يستعد
العراق لانتخابات مجالس المحافظات المقررة في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2023، وهي انتخابات يفترض أن تُجرى كل أربع سنوات لكن ذلك لم يحصل على مدى أكثر من عشر سنوات كاملة؛ فقد جرت آخر انتخابات لمجالس المحافظات في منتصف عام 2013!، وقد بدأت ملامح التحالفات بالظهور تدريجيا مع انتظار التواريخ التي تقررها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات للموعد النهائي لتسجيل تلك التحالفات.
والملاحظة الأولى على هذه التحالفات أنها لم تخرج عن المحددات التي حكمت تشكيل سابقاتها في كل
الانتخابات السابقة؛ فالتحالفات الرئيسية التي يتوقع أن تحصل على غالبية المقاعد هي تحالفات قائمة على أسس هوياتية بحت، صحيح أنها انتخابات مجالس محافظات وبالتالي فهي محكومة بهويات تلك المحافظات، لكن الملاحظة الجوهرية هنا أن التحالفات في المحافظات ذات الهويات المتنوعة، هي بدورها تحالفات هوياتية في جوهرها، حتى وإن روجت لشعارات مختلفة!
فإن محدد القوائم المبنية على أسس هوياتية يغلب عليها ويلحق بها بالضرورة، لكنها تستمد الرعاية والدعم من قوى هوياتية مغايرة، وبالتالي يمكن الحديث هنا عن «تمثيل بالوكالة» بكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى!
وقد سبق لرئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي أن اعتمد على هذا التكتيك في انتخابات مجالس المحافظات عام 2013، وفي انتخابات مجلس النواب عام 2014. واعتمده رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي أيضا في انتخابات مجلس النواب عام 2018، ثم اعتمدته قوى «الحشد الشعبي» في انتخابات عام 2021. ولا يمكن توصيف التحالفات السياسية التي ضمت هؤلاء الأفراد بأنها محاولة لتشكيل كيانات سياسية عابرة للهويات الفرعية/ المذهبية، بل هي، في الحقيقة، تكريس للتحالفات الهوياتية!
وتماما كما في كل الانتخابات السابقة، نجد قوى صغيرة ستحاول جاهدة أن تشكل قوائم عبر هوياتية، لكنها لا تملك إمكانية الحصول على فرصة في انتخابات مجالس المحافظات الحالية، بسبب تخفيض عدد مقاعد هذه المجالس إلى ما يقرب من النصف تقريبا في هذه الانتخابات، وهو ما يجعل حجم الأصوات التي يحتاجها المقعد الواحد ضعف العدد الذي كان يحتاجه سابقا، وهو ما يضعف إمكانية هذه القوى في المنافسة لأنها لا تملك الوسائل التقليدية لرشوة الجمهور عبر استخدام أدوات السلطة، أو عبر المال السياسي الناتج عن الاستثمار في المال العام.
المحدد الثاني لبازار التحالفات الانتخابي هذا هو عدم وجود برامج حقيقية، محكومة برؤى مسبقة، بل هي تحالفات تكتيكية تحتكم إلى مصدر التمويل! فقانون الانتخابات لا يحدد سقفا أعلى للصرف على الدعاية الانتخابية، ولا يُلزم القوى السياسية بتقديم كشف حساب لحجم الأموال التي صرفت على الحملات الانتخابية أو مصادرها، ولم تعد المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وهي في حقيقتها مجرد ممثلية للأحزاب الأقوى داخل مجلس النواب لحظة تشكيلها، لم تعد مهتمة بهذا الموضوع الحيوي والمهم والذي يضمن الحد الأدنى من تكافؤ الفرص بين المرشحين، بحيث لا يذكر أصلا في نظام الحملات الانتخابية (آخر مرة التفتت المفوضية إلى هذا الأمر كان في انتخابات عام 2014 عبر نظام « تنظيم الإنفاق على الحملة الانتخابية رقم 1 لسنة 2013» في محاولة منها لضمان مبدأ تكافؤ الفرص بين الكيانات السياسية والمرشحين على حد سواء.
