فيلم "العتبة الخضرا" وقصة الرجل الذي
اشترى "التروماي"! كانا دليلا على السذاجة المفرطة، ومثالا على
ضياع الأموال في صفقات مستحيلة، لكنهما في جانب مهم يوضحان أن الأمر المستقر وقتها
في أفهام الناس هو حرمة مقار الحكومة ومبانيها الرسمية كونها ملكية عامة لا يجوز
المساس بها، مع استحالة بيعها بالإجراءات العادية، لكن الأمر -بعد ستة عقود- من
إنتاج فيلم "العتبة الخضرا" لم يعد مثالا على السذاجة، كما أن الطرح أصبح
ممكنا، فإن أملاك الدولة ومقارها الرسمية في وسط البلد، تباع بطرق غريبة ومستهجنة!
أصول البيع
نجحت البيروقراطية
المصرية في إنجاز أصول إجرائية لحماية
أصول وأملاك الدولة، يصعب تجاوزها، تنظم عمليات بيع وشراء
الأصول والثروات، وتمر
بسلسلة طويلة من الإجراءات القانونية التي تصونها من الإهمال والفساد أو الاستغلال
والتربح.
يمكننا إطلاق مصطلح "أصول البيع" على
تلك الإجراءات، فتشريعات "المناقصات والمزايدات" و"تأسيس أجهزة
مستقلة" كالجهاز المركزي للمحاسبات والرقابة الإدارية، بالإضافة لآليات رقابية
عليا، تنفيذية وبرلمانية وقضائية، وضعت أصولا لعمليات التصرف في أملاك الدولة وثرواتها،
قبل أن تنقلب دولة يوليو 1952 على تلك المنظومة، وتضعفها بشكل متعمد، كونها ركزت
السلطات في يد الرئيس، وحولت منظومة الحكم من راعي لمصالح الشعب إلى قيِّم أو وصي
عليه، أو بالأحرى "مالك حقيقي" لا يعقب على أمره أحد، حتى وصلت الأمور
قبيل ثوة يناير لذروتها في ملف الخصخصة وبيع الأصول، ولم تخفف من خطورتها الأحكام الشهيرة
لمجلس الدولة ببطلان بعض عقود الخصخصة.
بيع الأصول
عقب انقلاب 2013، تحولت مصر من دولة تراعي "أصول
البيع" إلى كيان يبالغ في "بيع الأصول"، يوقع اتفاقية تنازل
عن حقوق مصر التاريخية بنهر النيل، ثم يفرط في جزيرتي تيران وصنافير، ثم يجرم
الحديث حول فضيحة الغاز الطبيعي الإسرائيلي التي تفجرت قبيل ثورة يناير.
كيف تحولت الأمور من منظومة معقدة تبالغ في حماية أصول الدولة إلى منظومة تبيع الأصول بكل أريحية وتساهل؟ الإجابة تكمن في معرفة "السياسات التشريعية" التي اعتمدها نظام يوليو 2013 في هذا الشأن، والتي ترتبت عليها منظومة من التشريعات والقرارات سهلت عملية بيع أصول الدولة، ومن ثم حصنتها من الطعن
لكن، كيف تحولت الأمور من منظومة معقدة تبالغ في حماية أصول
الدولة إلى منظومة تبيع الأصول بكل أريحية وتساهل؟ الإجابة تكمن في معرفة "السياسات
التشريعية" التي اعتمدها نظام يوليو 2013 في هذا الشأن، والتي ترتبت
عليها منظومة من التشريعات والقرارات سهلت عملية بيع أصول الدولة، ومن ثم حصنتها
من الطعن.
على رأس تلك المنظومة، قانون عجيب في جرأته على إهدار مبدأ
المواطنة، وتقييد سلطة القضاء، أصدره "عدلي منصور" قبل ترك منصبه
بأقل من خمسين يوما، ما يضع علامات استفهام عن مدى العجلة في إصداره! هو القرار
بقانون رقم 32 لسنة 2014 بشأن "تنظيم بعض إجراءات الطعن على عقود الدولة"،
والذي منع الطعن على عقود الدولة وقراراتها ببيع الأصول، وحرم المواطنين من
التقاضي وفق مبدأي "الصفة والمصلحة" المستقرين في قضاء مجلس
الدولة، كما أوجب على المحكمة رفض الطعون المرفوعة على العقود والقرارات من تلقاء
نفسها، ما أسبغ على قرارات الحكومة حصانة من الطعون القضائية. ولم يكتف بذلك، بل امتد
التحصين بأثر رجعي للطعون التي أقيمت قبل تاريخ العمل بهذا القانون ما يعني إسقاط
كافة طعون الخصخصة والبيع التي أقيمت قبل الثورة وأثنائها!
