تناول
مقال للصحفي بيتر أوبورن، نشره موقع "ميديل إيست آي"، مشروع القانون البريطاني
المناهض لحركة مقاطعة
الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدا أن المشروع يمرغ سمعة
بريطانيا
العالمية في التراب.
وأشار
الكاتب إلى أن حكومة ريشي
سوناك، المنكسرة أخلاقياً تصر على الدفع بالمشروع ليصبح تشريعاً بدون أدنى درجة من التدقيق الجاد.
وفي ما
يأتي نص المقال الكامل الذي ترجمته "عربي21":
هذا
الأسبوع، سوف يُستقبل وزير الخارجية جيمس كليفرلي، استقبال الأبطال من قبل حكومة الاحتلال
بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وذلك حينما يزور إسرائيل في مهمة يقال إن
الغاية منها هي بناء الروابط التجارية بين البلدين.
ولكن
في واقع الأمر لم تتوان الحكومة البريطانية حتى الآن عن تقديم كل ما في وسعها
تقديمه لحكومة نتنياهو.
والحبل
على الجرار.
خذ
على سبيل المثال "خطة طريق 2030 للعلاقات الثنائية بين بريطانيا
وإسرائيل"، والتي تجاهلت الاحتلال ووصفت إسرائيل بأنها ديمقراطية
"مزدهرة"، وهي الخطة التي وقع عليها وزير الخارجية كليفرلي قبيل قيام
نتنياهو بزيارة إلى بريطانيا في شهر مارس (آذار) الماضي. والآن لدينا مشروع قانون،
أطلق عليه الاسم المشؤوم "النشاط التجاري لمؤسسات القطاع العام" (شؤون
الخارج)، والذي دخل الأسبوع المنصرم مرحلة اللجنة الخاصة به في مجلس العموم.
يحقق
مشروع القانون هذا واحداً من أهم الأهداف المركزية للسياسة الخارجية لحكومة
نتنياهو – ألا وهو حماية إسرائيل من خطر الوقوع في العزلة الدولية، وذلك من خلال
سد المنافذ على المؤسسات العامة فلا تتمكن من دعم حملة مقاطعة إسرائيل وفرض
العقوبات عليها وسحب الاستثمارات منها.
وأغرب
ما في الأمر أن مشروع القانون يخص بالحماية الخاصة إسرائيل دون غيرها بما في ذلك
المستوطنات الإسرائيلية داخل الضفة الغربية المحتلة ومرتفعات الجولان المحتلة.
وبذلك فهو يحصن ليس فقط إسرائيل، بل ومستوطناتها المقامة في الأراضي الفلسطينية
المحتلة وفي مرتفعات الجولان، المحتلة من سطوة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات
وفرض العقوبات (بي دي إس). وليس هذا فحسب.
ومن
خلال الدمج بين إسرائيل والمناطق التي تحتلها بقوة السلاح، يتناقض مشروع القانون
بشكل سافر مع كل الالتزامات التي تم التعهد بها من خلال السياسة الخارجية
لبريطانيا.
التزامات
بريطانيا تجاه الأمم المتحدة
من
المعروف أن بريطانيا واحدة من الدول الموقعة على قرار 2334 الصادر عن مجلس الأمن
التابع للأمم المتحدة.
يدعو
هذا القرار، بما يعتبر بمثابة التزام تتعهد به الدول الأعضاء في مجلس الأمن التابع
للأمم المتحدة، "جميع الدول إلى التمييز، في تعاملاتها ذات العلاقة بالأمر،
ما بين أراضي دولة إسرائيل والأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967".
ولذلك
فإن الحماية التي يمنحها مشروع القانون الجديد للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي
المحتلة يسخف من التزامات بريطانيا "الموقرة" أمام الأمم المتحدة.
والأدهى
والأمر أنه يجري الدفع بمشروع القانون داخل مجلس العموم البريطاني بينما تدخل
حكومة ريشي سوناك، التي تعاني من انكسار أخلاقي وسياسي، أشهرها الأخيرة في السلطة.
والعجيب
في الأمر أن ريشي سوناك مضى قدماً في خطته على الرغم من تحذيرات متكررة صدرت عن
كبار المسؤولين في وزارة الخارجية من أن مشروع القانون لا يتناقض فقط مع منطلقات
السياسة الخارجية البريطانية، بل ويمثل في واقع الأمر هدية تقدم على طبق من ذهب
للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليستخدمها في حربه الدعائية ضد خصومه في الغرب.
وكما
كشف صحفيان يعملان في البي بي سي، هما إيون ويلز وطوم بيتمان، فإنه ورد في خطاب وجهته
وزارة الخارجية إلى مكتب رئيس الوزراء في داونينغ ستريت في شهر مايو (أيار) الماضي
"ما يفيد بأن موسكو لسوف تستخدم مشروع القانون لإثبات أن بريطانيا لا تتمسك
بالأنظمة والقواعد المتوافق على العمل بها دولياً، وأنها بذلك تتصرف بازدواجية من
المعايير وتثبت نفاقها إزاء تعاملنا مع ’المناطق التي تم ضمها‘ حينما
تتصدر للتنديد بالغزو الروسي لأوكرانيا".
