في
الأيام الأخيرة قبيل فض اعتصام
رابعة (الذي تحل
ذكراه العاشرة غدا 14 آب/ أغسطس)
كنت وآخرون نوقن أن الفض قادم لا محالة، رغم أني كنت أراه صعبا مع هذه الحشود
الضخمة التي اكتظ بها الميدان، والشوارع المجاورة له، وبين البنايات المختلفة، كنت
أعتقد أن الفض سينجم عنه قتلى بعشرات الآلاف وهو ما لا طاقة للسلطة به مهما بلغت
قسوتها، لكن تقديراتي حول السلطة ورشدها كانت غير صحيحة، فقد حدث الفض أخيرا برا
وجوا، وحصدت نيران القوات الأمنية أرواح مئات المعتصمين السلميين الذين أوهمتهم
السلطات بوجود ممرات آمنة كانت بمثابة
أفخاخ جديدة للقتل.
كنا
في حركة "صحفيون ضد الانقلاب" قد عقدنا اجتماعا قبيل أيام قليلة من الفض،
وتشاورنا ماذا سنفعل عندما تقع الواقعة؟ وكان الرأي أننا سنتوافد كصحفيين إلى
الميدان لنشكل حاجزا بشريا بين قوات الفض والمعتصمين لمنع إراقة الدماء، وبمجرد أن
بدأت عملية الفض صباح الأربعاء 14 آب/ أغسطس اتجهنا إلى مقر نقابة الصحفيين حسب
الخطة المتفق عليها، وقفنا نهتف على سلالم النقابة ضد عملية الفض، ثم اتجهنا إلى
مقر الاعتصام في دروب وطرق صعبة، حيث الأجواء المحتقنة نتيجة عمليات التسميم
الإعلامي التي جرت ضد الاعتصام والمعتصمين. وصلنا إلى المكان بصعوبة بعد أن تفرقت
بنا السبل، فلم نستطع أن نكون كتلة كبيرة مؤثرة في المشهد، كانت عمليات الكر والفر
في كل مكان، وملاحقات الشرطة والجيش أيضا.
وصلت
مع بعض الزملاء إلى مدخل ميدان رابعة من ناحية نادي السكة الحديد، وهناك تواترت
الأخبار عن بدء سقوط بعض الصحفيين شهداء، وفي مقدمتهم أحمد عبد الجواد، الصحفي
بجريدة الأخبار وزميلنا في حركة صحفيون ضد الانقلاب، وبعده حبيبة عبد العزيز ومصعب
الشامي، وميك دين؛ المصور بشبكة سكاي نيوز العالمية.
كانت
عملية الفض تتم على الهواء مباشرة، ذلك أنه رغم محاولات كثيرة للنظام للتعتيم على
الاعتصام، وقطع بث القنوات الفضائية عنه، إلا أن وجود سيارة البث التلفزيوني
(التابعة للتلفزيون الرسمي) والتي منع المعتصمون خروجها ثم استخدموها في توفير
البث لعشرات القنوات غير
المصرية؛ ساهم في إفساد خطة التعتيم الإعلامي على
الاعتصام، وشاهد العالم كله مظاهر الفض الدموي، وبكاء الأطفال والنساء، وسقوط
الضحايا الذين عج بهم المستشفى الميداني ( مركز رابعة الطبي)، ثم انتشار عمليات
القتل من قلب الميدان حتى أطرافه وسط محاولات مستميتة من المعتصمين للعودة إلى
الميدان لإنقاذ المحاصرين، ونقل الشهداء والمصابين، وتحولت بعض المساجد والمقار
الأخرى إلى مستشفيات ميدانية جديدة.
