عجيبة هي الأيام الستون التي قضاها يفغيني
بريغوجين ما بين واقعة الزحف المشهديّ المبتور على موسكو والتحطيم العمد للطائرة التي كانت تقله، وساعده الأيمن دميتري أوتكين، من موسكو في اتجاه سانت بطرسبرغ، وهي العاصمة الإمبراطورية السابقة التي تحمل اسم بطرس الأكبر، والتي تعدّ مسقط رأس لكل من الرئيس فلاديمير بوتين، ولبريغوجين، ولمجموعة
فاغنر نفسها.
هذه المدينة يفترض أنّها بتاريخها وبموقعها الجغرافي المطلّ على خليج فنلندا وبثقافتها وناسها هي الأكثر تأوربا، لا الأكثر أورَسة – نسبة إلى أوراسيا – في
روسيا. بل وعلى هذا الأساس كانت المدينة التي فتحت الباب لسيطرة البلاشفة على روسيا على 1917، باعتبارهم «الخيار الأوروبي» بامتياز يومها. حينها، كان يكثر البلاشفة من هجاء «البربرية الآسيوية» التي ترسف روسيا القيصرية بأغلالها، قبل أن يخرج لينين لاحقا ببدعة «آسيا المتقدمة وأوروبا المتخلفة»، التي جاءت تعكس أمرا واقعا، يتمثل بانسداد الأفق أمام الحركة الثورية العمالية في أوروبا، وانفتاح المجال للحركات التحررية الوطنية في العالم الآسيوي.
لم يتح لبريغوجين الهبوط مجددا في أي من مطارات سانت بطرسبرغ. إنما يظهر أنه فعل ذلك أكثر من مرة في الأيام الستين الفاصلة بين حركته التمرّدية التي أثارت العالم لساعات محمومة في حزيران/يونيو الماضي، بين مصرعه الذي لم يتأخر كثيرا.
وسانت بطرسبرغ لا تزال هي «العاصمة» لشركة فاغنر، حيث مقرّها الرئيسي فيها. هذا في حين أن المدينة، بتروغراد، التي سميت لينينغراد في العهد السوفياتي، فقدت مكانتها كعاصمة لصالح موسكو، لظروف متصلة أساسا بالحرب الأهلية الروسية. والمدينة مع ذلك، ظلت طيلة العهد السوفياتي الأكثر تأوربا. وعلى هذا الأساس، تحولت أيام البيروسترويكا إلى أسرع المدن في هجران الشيوعية، بعد أن لم تعد الأخيرة تمثل خيارا أوروبيا بالنسبة لها، بل خيارا آسيويا فوق ما في طاقة المدينة على الاحتمال، هي التي شُيّدت أساسا باستلهام فنون العمارة الأوروبية المختلفة، وبالابتعاد كثيرا عن الطابع الشرقي لموسكو وأخواتها، هذا قبل أن تشعر المدينة مجددا بأن العصر ما بعد السوفياتي، مع بوريس يلتسن القادم من الأورال، فيه أيضا مجافاة وتهميش لها، لا سيما وأن يلتسن بنى زعامته أساسا في موسكو وحولها، يوم كان سكرتيرا أول للجنة موسكو في الحزب الشيوعي السوفياتي.
فكيف بالمدينة التي لم يعجبها في القرن الذي مضى خيانة القيصر نقولا الثاني لفكرتها الأوروبية، وانشداده نحو التراث الموسكوبي، ومن ثم خيانة الشيوعيين للنزعة المنشدة نحو أوروبا، هم أيضا، وتوبتهم إلى «الاستبداد الشرقي» بل والسير به نحو أفظع أشكاله، ومن بعدهم استمرار الخصائص الاستبدادية الشرقية، وإن يكن برطانة ليبرالية مع يلتسن، كيف لهذه المدينة التي لا تحمل اسما سلافيا بل جرمانيا، أن ترتبط باسمي «فلذتي كبدها» هذين: بوتين وبريغوجين؟ وهما إذ يحيلان، فأكثر ما يحيلان إلى تقاليد ونماذج «الاستبداد الشرقي» في البطش والمكايدة والغيلة، اللصيقة بتراث مملكة الموسكوب الحبيسة وإيفان الرهيب. هل أدار البطرسبرغيون ظهورهم إلى هذه الدرجة للبحر؟
لن يُعزَف لحن للموسيقار الألماني الشهير ريتشارد فاغنر، على الأرجح، في وداع بريغوجين وأوتكين. من كل عباقرة الموسيقى الروس والسلاف لم تجد هذه الشركة اسما تتبناه غير فاغنر الألماني، هذا في المدينة التي صمدت بشكل أسطوري أمام الحصار الألماني الأطول. ويبدو أنه اللقب اختاره أوتكين لنفسه في بداية عمله الأمني.
وأوتكين «الساعد الأيمن» يظهر أنه فعل ذلك، لا تأثرا بموسيقى فاغنر، بل بسمعة فاغنر «العاطلة» بعد أن وظّفه النازيون لحسابهم. لقد عمد النازيون لتدوير كل من نيتشه وفاغنر، لكن أمورهم مع فاغنر كانت أسهل؛ لأن معاداته للسامية كانت أوضح، وبلا لبس. ولأن دعوته لتطهير الموسيقى الألمانية من كل ما هو يهودي، رفدت خطاب تطهير الثقافة الألمانية ككل من كل ما هو يهودي.
محاكاة «النازيين الجدد» هي التي جعلت شركة المرتزقة هذه تتسمّى فاغنر. ظهرت المجموعة في بداياتها متحمسة لطروحات تفوق الجنس الأبيض، وأن الجنس الأبيض في خطر، لتتحول بعد سنوات قليلة إلى ذراع روسيا الضاربة في «أفريقيا السوداء» (جنوب الصحراء). تسند هذا النظام هنا، وتهوي بذاك النظام هناك، وتنهب من هذه البلدان ما تيسّر من ذهب وماس وثروات. هذا بالتوازي، مع إسنادها نظام الأبارتيد الفئوي في سوريا.