يضاف
إلى ذلك ما ورد في تقرير للبي بي سي من أن المحامين الذين يمثلون وزارة الخارجية
حذروا من أن بنداً وارداً في نص مشروع القانون "من شأنه أن يزيد إلى حد كبير
من خطورة وقوع بريطانيا في انتهاك الالتزامات التي نتعهد بها بموجب قرار مجلس
الأمن الدولي رقم 2334".
على
الرغم من هذا التحذير القوي (والخارق للعادة)، فإن ريشي سوناك يصر على تجاهل
النصيحة المقدمة له، ويصر على المضي قدماً في الدفع بمشروع القانون. بل وتلجأ
حكومته بكل مكر إلى استخدام كل ألوان الخداع التي يمكن تصورها من أجل تمرير مشروع
القانون داخل البرلمان.
انعدام
التوازن
ثمة
مشاكل كبيرة وعميقة في الطريقة التي تدير بها الحكومة ما يعرف بمرحلة اللجنة
الخاصة بمشروع القانون.
وكما
كتب أريب الله في تقرير نشره له موقع ميدل إيست آي، في الأسبوع الماضي، فإنها لم تتم دعوة
فلسطيني واحد للإدلاء بشهادته أمام البرلمان، ولا واحد على الإطلاق. في المقابل،
جرى الاستماع إلى حشد من الأصوات المؤيدة لإسرائيل.
ومن
الشخصيات التي دعيت للإدلاء بشهادتها في هذا الأمر الصحفية ميلاني فيليبس، التي
تعمل في صحيفة التايمز اللندنية. ومعروف عن هذه الصحفية أنها كثيراً ما تستخدم
عمودها الدوري لإنكار وجود الإسلاموفوبيا، ناهيك عن نقدها اللاذع لكل من ينتقد
إسرائيل، حتى لو كانوا من اليهود.
كتبت
ميلاني فيليبس في عمود لها تقول إنه "لا توجد أسباب حسنة لمعارضة مشروع
القانون". وعندما تحدثت أمام اللجنة البرلمانية، فقد استمع لها الأعضاء بكل إصغاء
وتزلف وتوقير.
وما
كان من جورج هاوارث، عضو البرلمان عن حزب العمال ورئيس اللجنة، إلا أن شكر ميلاني
فيليبس على "إجاباتها التي تميزت بالوضوح والصراحة مما ساعد اللجنة كثيراً في
عملها".
وفي
هذا، دون أدنى شك، أوضح مؤشر على التوجه الحالي الذي يتبناه حزب العمال بقيادة كير
ستارمر إزاء قضية فلسطين.
من
المثير للانتباه أنه لم تتم دعوة أي كاتب صحفي مؤيد لفلسطين ليدلي بشهادة تقابل
شهادة ميلاني فيليبس وتحدث نوعاً من التوازن. فلماذا لم يحصل ذلك؟
انحياز
جوهري
وإليكم
نموذجاً آخر على انعدام الإنصاف. لقد أدلى أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين
بشهادتهم، بينما لم يُدع للشهادة أحد من أصدقاء فلسطين في حزب المحافظين، برئاسة
الوزيرة السابقة سيدة وارسي، ولو من باب تحقيق شيء من التوازن.
وهنا
لا مفر من التساؤل تارة أخرى، لماذا لم يتم ذلك؟
وأدلى ممثلون عن مجموعة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" بدلوهم، ولكن
لم يقابل ذلك بدعوة أحد من مجموعة "محامون من أجل حقوق الإنسان
الفلسطيني" ليدلي بدلوه في القضية.
وتارة
أخرى نتساءل، لماذا لم يحصل ذلك؟
وعلى
نفس النسق، أدلى ممثلون عن مجلس الزعامة اليهودية بشهادتهم، بينما لم يدع للشهادة
أحد من أعضاء لجنة الفلسطينيين البريطانيين. وهكذا دواليك.
تجلى
الانحياز الجوهري منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها مرحلة اللجنة الخاصة بمشروع
القانون يوم الثلاثاء الماضي، وذلك حينما تم الطلب (كما هو منصوص عليه في قواعد
وأحكام مجلس العموم البريطاني) من أعضاء اللجنة الإعلان عن اهتماماتهم.
وما
تم الكشف عنه كان مذهلاً.
فسبعة
من عشرة من أعضاء البرلمان عن حزب المحافظين ضمن اللجنة المكونة من تسعة عشر عضواً
قالوا إنهم زاروا إسرائيل ضمن رحلات نظمتها لهم مجموعة أصدقاء إسرائيل في حزب
المحافظين.
