نشر موقع "دويتشه فيله" الألماني تقريرا، للكاتبة كاثرين شاير، أشارت فيه إلى
مجزرة رابعة، التي وصفتها بأنها "أسوأ المذابح" التي يتعرض لها متظاهرون في التاريخ المعاصر.. ولكن رغم أنها واحدة من الأفضل توثيقا، فهي لم تأخذ حيزا في
المحاكم الدولية.
وقال
التقرير، إن الكثير من القرارات القانونية التي صدرت حول القضية جاءت مباشرة بعد الانقلاب العسكري في 2013، ولكن المجتمع الدولي لم يكن واثقا من الطريقة التي ستؤول إليها الأضاع، لا سيما أن الانقلاب كان له الكثير من الداعمين.
وأشار إلى أنه على مدى العقد الماضي تغير ذلك، وصار النظام
المصري الذي يتزعمه عبد الفتاح
السيسي عرضة للنقد بشكل متزايد بسبب سلطويته، وسجله السيئ في مجال حقوق الإنسان.
ورغم كافة الأدلة وتوثيق مجزرة رابعة، فإن من كانوا متواجدين هناك يقولون إنه لا توجد عدالة حقيقية للتكفير عن المذبحة التي وقعت في الميدان.
ويعتقد روبرت سكيلبيك مدير ريدريس، وهي منظمة حقوقية مقرها لندن، أنه عندما تكون الأمور ساخنة فلا يرغب الناس عادة في التصرف مباشرة، وعادة ما يستغرق تجميع الأدلة معا وقتا طويلا، معددا نماذج تاريخية من القضايا التي ما زالت مستمرة منذ وقت طويل.
وتاليا نص التقرير كاملا
ثمة فيض من الأدلة على ما حدث في ذلك اليوم في رابعة في القاهرة.. هناك شهادات الشهود والصور ومقاطع الفيديو، حتى إن هناك فيلما وثائقيا بعنوان "ذكريات مذبحة" أطلق هذا الشهر.
ولكن على الرغم من كل الأدلة، فإن من كانوا متواجدين هناك يقولون إنه لا توجد عدالة حقيقية للتكفير عن المذبحة التي وقعت في ميدان رابعة العدوية في القاهرة قبل عقد من الزمن.
في الرابع عشر من أغسطس (آب) 2013، انتشرت قوات الأمن المصرية في مواقع لها حول الميدان حيث كان يعتصم ما يقرب من خمسة وثمانين ألف شخص احتجاجاً على الوضع السياسي في البلاد.
تجمع المتظاهرون هناك لأنه في وقت مبكر من شهر يوليو، فقد أطاح العسكر في مصر بالرئيس المنتخب حديثاً، محمد مرسي، والذي هو نفسه عضو رفيع المستوى في حركة الإسلام السياسي، جماعة الإخوان المسلمين. ورداً على ذلك فقد بدأ أنصاره في التجمع والاعتصام في مختلف أرجاء البلاد.
بحسب ما ورد في تقارير صادرة عن منظمات حقوق الإنسان، مباشرة تقريباً بعد إخبار الجماهير المعتصمة في رابعة بالتفرق، فقد بدأت قوات الأمن بإطلاق النار على الحشود. رغم أن التقديرات تتباين، فإنه يعتقد بأن ما بين ستمائة وألف شخص قتلوا في ذلك اليوم.
جريمة ضد الإنسانية؟
بعد مقابلة ما يزيد على المئتي شاهد عيان وإعداد تقرير من مئة وثمانية وثمانين صفحة، فقد قالت منظمة هيومان رايتس ووتش إن ما حدث ربما يرقى إلى كونه جريمة ضد الإنسانية، بينما وصفت منظمات حقوقية أخرى ما جرى بأنه واحد من أسوأ عمليات القتل الجماعي للمتظاهرين في التاريخ المعاصر. ويقولون أيضاً إن ما وقع كان واحداً من أكثر الفظائع توثيقاً بالصوت والصورة في التاريخ الحديث.
إذن لماذا لم يحاسب أحد على ما جرى حتى الآن؟
سبق أن قالت الحكومة المصرية إن تقارير منظمات حقوق الإنسان حول المذبحة منحازة. ولم تجب على أسئلة وجهها إليها موقع "دويتشه فيله" حول ما إذا كانت هناك ثمة حاجة لإجراء مزيد من التحقيق.
قامت مصر بتنظيم تحقيقات خاصة بها حول المذبحة. أحد هذه التحقيقات أجرته لجنة تقصي حقائق تم تشكيلها في أواخر عام 2013، بينما قام بتنفيذ الآخر المجلس الوطني لحقوق الإنسان التابع للدولة. كلا التقريرين خلصا إلى أن المعتصمين في رابعة كانوا هم الخاطئين لأنهم كانوا مسلحين، وهو ما ينفيه الشهود نفياً قاطعاً. إلا أن التقريرين أقرا بأن قوات الأمن أفرطت في استخدام القوة، ولكنهما لم يوصيا بتوجيه أي اتهامات.