وفي هذا النظام وُضع الحد الأقصى من الإنفاق للمرشح، والحد الأقصى للإنفاق للكيان السياسي. كما اشترط هذا النظام أن يقوم كل كيان سياسي بفتح حساب بنكي خاص بالإنفاق الانتخابي يتم من خلاله، حصرا، دفع نفقات الحملة الانتخابية وتتابعه المفوضية نفسها، وأخيرا أقر هذا النظام عقوبات مالية في حال ثبوت ارتكاب الكيان السياسي أو المرشح مخالفة لهذه الشروط! وهو نظام يمكن من معرفة الممول، وفي حالات نادرة الممولين، لكل تحالف سياسي دون بذل جهد كبير، وكشف مصدر هذا التمويل وهو في الغالب الاستثمارات الشخصية في المال العام الذي يحظى بتواطؤ الجميع في العراق، فضلا عن التمويل الخارجي في حالات أقل!
المحدد الثالث يتعلق بالتمويل غير المباشر عبر المال العام ومؤسسات الدولة نفسها والذي يقدمه الممول لمرشحيه، سواء من خلال قانون الموازنة العامة الذي يتم «تصميمه» داخل مجلس النواب لمصلحة الفاعلين السياسيين الأقوى لضمان استثماراتهم في المال العام، ولضمان توزيع المشاريع بطريقة زبائنية، أو عبر استخدام بعض مؤسسات الدولة الأخرى مثل الوزارات وصندوق الإعمار أو الأوقاف لخدمة مرشحين محددين لأغراض انتخابية، أو من خلال استخدام مواقع المحافظين التابعين، حكما، لهؤلاء الممولين في توزيع المشاريع والخدمات وفقا لمصلحة المرشحين التابعين لهم، أو عبر استخدام المؤسسات العسكرية والأمنية للسيطرة على المراكز والمحطات الانتخابية لمصلحة مرشحين محددين.
وهذه هي الآليات الثلاثة التي استخدمت بإفراط لرشوة الجمهور خلال الانتخابات السابقة لا مانع اليوم من إعادة استخدامها لأن الجميع يقوم بذلك ولا رادع أو معترض!
المحدد الرابع يتعلق بالمؤسسات الثلاث: المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، والمساءلة والعدالة، والقضاء عبر الهيئة التمييزية للانتخابات، فأي تحالف لا يملك وسائل تمكنه من «التعامل» مع هذه المؤسسات الثلاث، سيبقى هشا ومعرضا للضغوط! وإذا ما عجزت هذه الجهات الثلاث عن «التعامل» مع علاقات القوة بشكل براغماتي، يمكن لمجلس القضاء الأعلى نفسه أن يتدخل ودون صلاحية حقيقية، لضمان علوية علاقات القوة هذه، كما حدث في الانتخابات الأخيرة التي مررت فيها هذه الجهات الثلاث، قوائم بأسماء المرشحين الذي يحق لهم دخول الانتخابات، بقرار بات وقطعي من الهيئة التمييزية، لكن مجلس القضاء الأعلى تدخل وقرر اجتثاثهم ثانية لمصلحة فاعلين سياسيين آخرين!
إن قانون الانتخابات في العراق هو بذاته يشكل معضلة بسبب أنه يضمن التزوير ولا يمكنه أن يكون ضامنا للنزاهة او العدالة أو الشفافية، وسلطات الدولة ومؤسساتها هي أيضا محل عدم ثقة لأن علاقات القوة هي التي توجهها وليس الدستور او القانون، والانتخابات في العراق عموما يحكمها المال ورشوة الجمهور، وكلها تجري بتواطؤ الجميع على المحددات التي ذكرناها في هذا المقال، من أجل ذلك كله لا يمكن الحديث عن انتخابات أو تمثيل حقيقي للجمهور في العراق، بل عن بازار زبائني و«تمثيل» مصنّع مسبقا!
(القدس العربي)