجتمعات، إنما هو نتيجة لقرارات سياسية لا تزال تترجم توجهات إيديولوجية نيوليبرالية طغت وهيمنت. وقد كانت هذه التوجهات أنغلوساكسونية في الأصل، ولكنها أخذت تعمم منذ أوائل التسعينيات على بقية العالم.
ورغم أن التسمية التي أطلقت على السياسات النيوليبرالية التي انتهجت في
بريطانيا وأمريكا منذ وصول تاتشر وريغان إلى الحكم تسمية إيديولوجية مادحة للذات راضية عنها، فإن فيها قدرا عاليا من الدقة. ذلك أن «الثورة المحافظة» قد كانت ثورة فعلية، بمعنى الانقلاب والردة (أي الثورة المضادة) على سياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي سياسات التكافل الوطني التي تجسمت في ما سمي بدولة الرعاية الاجتماعية. وقد صارت سياسات التكافل بين الفئات (بتأمين المواطنين ضد الخصاصة والبطالة والمرض)، وبين الأجيال (بضمان المعيشة الكريمة للعمال والموظفين بعد بلوغ سن التقاعد)، هي روح الثقافة السياسية للمجتمعات الديمقراطية في كل من أمريكا وبريطانيا وبقية بلدان
أوروبا الغربية طيلة حوالي ثمانية عقود. ولكن الثورة التاتشرية والريغانية قامت على نقض هذه الثقافة التضامنية، التي عدها كل منهما وصفة للركود الاقتصادي والخمول الاجتماعي، حيث لم يريا فيها إلا خرافة تشجع الشرائح الاجتماعية الدنيا على العطالة والتواكل والاعتماد على الدولة في كل شيء من مورد مالي ومسكن ومأكل، إلخ.
لم ينشأ صدفة خارج إرادة البشر، ولم يظهر خفية خلف ظهور وكلاء الفعل الاجتماعي. بل الحقيقة أن هذا النظام، إنما هو نتيجة لقرارات سياسية لا تزال تترجم توجهات إيديولوجية نيوليبرالية طغت
على أن هذه كلمة حق نسبي أريد بها باطل مطلق؛ إذ إن الأمر لم يكن يقتصر عند تاتشر وريغان على تقليص ميزانيات الرعاية الاجتماعية (كان مما اشتهرت به ثاتشر، منذ كانت وزيرة للتعليم في حكومة إدوارد هيث أوائل السبعينيات، أنها حرمت التلاميذ الصغار من كوب الحليب الذي كانوا يحصلون عليه مجانا في المدرسة كل صباح!)، بل إن جوهر الإيديولوجيا النيوليبرالية التي كانا يعتنقانها تقوم على تنصل الدولة من كل مسؤولية اقتصادية، وعلى بيع جميع الشركات للقطاع الخاص.
وكانت العقيدة تقول بأن القطاع الخاص ناجع ناجح بالبديهة التي لا تحتاج إثباتا أو تفسيرا، بينما لا يحسن القطاع العام إلا الإسراف والتسيّب وضعف الإنتاجية.
وإذا كانت خصخصة قطاعات النقل (القطارات، وقطارات الأنفاق) والفحم الحجري والغاز والكهرباء والماء (ومن الأدلة الكثيرة على بطلان هذه الإيديولوجيا، أن كبرى شركات توزيع المياه في بريطانيا مثقلة اليوم بـ14 مليار جنيه من الديون! وأنها ضبطت متلبسة بتلويث الأنهار وجعلها مكبا لمياه الصرف الصحي)، هي أشهر عناوين السياسة التاتشرية، فإن ضحيتها الكبرى هي مصلحة الصحة العمومية (التي هي من كبريات المؤسسات في العالم، حيث يعمل فيها مليون وسبعمائة ألف موظف). ولكن استهداف هذه المؤسسة، التي يفتخر بها البريطانيون، والتي لم يبق من إجماع وطني بينهم إلا حولها، (أما البي بي سي، فلم تعد محل إجماع)، لم يكن ناجزا بل وقع بالتدرّج، بحيث لم يتضح حجم الضرر إلا في العقدين الأخيرين.
وهكذا أحيا البريطانيون الأربعاء الذكرى الـ75 لإنشاء نظام الصحة العمومي في أجواء قاتمة كئيبة، فكان الإحياء رثائيّا لا احتفاليا. والسبب هو تدهور الخدمات واهتراء المؤسسة وعجزها عن تلبية الاحتياجات الصحية المتزايدة، الناجمة عن تزايد عدد السكان واتساع نسبة المسنين بينهم. وقد بينت دراسة مقارنة نشرت بالمناسبة، أن البريطانيين يموتون أبكر من نظرائهم في أوروبا الغربية (أي أن معدل الأعمار في تدنّ مستمر)، وأن حوالي عشرة آلاف بريطاني يموتون سنويا بسبب رداءة الخدمات الصحية، وأن هؤلاء ما كانوا ليموتوا لو أن إقامتهم كانت في فرنسا أو السويد!
وهكذا، فإن نظام الصحة ليس في صحة جيدة! نظام الصحة هو رجل بريطانيا المريض، تماما كما أن بريطانيا البركسيتية الانعزالية هي رجل أوروبا المريض.
القدس العربي