بيد أن اللاسامية في معشر «شركة فاغنر» لم تحل دون أن يكون بريغوجين نفسه من أب يهودي، تماما مثلما لم تمنع بنوة فلاديمير جرينوفسكي ليهودي، وهو زعيم القوميين المتطرفين الروس بعد زوال الاتحاد السوفياتي، من أن يكون له باع طويل في معاداة السامية. على المقلب الأوكراني، الشيء بالشيء يذكر. رئيس من منبت يهودي، ومقاتلون من «كتيبة آزوف»، عبثا يتخففون من عواطفهم «النازية».
اللافت في المقابل أن «الفغنرة» هذه، واختيار المحاكاة «الكيتش» لأجواء الجماعات النازية الجديدة في الغرب، جنّبت جماعة فاغنر الأخذ بأي من المنازع الأيديولوجية والهوياتية «الشرقية»، التي تغذي أنصار النظام البوتيني في موسكو والعمق الروسي. محاكاة النازية الجديدة جنبت هذه المجموعة الأخذ بفكرة بعث الرابطة السلافية، أو بفكرة تمجيد الرابطة الأوراسية، أو بالأخذ بفكرة الرابطة المسيحية الأرثوذكسية، أو بمجاراة النوستالجيا لستالين والاتحاد السوفياتي. هنا فقط، يمكن أن تكون «فاغنر» قد حافظت، ولو من طريق المحاكاة الكيتش للنازية الجديدة، على نزعة أوروبية بطرسبرغية ما، بوجه الهوية الموسكوبية «الشرقية».
عجيب أمر بريغوجين في الستين الأخيرة من أيامه. توعد بشنق وزير الدفاع في الساحة الحمراء. احتل بالفعل قلب مدينة بحجم روستوف على الدون. اجتاز مسلحوه مئات الكيلومترات والنظام واقعٌ في حيص بيص. ثم خرجت معزوفة «حقن الدماء» والوساطة البيلوروسية.،لتخرج بعدها الأنباء بأن بريغوجين غادر بيلوروسيا، ثم ليعلن بوتين نفسه في حديث لصحيفة كومرسانت أنه قابل لساعات طويلة بريغوجين يوم 29 حزيران/يونيو في الكرملين، أي بعد خمسة أيام على تمرد بريغوجين واعتباره خائنا، ثم إلغاء كل تعقب بحقه!! لكن بوتين أفصح في الوقت نفسه أن المقترحات التي قدمها لبريغوجين في اجتماع يوم 29، المتصلة بتغيير قيادة فاغنر وشكل ربطها بالقيادة العسكرية الروسية، قوبلت بالرفض.
ما الذي كان يفعله بريغوجين ورفاقه في رحلاتهم بين المدن الروسية في الأسابيع الماضية؟ لم يستجوبهم أحد. لم يوقفهم أو يخطفهم أحد. حاول بريغوجين في الأسابيع الماضية الظهور بمظهر المنكبّ على الوضع بأفريقيا، ويبدو أنه كانت له مشاركة في بعض اللقاءات على هامش القمة الأفريقية الروسية بسانت بطرسبرغ نهاية تموز/يوليو الماضي. هل اعتبر أن «دوره الأفريقي» يحمل بوتين على الصفح عنه؟ لكن الرئيس لم يتعاطف معه أساسا عندما كانت المسألة محصورة بمشكلة بين بريغوجين ووزير الدفاع سرجي شويغو، رغم الحاجة الماسة لمقاتلي فاغنر في أوكرانيا.
سافر بريغوجين بين مدن روسيا مرارا «حزك مزك» بين يوم تمرده ويوم مقتله. هل كان يعد لانقلاب جديد؟ احتمال ضعيف. أضعف منه التفكير بأنه قنع نفسه بأن بوتين صفح عنه. أساسا، اجتماع 29 حزيران/يونيو ثم حديث بوتين عن الاجتماع وما دار فيه، أبعد ما يكونان عن هذا الانطباع. الأرجح أن التفاوض بين بريغوجين والقيادة الروسية، استمرّ إلى اللحظة التي أقلته فيها الطائرة إلى العالم الآخر.
في عالم الإجرام، يمكن القول؛ إن بريغوجين حظي بموتة مقبولة. أين منها بشاعة الشريط الذي بثته فاغنر عن إعدام المرتد عنها يفغيني نوزين في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، بتحطيم رأسه بهراوة؟! ظهر بريغوجين يومها متباهيا بأن «هذا الكلب حظي بموتة كلب». بوتين كان «أكثر نبلا». قال عن بريغوجين بأنّ له حسنات وسيئات. كما لو أنه بطرس الأكبر غداة إعدامه لابنه. قال بوتين ذلك بعد أن ترافقت تصفية بريغوجين مع عزل الجنرال سوروفيكين. فهل حصل الأمران بعد أن تمكنت القيادة الروسية من تحفيز قيام قيادة بديلة لفاغنر؟ أو أنها وجدت أنه لا يسعها بلورة قيادة للمجموعة متعاونة معها دون تصفية بريغوجين والتحفظ على سوروفيكين؟ هل تكون فاتحة لتصفيات في اتجاهات مختلفة؟ أسئلة يمكن أن تتسلسل وتتسلل إلى البعيد. لكن الأقرب يبقى: كيف تُستكمل الحرب المترنحة على أوكرانيا بعد كل من مصاب روسيا بفاغنر، ومصاب فاغنر بمصرع رأسها؟
القدس العربي