لم نكن نتصور أن مصريين يمكن أن يفعلوا ذلك بأشقائهم مهما بلغت درجة الخصومة بينهم، كان شعور الكثيرين أنهم لو كانوا في معركة مع عدو خارجي لربما كان أرحم بهم، فقواعد الحروب تمنع قتل المسالمين، والأطفال والنساء، لكن الذين فضوا اعتصام رابعة تجردوا من أي مبادئ سماوية أو أرضية، وتعاملوا مع مصريين مثلهم كوحوش مفترسة انقضت على فريستها دون رحمة
بينما
كانت الحشود التي كنت ضمنها من ناحية مستشفى السكة الحديد باتجاه منصة الجندي
المجهول تحاول الوصول إلى قلب الميدان للمساهمة في جهود الإنقاذ، تمت محاصرتنا
بأرتال من سيارات ومدرعات الشرطة والجيش، في تلك اللحظة لُذت مع آخرين بالمسجد
الموجود في المكان، والذي كان قد تحول إلى مستشفى ميداني اكتظ بالضحايا.. خلال
عملية الملاحقة الأمنية والاشتباك بالأيدي بين رجال الأمن والمتظاهرين أصيب
جنديان، وحملهما المتظاهرون إلى داخل المستشفى الميداني للعلاج، ولكن القوة
العسكرية التابعين لها ظنت أنهما تم اختطافهما، ففتحت نيرانها مباشرة باتجاه
المعتصمين داخل المسجد وكنت من بينهم، أغلقنا الأبواب والنوافذ وتترس المعتصمون
خلفها، لكن الرصاص لم يتوقف قادما من بعض النوافذ.
طلب
منا المسئولون عن المستشفى الميداني الانبطاح أرضا باعتبارنا مصابين، لعل ذلك يخفف
النيران ضدنا، مرت رصاصة من فوق ظهري بسنيتمرات قليلة، واستقرت في جسد طبيب بجواري
كان يعالج أحد المصابين فأردته شهيدا، ولو أنني رفعت ظهري قليلا في تلك اللحظة
فربما كانت الرصاصة من نصيبي أنا.. إذن لقد نجاني الله منها، وكتب لي الحياة، لكن
هذا المشهد لم أستطع محوه من ذاكرتي طيلة السنوات العشر الماضية، وإلى جانبه مشاهد
مرعبة أخرى كنت شاهدا عليها.
لم
نكن نتصور أن مصريين يمكن أن يفعلوا ذلك بأشقائهم مهما بلغت درجة الخصومة بينهم،
كان شعور الكثيرين أنهم لو كانوا في معركة مع عدو خارجي لربما كان أرحم بهم،
فقواعد الحروب تمنع قتل المسالمين، والأطفال والنساء، لكن الذين فضوا اعتصام رابعة
تجردوا من أي مبادئ سماوية أو أرضية، وتعاملوا مع مصريين مثلهم كوحوش مفترسة انقضت
على فريستها دون رحمة.
ودعك
من حكاية أن الشرطة اضطرت للرد على مصادر نيران من داخل الاعتصام، فقوات الفض حين
تحركت لتنفيذ مهمتها لم تكن تنتظر أي استفزاز، بل بادرت بإطلاق النيران الكثيف إلى
جانب قنابل الغاز بمجرد وصولها إلى المكان.
لم
تكتف تلك الوحوش المفترسة بجريمتها بقل المئات في ساعات، لكنها سممت عقول الكثيرين
أيضا، فلاحقوا المعتصمين الناجين من المذبحة أثناء خروجهم، وأثناء عودتهم إلى
أماكنهم التي أتوا منها، مجموعات من البلطجية التي كانت بدورها ضحية للتسميم
الإعلامي تقذفنا بالحجارة، أو تتسابق في البذاءة، وحتى الكثيرون من سائقي سيارات
الأجرة كانوا يمتنعون عن نقل البعض حين يشاهدون عليه أثار دماء، أو يظنون أنه عائد
من الاعتصام، مجموعات من "المواطنين الشرفاء!!" تقيم نقاط تفتيش في بعض
الشوارع والطرق لتعطيل حركة السيارات، وإنزال من تعتقد أنه قادم من الاعتصام.
لم أستطع
في ذاك اليوم وعقب انتهاء عملية الفض مساء أن أعود إلى منزلي في مدينة السادس من
أكتوبر بسبب تلك الحواجز الأمنية المتتالية، واضطررت للمبيت لدى أحد الأصدقاء في
مكان آخر ومعي آخرون.. لحظات لا يمكن أن تنمحي من الذاكرة أبدا مهما طال الزمن،
ولا تزال كوابيسها تطاردنا في نومنا، لم تكن أبدا اقل مما حدث في مذابح عالمية
شهيرة أخرى مثل مذبحة سربرنتسا في البوسنة أو مذبحة الميدان السماوي في الصين، أو
غيرهما.