الأمر الأعجب أن المحكمة الدستورية أقرت هذا القانون رغم
وضوح العوار الدستوري الذي يحيطه من كل جوانبه، بل اعتبرته في حيثيات حكمها ضروريا
لاستعادة الثقة في العقود التي تبرمها الدولة عبر طمأنة المستثمرين والممولين
وغيرهم من الراغبين في التعاقد مع الدولة. وأضافت أن التشريع المطعون فيه قد توخّى تحقيق اعتبارات الأمان القانوني
للتصرفات التي تبرمها الدولة.. وبهذا تم تحصينه من الطعن بعدم الدستورية، وأصبحت
عقود بيع الأصول مشروعة والطعن عليها ممنوع.
قانون "
صندوق مصر السيادي" برقم 177
لسنة 2018 هو الآخر منح حصانة لتصرفات النظام المفرّطة في الأصول، حيث منح رئيس
الجمهورية حقا منفردا بإصدار قرارات إزالة صفة النفع العام ونقل أي أصل من أصول
الدولة "المستغلة وغير المستغلة" للصندوق، ثم منح الصندوق الحق
في بيعها أو تأجيرها، والتصرف فيها بكافة الأشكال، مع اعتبار تلك القرارات بنقل
الأصول للصندوق أو بيعها فيما بعد "محصنة من الطعن" وعلى المحكمة
أن تقضي من تلقاء نفسها برفض الطعن عليها.
لم ينقضِ العجب بعد! فإن الصندوق الذي يستلم "أصول
مصر" لا يديره جهاز حكومي أو وزارة، إنما يديره مجلس إدارة معين من قبل رئيس
الجمهورية على غرار مجالس إدارات الشركات، ولا يخضع في ذات الوقت لأيٍ من أجهزة
الرقابة، وفي مقدمتها الجهاز المركزي للمحاسبات، كما أنه يدير الأموال التي آلت
إليه بذاته، أو يعهد بها للغير وفق قراره المنفرد. والأخطر على الإطلاق أنه في حال
خسارة 50 في المئة من رأس المال يُصفي الصندوق وفق إجراءات يتخذها مجلس إدارته وجمعيته
العمومية، وهو ما يخالف أبسط بديهيات العمل الإداري التي تمنع الجهة الإدارية التي
حققت الخسائر من التستر على وقائع الفساد أو التربح.
الصندوق الذي يستلم "أصول مصر" لا يديره جهاز حكومي أو وزارة، إنما يديره مجلس إدارة معين من قبل رئيس الجمهورية على غرار مجالس إدارات الشركات، ولا يخضع في ذات الوقت لأيٍ من أجهزة الرقابة، وفي مقدمتها الجهاز المركزي للمحاسبات، كما أنه يدير الأموال التي آلت إليه بذاته، أو يعهد بها للغير وفق قراره المنفرد
طبيعة الأصول التي تباع عبر الصندوق السيادي، تضم مباني
ذات طبيعة تاريخية خاصة، فمقار الحكومة القديمة في القاهرة والمحافظات والتي تقدر
بمئات المليارات تُزال عنها صفة النفع العام وتؤول تباعا للصندوق، على غرار قرار
السيسي 459 لسنة 2020 والذي نقل للصندوق بمقتضاه "مبنى مجمع التحرير، ومقر
وزارة الداخلية في لاظوغلي، ومقر الحزب الوطني على نيل القاهرة، ومباني كل من القرية
التعليمية الاستكشافية والقرية الكونية بمدينة السادس من أكتوبر، ومباني ملحق معهد
ناصر في كورنيش شبرا مصر، وأرض حديقة الأندلس في طنطا، وجميعها أراض ذات قيمة
اقتصادية واستثمارية كبيرة. انضمت مؤخرا إلى صندوق مصر السيادي شركة مصر القابضة
للتأمين، وهي شركة ضخمة تمتلك مئات الأصول العقارية ذات القيمة التاريخية والمواقع
المتميزة استثماريا في القاهرة والمحافظات وتديرها عبر شركة مصر لإدارة الأصول
العقارية.
وفق هذه التشريعات أصبح النظام ممثلا في شخص رئيسه، أو
الأجهزة التي أنشأها لبيع الأصول، مطلق اليد، لا يراجعه برلمان، ولا يوقفه قضاء،
ولا يحق لمواطن الطعن على قراراته.
ضمانات ملغاة
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد ألغى النظام ضمانات
تحصين أصول الدولة وأملاكها وثرواتها، فألغى قانون المناقصات والمزايدات، وحل محله
قانون التعاقدات الحكومية الذي يتوسع في التعاقد بالإسناد المباشر، وقيّد اختصاص
مجلس الدولة بمراجعة العقود التي تبرمها الدولة، كما شُكلت لجان عليا لحصر أملاك
الدولة الخاصة، وثروات وزارة الأوقاف، وعقارات وأملاك وزارة النقل والزراعة والحكم
المحلي.
طرق بيع أصول الدولة تعد دلالة واضحة على استخدام النظام
للسياسات التشريعية والوظيفة القانونية في خدمة أهدافه، وتحصين أعماله، وإصدار قوانين
وقرارات من شأنها تهريب الثروة والتفريط في الأصول، دون معقب أو رقيب، والمحصلة
كما نرى هدم التاريخ، وطمس الهوية، وحرمان مصر من أملاكها وأصولها وثرواتها.