يوم
25 تموز/ يوليو الماضي، مرّت الذكرى الثانية لـ"تصحيح المسار"، أي ذكرى تلك
الإجراءات التي اتخذها الرئيس
التونسي قيس سعيد بتفعيل الفصل 80 من الدستور. وبصرف
النظر عن مدى دستورية "التصحيح" وعن حقيقة مآلاته السياسية والاقتصادية
والثقافية (تأسيس "جمهورية جديدة" تهيمن عليها النواة الصلبة للمنظومة
القديمة، "جمهورية رئاسوية" ذات شرعية شعبية هشة ومشروعية إنجاز شبه
معدومة)، وبصرف النظر أيضا عن الانقسام الحاد في توصيف "تصحيح المسار"
باعتباره انقلابا دستوريا أو عملية إنقاذ للدولة من عبث الديمقراطية التمثيلية
وأجسامها الوسيطة، فإننا نطرح على أنفسنا في هذا المقال تجاوز السجالات السياسوية
المؤدلجة ومقاربة "تصحيح المسار" بما هو حدثٌ يستدعي مقاربة موضوعية لا
أمثَلةَ فيها ولا شيطنة، حدثٌ يفرض على مختلف الفاعلين الجماعيين -خاصة منهم القوى
الديمقراطية الحقيقية لا تلك القوى الملحقة وظيفيا بمنظومة الاستعمار الداخلي- القيام
بنقد ذاتي جذري وتحطيم الشبكات التفسيرية المفوّتة، والتي أدخلت البلاد في أزمة
سياسية يصعب الخروج منها دون اجتراح مواقع جديدة لإنتاج الخطاب ودون مواقف مستأنفة
في تدبر الاختلاف وإدارته.
قبل
أن نجيب عن سؤال "المستقبل" (ماذا يمكن أن يربح التونسيون من
"تصحيح المسار") سيكون علينا أن نطرح سؤال "الحاضر" (ماذا ربح
التونسيون من ذلك "التصحيح")؟ ولا شك في أننا سنحتاج هنا إلى توضيح
أمرين: أولا، نحن لا نفترض وجود أي علاقة تلازم منطقي أو علاقة اشتقاق ضرورية بين
وعي "التونسيين" في الحاضر ووعيهم في المستقبل، أي إننا نرى أن ما قد
يربحه التونسيون مستقبلا هو مجرد إمكان وليس حتمية تاريخية، فالواقع التونسي منفتح
على سيناريوهات كثيرة يصعب التنبؤ بها إلا من باب الترجيح.
"تصحيح المسار" أنه حلقة من الحلقات الانقلابية التي بدأت في تونس منذ هيئة "تحقيق أهداف الثورة"، ومن بعدها المجلس التأسيسي ومرحلة التوافق بين حركتي النهضة والنداء، كما أكدت خياراته أنه مجرد واجهة من الواجهات المتعددة لمنظومة الاستعمار الداخلي ولاستراتيجيات القوى الدولية الرامية إلى تثبيت تونس في وضعية التابع بنيويا للنظام العالمي الجديد
ثانيا،
إن عبارة "التونسيين" هي أداة تفسيرية أو استعارة جامعة لا يمكنها أن
تساعد في فهم الانقسام المجتمعي المتحكم في حركة الواقع. فالتونسيون ليسوا كتلة
متجانسة ولا يمتلكون تمثلا مشتركا لمفهوم "التَّونسة" أو الهوية الوطنية،
وغير ذلك من المفاهيم المؤسسة للكلمة السواء أو المشترك الوطني. وهو ما يعني أن ما
ربحه/ يربحه جزء من التونسيين قد خسره/ سيخسره بالضرورة جزء آخر. وهو ما يجعل
السؤال الحقيقي الذي ينبغي على أي مشروع للخروج من الأزمات الدورية لمنظومة
الاستعمار الداخلي أن يجيب عنه هو التالي: كيف يمكن إدارة سوق الخيرات المادية
والرمزية وإعادة التفاوض الجماعي على السلطة والثروة؛ بطريقة منصفة تجعل خسارة
البعض خسارةً معقولة وضرورية (من منظور الصالح العام) وربح غيرهم ربحا مستحقا وغير
متعارض مع مبدأ "الإنصاف" (من منظور قانوني وأخلاقي)؟
بعيدا
عن المناكفات السياسية، أثبت "تصحيح المسار" أنه حلقة من الحلقات
الانقلابية التي بدأت في تونس منذ هيئة "تحقيق أهداف الثورة"، ومن بعدها
المجلس التأسيسي ومرحلة التوافق بين حركتي النهضة والنداء، كما أكدت خياراته أنه
مجرد واجهة من الواجهات المتعددة لمنظومة الاستعمار الداخلي ولاستراتيجيات القوى
الدولية الرامية إلى تثبيت تونس في وضعية التابع بنيويا للنظام العالمي الجديد.