وفي عام 2018، أجاز البرلمان المصري مشروع قانون يمنح كبار القادة العسكريين الحصانة من الملاحقة القضائية على أعمال قد يكونون ارتكبوها أثناء قيامهم بمهامهم، خلال الفترة التي تقع ما بين اليوم الذي عطل فيه الدستور المصري في يوليو (تموز) 2013 إلى اليوم الذي عاد فيه البرلمان إلى الانعقاد في عام 2016.
ثم في عام 2021، أقرت مصر تعديلات على القوانين الخاصة بالمحكمة الدستورية العليا في البلاد. تقضي هذه التعديلات بأنه فيما لو قررت أي من المحاكم الدولية ذات يوم إدانة مصر لنقل بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وأمرتها بدفع تعويضات، فإن القرار يحال إلى المحكمة الدستورية العليا. وبعد ذلك تقرر هذه المحكمة المحلية ما إذا كان الحكم الصادر عن الهيئات الدولية صحيحاً أم لا.
كتبت المحامية مي السعدني في تدوينة لها على موقع مؤسسة كارنيغي الوقفية في عام 2021 تقول: "توجه هذه التعديلات رسالة واضحة. بالنسبة لمن هم داخل البلد، تشير التعديلات إلى أن من يرتكبون الانتهاكات بإمكانهم أن يستمروا في ارتكابها والتمتع بالحماية داخل البلاد. أما بالنسبة للمجتمع العالمي، فإن السلطات المصرية تتحدى المنظومة الدولية".
البحث عن العدالة خارج مصر
نتيجة لذلك، انتقل البحث عن العدالة إلى الساحة الدولية خلال العقد الماضي. ولكن حتى هذه المساعي لم يحالفها الكثير من النجاح.
طالبت منظمات حقوق الإنسان لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بالتحقيق في المذبحة، ولكنها اختارت حتى الآن ألا تحرك ساكناً. لم تنضم مصر بالكامل إلى المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب، الذراع القضائية للاتحاد الأفريقي. كما أنها ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية.
في عام 2014، طالب محامون مصريون وحزب الحرية والعدالة، الذي ينتسب إليه الرئيس المطاح به محمد مرسي، المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في مزاعم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في رابعة. إلا أن المحكمة الجنائية الدولية رفضت الطلب، وقالت إن الذين تقدموا منها بطلب التحقيق لم يكونوا ممثلين شرعيين للحكومة المصرية.
عندما قام أحد كبار القادة العسكريين في مصر، محمود حجازي، بزيارة إلى معرض تجاري للسلاح في بريطانيا في عام 2015، طلب محامون يمثلون حزب الحرية والعدالة من الشرطة البريطانية توقيفه بسبب مزاعم بتورطه في أعمال التعذيب، وكذلك لأنه كان "جزءاً أساسياً من خطط الفض التي نفذت في رابعة."، إلا أن الشرطة رفضت الاستجابة للطلب لأن حجازي كان يحظى بحصانة دبلوماسية خاصة.
تعليقاً على ذلك يقول روبرت سكيلبيك، مدير ريدريس، وهي منظمة حقوقية مقرها لندن متخصصة في دعم ضحايا التعذيب الذين يسعون للحصول على العدالة: "وبهذا تكون الخيارات الوحيدة المتبقية لديك هي تلك الأنواع من التحقيقات التي تقوم بها مختلف الكيانات التابعة للأمم المتحدة، أو الولاية القضائية العالمية".
هل يمكن أن تجدي "الولاية القضائية العالمية" نفعاً؟
من الناحية النظرية، تسمح المبادئ القانونية للولاية القضائية العالمية للسلطات في أي بلد بمحاكمة الأفراد الذين ارتكبوا جرائم حرب في أي بلد آخر، بغض النظر عن ما إذا كانوا هم أو الجرائم التي ارتكبوها ذات علاقة بالبلد الذي يقوم بإجراءات المحاكمة.
ولكن من الناحية العملية، يتم في العادة تمييعها طبقاً لاعتبارات متعددة. وهذه تشمل ما إذا كان هناك شهود داخل الدولة التي تجرى داخلها المحاكمة، وما إذا كان هناك أي فرصة لتوقيف واعتقال المجرمين المزعومين، ثم، وهذا ربما هو الأهم على الإطلاق، ما إذا كان الادعاء المحلي يرغب في المضي قدماً في تبني القضية. عادة ما تخضع هذه العملية لاعتبارات سياسية لا مفر من أن تؤخذ بالحسبان.
في تصريح لموقع "دويتشه فيله"، قال سكيلبيك: "في الواقع، سيكون من الصعوبة بمكان تطبيق الولاية القضائية العالمية في هذه القضية، لأنه لا يوجد إمكانية حقيقية لتسليم المسؤولين الكبار من مصر". وأضاف في إشارة إلى المحاكمات التي تجري بدون وجود المتهم داخل المحكمة: "لا يوجد الكثير من البلدان التي لديها الاستعداد للقيام بهذه المحاكمات غيابيا".
وحتى في ألمانيا، التي وصفت مؤخراً بأنها الرائدة عالمياً في استخدام الولاية القضائية العالمية، من غير المحتمل أن يتم قبول قضية ضد المسؤولين المصريين.