وكشف
ستة منهم عن أنهم من الأصدقاء المقربين بشكل شخصي لجيمز غارد، المدير التنفيذي
لمجموعة أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين، والذي كان هو نفسه واحداً من الشهود
الذين دعوا للإدلاء بشهاداتهم.
وقال
سبعة من أعضاء اللجنة من النواب عن حزب العمال في البرلمان إنهم قاموا بزيارات إلى
إسرائيل ضمن رحلات نظمتها لهم مجموعة أصدقاء إسرائيل في حزب العمال – ومن بين
هؤلاء جورج هوارث نفسه المكلف برئاسة اللجنة.
فقط
نائب واحد، وهو النائب في البرلمان عن حزب العمال كيم ليدبيتر، قال إنه قام بزيارة
ضمن رحلة نظمها مجلس التفاهم العربي البريطاني، الذي يتصدر للدفاع عن حقوق
الإنسان الفلسطيني.
هدية
سياسية تقدم لنتنياهو
ولعل
من أبرز ما يلاحظ في عمل اللجنة المعنية من عوار أنه لم تتم دعوة مسؤول واحد من
وزارة الخارجية البريطانية ليدلي بشهادته حول الأضرار التي يمكن أن تنجم عن تبني
مشروع القانون، والتي قد تؤدي إلى تقويض مكانة بريطانيا على المستوى الدولي.
وهذا
يمكن تفهمه إذا ما أخدنا بالاعتبار أنه لا توجد من بين الحكومات من ترغب في الكشف
عن ما في داخلها من انقسامات وتباينات. إلا أن الشهادة التي تتضمنها المذكرة المسربة
لوزارة الخارجية، والتي تفيد بأن مشروع القانون سوف يساعد فلاديمير بوتين في تنظيف سمعته الملطخة بالدماء، تتطلب عناية فائقة وتحقيقاً استقصائياً شاملاً.
من
المفترض أن تسترشد الحكومة البريطانية بما يعرف بمبادئ نولان، والتي تشتمل على
الإيثار، والنزاهة، والموضوعية، والشعور بالمسؤولية، والانفتاح والشفافية،
والأمانة، وحسن الإدارة.
لقد
ثبت بما لا مجال معه للشك، ومن خلال اختيار الشهود، وكذلك من خلال اختيار أعضاء
اللجنة، أن مبادئ نولان لا وجود لها حين يتعلق الأمر بمشروع قانون "النشاطات
الاقتصادية للمؤسسات العامة (شؤون الخارج)".
بالمختصر
المفيد، مشروع القانون هذا عبارة عن تلفيق في تلفيق.
لا
ترغب الحكومة في أن يتم إجراء أي تحليل جاد لمشروع قانون، يعتبر من ناحية هدية على
طبق من ذهب لرئيس وزراء إسرائيل المتأزم وكذلك للرئيس الروسي فلاديمير بوتين،
ويعتبر من ناحية أخرى مهدداً بإلحاق ضرر جسيم ودائم بسمعة بريطانيا كدولة تتحرى
الإنصاف في تعاملاتها.
وثمة
نقطة أخرى أخيرة، ألا وهي لماذا الآن بالذات؟
منذ
أن عاد نتنياهو لتسلم منصب رئيس وزراء إسرائيل في ديسمبر (كانون الأول) الماضي،
والأمور داخل إسرائيل، وبشكل خاص داخل الضفة الغربية المحتلة، تتجه من سيئ إلى
أسوأ.
ما
فعله نتنياهو هو أنه رقى إيتمار بن غفير من سياسي كاهاني يميني متطرف وكاره
للفلسطينيين إلى سياسي يحتل منصب وزير الأمن الوطني. وفي نفس الوقت سلم نتنياهو
مقاليد أمور المستوطنات غير القانونية داخل الضفة الغربية إلى وزير المالية
بيتسالئيل سموتريتش، وبذلك أقدم على ما لم يسبقه إليه أحد، ما نجم عنه تسريع وتيرة
ضم أراضي الضفة الغربية المحتلة إلى إسرائيل.
تصاعد
العنف الذي يمارسه المستوطنون ضد الفلسطينيين بشكل مخيف، وبات التوسع الكبير في
بناء المستوطنات جزءاً من برنامج منتظم للحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية.
في
هذه الأثناء، راح نتنياهو يطبق برنامجاً للإصلاح القضائي يهدد بتقويض النظام
الديمقراطي داخل إسرائيل نفسها.
ومع
ذلك، وبينما تتجه إسرائيل في هذا المسار المرعب، فإن حكومة سوناك تعمل على الدفع بتشريع
من شأنه أن يبعث برسالة مفادها أن بإمكان إسرائيل المضي قدماً في برنامج
الاستيطان، بكل ما يصاحب ذلك من عنف استيطاني رهيب، دونما رقيب أو حسيب.