فمن
جهة الرساميل البشرية والرمزية لا يمكن فصل "تصحيح المسار" عن النواة
الصلبة للمنظومة القديمة ومختلف وكلائها وأجسامهم الوظيفية في الإعلام والثقافة
والسياسة والنقابات والإدارة وغيرها. أما في مستوى السياسات الخارجية فلا تخفي
السلطة توجهها الفرنكفوني (المناقض للمزاج العام الإفريقي الرامي للتخلص من
الاستعمار الاقتصادي والثقافي الفرنسي)، كما لا يخفى على أي مراقب للشأن التونسي
عمق الارتباط بين السلطة وبين محور الثورات المضادة بقيادة الثالوث السعودي- الإماراتي-
المصري.
ولا
شك في أن "تصحيح المسار" الذي تقوده نخبة لا علاقة لها بالثورة وترعاه
دول تعادي الثورات العربية هو مجرد دعوى عريضة لا محصول تحتها، وهو ما يعني أن
الرابح الحقيقي من تصحيح المسار هم سدنة النظام الريعي- الزبوني- الجهوي، أي
الطابور الخامس للفرنكفونية ولمحور الثورات المضادة ومن يُسندهم في النواة الصلبة
لمنظومة الاستعمار الداخلي (أي المركّب الجهوي- المالي- الأمني). أما عامة الشعب
فإنهم لم يربحوا إلا الوعود التي لا يوجد في الدستور الجديد ما يسمح لهم بمساءلة
الرئيس عنها، كما لا يوجد في المؤسسات "البديلة" والمدجنة وفي خطاب
السلطة ذاتها ما يسمح لهم بالثقة في قدرة أصواتهم على تغيير الواقع.
عندما
نشر الفيلسوف الألماني هيغل كتابه "فنومولوجيا الروح" سنة 1806، كانت
مدافع الفرنسيين تدك مدينة "يينا"، ولكنّ كارثية المشهد لم تمنع الفيلسوف
الألماني من أن يكتب عن الإمبراطور الفرنسي نابيلون: "لقد رأيت المطلق (روح
العالم) يمتطي حصانا". وبحكم وعينا بأن أي قياس لا يراعي الفارق سيكون ضربا
من العبث (ففرنسا التنوير ليست تونس "تصحيح المسار"، ونابليون ليس
الرئيس قيس سعيد، وهيغل ليس أحد شُرّاح مشروعٍ هلاميٍ لا ينضبط حتى عند أشرس
المدافعين عنه)، فإن ما يهمنا من المقايسة بين وضعي ألمانيا وتونس هو القدرة أو
العجز عن تحويل "الأزمات" أو المخاطر الوجودية إلى فرصة لبناء التاريخ
بعد عقله بصورة مختلفة.