بادئ ذي بدء، لا بد أن تثبت أن جريمة ضد الإنسانية قد ارتكبت، طبقاً للتعريفات القانونية، كما يشرح أندرياس شولار، مدير برنامج الجرائم الدولية والمحاسبة في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية والإنسانية الذي يتخذ من برلين مقراً له، وهي المنظمة التي كانت المحرك الأساسي من وراء المحاكمات التي نظمت مؤخراً في ألمانيا لمحاسبة مجرمي الحرب السوريين من خلال استخدام الولاية القضائية العالمية.
وقال شولار: "بحسب ما أعلم لا توجد محاكم أو غير ذلك من المؤسسات التي تمكنت من إثبات ذلك. ولذلك فإنك تحتاج لأن تؤسس للقضية للوهلة الأولى، وهذا يتطلب جهداً كبيراً".
تم المضي قدماً في القضية المرفوعة ضد مجرمي الحرب السوريين بفضل تضافر مجموعة من العوامل داخل ألمانيا نفسها، بما في ذلك الشهود والأدلة والجناة، بالإضافة إلى توفر الإرادة السياسية.
يقول شولار: "ولكن ما نحن بصدده لا يشبه القضية السورية. فلم تكن توجد علاقات دبلوماسية بين ألمانيا والحكومة السورية. بينما تحظى مصر بالكثير من الدعم السياسي الدولي. كما أنها ليست من البلدان الموقعة على المعاهدات الأممية ذات العلاقة أو على نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية. ولذا فإنه لا يوجد من لديه الرغبة الحقيقية لتبني هذه القضايا، والتي سوف تتطلب أيضاً تحقيقاً موجهاً بدقة، وباقة معينة من العوامل حتى تصبح قابلة للترافع أمام المحكمة".
ويضيف سكيلبيك من منظمة ريدريس: "إننا نشاهد ذلك طوال الوقت في العمل في مجال حقوق الإنسان، حيث لا تتخذ بلدان غربية معينة موقفاً حازماً ضد البلدان الأخرى بسبب الوضع السياسي".
ويعتقد شولار كذلك أن الاهتمام الدولي انتقل إلى بلدان مثل أوكرانيا والسودان أو إيران.
ولدى عمرو مجدي، كبير الباحثين في منظمة هيومان رايتس ووتش، آراء مشابهة، حيث إنه صرح لموقع "دويتشه فيله" بما يأتي: "لقد ساهم المناخ السياسي في المنطقة في التحفيز على غض الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر. فحينذاك كانت المنطقة بأسرها تعج بالمشاكل، بما في ذلك الحروب الأهلية في سوريا واليمن وليبيا".
ويقول مجدي إن الحكومة المصرية تمكنت من اللعب على القضايا التي تهم بقية العالم "بحيث يتم غض الطرف عن الديمقراطية وحقوق الإنسان مقابل اعتناء مصر بالمصالح الأوروبية، مثل محاربة الهجرة غير النظامية، والتعاون الأمني، والعلاقات الاقتصادية".
تبدل المواقف تجاه مصر
بالرغم من كل ذلك لربما ما زال ثمة حد أدنى من الرجاء في أن تُجلب العدالة إلى قضية رابعة يوماً ما.
كثير من القرارات القانونية التي صدرت حول القضية جاءت مباشرة بعد الانقلاب العسكري في 2013. حينذاك، بدا المجتمع الدولي غير واثق من الطريقة التي كانت ستؤول إليها أوضاع الحكومة المصرية – وذلك أن الانقلاب العسكري كان له كثير من الداعمين بينما واجهت حكومة مرسي اندلاع احتجاجات شعبية ضدها.
ولكن على مدى العقد الماضي تغير ذلك، وصارت الحكومة الحالية بزعامة عبد الفتاح السيسي عرضة للنقد بشكل متزايد بسبب سلطويتها وسجلها في مجال حقوق الإنسان الذي ما فتئ يزداد سوءاً.
ويقول سكيلبيك: "إن النقطة جيدة. جرت هذه المقاضاة سريعاً بعد الأحداث. عندما تكون الأمور ساخنة فإن الناس لا يرغبون عادة في التصرف مباشرة. على أية حال، فإنه عادة ما يستغرق تجميع الأدلة معاً وقتاً طويلاً".
وأشار في هذا السياق إلى نماذج تاريخية من القضايا التي ما زالت مستمرة منذ وقت طويل، مثل المحاكم الدولية التي تنظر في الجرائم التي ارتكبت في رواندا، وكمبوديا، ويوغسلافيا السابقة، وكذلك في الحرب العالمية الثانية، مشيراً إلى أن "العدالة الدولية عادة ما تستغرق وقتاً طويلاً جداً".
وقال: "حتى المحاكمة العادية في قضية جريمة قتل قد تستغرق عامين إلى أن تكتمل حيثياتها. ولذا، فإنه ليس مستغرباً أن تستغرق هذه المحاكمات وقتاً طويلاً. إلا أن المقاربة البعيدة النظر هي بلا أدنى ريب السبيل الوحيد لعمل ذلك".