لقد
كنت شاهدا على سلمية الاعتصام، وأتذكر أننا في حركة "صحفيون ضد الانقلاب"
التي كانت لها خيمة بارزة في الميدان أطلقنا مبادرة لزملائنا الإعلاميين طالبناهم
بالقدوم إلى الميدان لتفقده وكتابة مشاهداتهم، مع استعدادنا لتوفير الحماية
اللازمة لهم (لم يكن الأمر يستدعي ذلك لكن أردنا أن نطمئنهم إلى أمنهم الشخصي)،
وكذا مع استعدادنا لمرافقتهم إن أرادوا خلال تنقلهم بين أرجاء الميدان لتصوير
المعتصمين وتصوير ما يتوهمونه من سلاح ومنصات إطلاق مدافع كما زعم إعلام النظام الجديد،
وفي حين تجاهلت الأغلبية هذه المبادرة عمدا لأنها ستفسد عملية التضليل المكلفين
بها، إلا أن البعض استجاب لهذه المبادرة فعلا، وتجولوا بين المعتصمين، وشهدوا
بسلمية الاعتصام لكنهم لم يستطيعوا نقل مشاهداتهم إلى صحفهم، حيث رفض رؤساؤهم نشر
تلك الشهادات التي تخالف التعليمات العليا.
رغم ما يحمله كل من شارك في الاعتصام أو كل من دافع عن الشرعية من آلام ومرارات، إلا أنه ليس من الحكمة أن نظل عالقين في ذلك اليوم، بل الواجب أن نبحث عن مسارات جديدة لإنقاذ الوطن، ووقف نزيف المزيد من الدماء، واستعادة لحمة المجتمع، واستعادة المسار الديمقراطي
لا
تزال أذرع النظام تردد أكذوبة الاعتصام المسلح، والحقيقة التي لا تقبل الشك أن
القوات التي فضت الاعتصام وبذلت كل جهودها للبحث عن تلك الأسلحة لم تجد بغيتها،
وخرج وزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم في مؤتمره الصحفي عقب الفض ليذكر أنه تم
ضبط 15 قطعة سلاح تقليدي (بنادق وفرد)، وهو عدد لا يكفي لوصف الاعتصام بالمسلح،
لقد كانت طائرات الاستطلاع دائمة التحليق فوق الاعتصام، وكان بإمكانها تصوير منصات
إطلاق المدافع التي تحدثوا عنها، لكنها لم تجد شيئا لتصوره، وحتى إذا ادعت الأبواق
الإعلامية أنه تم تهريب السلاح قبل الفض بيوم أو يومين، فأين كان رجال الأمن الذين
ينتشرون بالقرب من مخارج الاعتصام؟! وهل كان من الممكن نقل مدافع أو سلاح ثقيل في
ظل ذلك الحصار الخانق؟!
مضت
عشر سنوات الآن على تلك المذبحة التي وصفتها "هيومان رايتس ووتش" في
تقريها المعنون "حسب الخطة" بأنها الأبشع في تاريخ مصر، وأنها جريمة
إنسانية لا تسقط بالتقادم، كما حددت في ذلك التقرير المسئولين الرئيسيين عن
الجريمة، ومن عاونهم من كبار القيادات الذين ظلوا في مأمن من المحاسبة طيلة
السنوات الماضية.
ورغم
ما يحمله كل من شارك في الاعتصام أو كل من دافع عن الشرعية من آلام ومرارات، إلا
أنه ليس من الحكمة أن نظل عالقين في ذلك اليوم، بل الواجب أن نبحث عن مسارات جديدة
لإنقاذ الوطن، ووقف نزيف المزيد من الدماء، واستعادة لحمة المجتمع، واستعادة
المسار الديمقراطي، وساعتها سيمكن تطبيق عدالة انتقالية تعطي كل ذي حق حقه، وتفتح
للوطن صفحة جديدة.
twitter.com/kotbelaraby