فإذا
كان الغزو الفرنسي لألمانيا بالنسبة للفيلسوف الألماني عاملا من عوامل "تسريع
حركة التاريخ"، فإن "تصحيح المسار" يمكن أن يؤدي الدور نفسه، لكن
بشرط وجود نخبة لا يأسرها الماضي ولا يثبطها الواقع. وهي نخبة وعد بها تصحيح
المسار وأخلف، وتدعي المعارضة امتلاكها وهي في الحقيقة لا تمتلك -في الأغلب الأعم-
إلا نخبا وظيفية يتجذر خطابها النقدي عندما تبتعد عن السلطة، وتصبح مجرد
"وكيل" لمنظومة الاستعمار الداخلي عندما تدفع بها الإرادة الشعبية أو
توازنات القوة إلى مواقع القرار.
أهم ما قد يربحه التونسيون من "تصحيح المسار" هو وعيهم باستحالة الخروج من الأزمات الدورية للحكم إلا بمواجهة الأزمة البنيوية "للنمط المجتمعي التونسي"، أي مواجهة الأساطير المؤسسة للدولة- الأمة وخياراتها المكرسة للجهوية والزبونية والتي لا يتعدى دور السلطة فيها -قبل الثورة وبعدها- دور "المدير التنفيذي" المجبر على إمضاء ما يُقرّه المتحكمون في رأس المال داخليا وخارجيا، وهو واقع لا ينطبق على السلطة فقط، بل على معارضتها أيضا
رغم
أن "تصحيح المسار" أكد فشل الانتقال الديمقراطي وهشاشة مؤسساته وأجسامه
الوسيطة، فإنه أكد أيضا أن "مَركَزة السلطة" في ظل نظام رئاسوي هي مصداق
مقولة اللورد أكتون: "السلطة المطلقة، مفسدة مطلقة". ولا عبرة هنا
بالنوايا أو بالمقاصد، بل بالمآلات والمحصول. كما أثبت "تصحيح المسار"
أن منطق التنافي أو النفي المتبادل (صراع الهويات القاتلة) لا يمكن أن يخدم في
النهاية إلا النواة الصلبة لمنظومة الحكم، ولا يمكن أن يكون مدخلا لأي إصلاح
اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي حقيقي.
ولعل
أهم ما قد يربحه التونسيون من "تصحيح المسار" هو وعيهم باستحالة الخروج
من الأزمات الدورية للحكم إلا بمواجهة الأزمة البنيوية "للنمط المجتمعي
التونسي"، أي مواجهة الأساطير المؤسسة للدولة- الأمة وخياراتها المكرسة
للجهوية والزبونية والتي لا يتعدى دور السلطة فيها -قبل الثورة وبعدها- دور
"المدير التنفيذي" المجبر على إمضاء ما يُقرّه المتحكمون في رأس المال
داخليا وخارجيا، وهو واقع لا ينطبق على السلطة فقط، بل على معارضتها أيضا.
فالمعارضة
التي لا تطرح على نفسها مواجهة منظومة الاستعمار الداخلي لن تكون في أفضل أحوالها
إلا أحد بدائل تلك المنظومة. ولا شك في أن "الطريق الثالث" (مهما كانت
مكوناته) هو بديل ممكن ولكنه "الآن- وهنا" هو مجرد مشروع غير نضيج
لأسباب موضوعية وفكرية. وقد يكون على التونسيين جميعا (سواء في ذلك الرابحون أو
الخاسرون مؤقتا) أن يتخذوا تصحيح المسار وليجةً لدخول زمن سياسي جديد بحسابات
عقلانية لا علاقة لها ببؤس
الأيديولوجيا والمصالح الفئوية والجهوية الضيقة. فتلك
المصالح لن تمنع البناء المتداعي -أي المهدد بإعلان الإفلاس بالتوازي مع تقوية
قبضة الاستبداد- من السقوط على الجميع مهما استبعد بعض الرابحين "مؤقتا"
ذلك.
twitter.com/adel_arabi21