قالت صحيفة "
نيويورك تايمز" إن ما يجري اليوم
في "إسرائيل" هو أن القضايا الغامضة التي لم يتم حسمها منذ قيام
"الدولة" طفت اليوم على السطح، وهي تشكل
أزمة وجودية.
وأضافت في تقرير لمراسلها هناك إن الصراع اليوم يتجاوز مجرد
الخلاف حول صلاحيات المحكمة العليا، بل غدت الأزمة القضائية عنواناً لمعركة يخوضها
الإسرائيليون فيما بينهم حول مستقبل بلدهم، وكذلك حول ما الذي يعنيه أن تكون الدولة
يهودية وتكون ديمقراطية في نفس الوقت.
وفيما يلي نص التقرير:
عندما اقتربت أنا لافي من بوابات قريتها في جنوب "إسرائيل"
في وقت متأخر من إحدى ليالي شهر تموز/ يوليو، اقتربت منها مجموعة صغيرة من الرجال على
الطريق وأحاطوا بسيارتها وأعاقوا سبيلها.
تجمع هؤلاء الرجال جزئياً بغرض الاحتفال وجزئياً من أجل الانتقام.
فقبل بضع ساعات نجح الائتلاف الحاكم، والمكون من أحزاب قومية ودينية متطرفة، في تمرير
الجزء الأول من تشريع يهدف إلى تقييد صلاحيات المحكمة العليا في البلاد.
واحتفاء بهذه المناسبة، سارع بعض أنصار الحكومة للتجمع أمام
ما اعتبروه أقرب رمز ممثل للمعارضة: قرية السيدة لافي، والتي تعرف باسم كيبوتز حتزاريم،
أحد التجمعات الزراعية التي طالما ارتبطت بالنخبة العلمانية واليسارية في البلد.
ما كان من السيدة لافي إلا أن سارعت لطلب النجدة، فهرول نحولها
الحارس الأمني للكيبوتز، فنشب شجار بين المجموعة والحارس الذي سحب مسدسه وشهره في وجوههم.
قفزت السيدة لافي إلى خارج السيارة وصاحت في مشهد تم توثيقه
بالفيديو: "ما هذا الذي انتهينا إليه؟"
ثم انطلق من المسدس عيار ناري.
ما حفز على الشجار هو مساعي الحكومة اليمينية المتطرفة لتقليص
صلاحيات السلطة القضائية. ومن المتوقع أن تفضي هذه الإجراءات إلى اندلاع أزمة دستورية
فيما لو اعترضت المحكمة العليا على بعض من أجزائها بعد الانتهاء من النظر في الاستئناف
الذي بدأت إجراءاته يوم الثلاثاء.
إلا أن الصراع يتجاوز مجرد الخلاف حول صلاحيات المحكمة العليا،
بل غدت الأزمة القضائية عنواناً لمعركة يخوضها الإسرائيليون فيما بينهم حول مستقبل
بلدهم، وكذلك حول ما الذي يعنيه أن تكون الدولة يهودية وتكون ديمقراطية في نفس الوقت.
عندما تشكلت الدولة في عام 1948، ثلاثة أعوام بعد انتهاء
الحرب العالمية الثانية وبعد المحرقة، أعلن الآباء المؤسسون لدولة "إسرائيل"
إن البلد سوف يكون ملاذاً آمناً لليهود، وأنه في نفس الوقت سوف يحترم حقوق جميع مواطنيه
بغض النظر عن دينهم أو عرقهم. إلا أنهم لم يضعوا دستوراً رسمياً، وفي نفس الوقت لم
يوضحوا بشكل قاطع ماذا سيكون دور الديانة اليهودية في الحياة العامة، وما هو مدى الاستقلال
الذاتي الذي سوف تتمتع به الأقلية المتدينة (الأرثوذكسية)، ولا ما الذي سيكون عليه
وضع الأقلية العربية التي أخضعت في بداية الأمر للأحكام العرفية.
بعد عقود من ذلك تحولت القضايا الغامضة التي لم يتم حسمها
ابتداءً إلى تحديات وجودية، وخاصة في ضوء تنامي حجم ونفوذ السكان المتدينين، الذين
يشكلون ما نسبته 14 بالمائة من تعداد السكان اليهود البالغ سبعة ملايين نسمة، الأمر
الذي بات يؤرق الإسرائيليين العلمانيين الذين يشكلون ما نسبته 45 بالمائة من السكان،
ناهيك عن الدور المتنامي كذلك للأقلية العربية، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، والتي
بات دورها المتعاظم يستفز المكونات القومية المتطرفة داخل المجتمع اليهودي.
في الماضي، كانت الائتلافات السياسية بين الفصائل المتنافسة
تساعد على تقليص تلك التوترات، بينما تمارس المحكمة العليا عموماً دور الضامن لحقوق
الأقليات والحارس على القيم العلمانية. أما الآن، فقد اختل التوازن بين القوى بسبب
ما طرأ من تحولات ديمغرافية واجتماعية عميقة، وصار يميل لصالح المجموعات القومية والدينية
المتطرفة. وزاد الطين بلة، أن قام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في كانون الأول/ ديسمبر
الماضي بتشكيل ائتلاف حاكم هو الأشد تطرفاً، يمينية ودينياً، في تاريخ "إسرائيل".
وسرعان ما وجه هذا الائتلاف الحكومي سهامه نحو المحكمة العليا لإزاحتها من طريقه باعتبارها
عقبة كؤود تحول دون تحقيقه لرؤيته الوطنية.
منذ أن بدأت تلك الجهود في كانون الثاني/ يناير تفجرت التظلمات
القديمة الدفينة وطفت إلى السطح، مسلطة الضوء على صدوع عميقة، ليس فقط بين المتدينين
والعلمانيين، وإنما أيضاً بين المجموعات العربية المختلفة كما بين الطبقات الاجتماعية
المتعددة – والتي يشعر كل من ينتمي إليها بأنه مهدد، وأنه يتعرض للهجوم، وبذلك يسارع
نحو اتخاذ موضع هجومي. فكل طرف من هذه الأطراف يخشى من أن يسعى خصومه إلى تدمير "إسرائيل"
التي يريد – وإلى تهديد نمط الحياة الذي ينتهجه، وتهديد فهمه هو لماضي البلد ولرؤيتها
ولمستقبلها.
يتسرب هذا الجدل المثير للشقاق إلى الحياة اليومية، بأشكال
كبيرة وصغيرة، ولا أدل على ذلك من أن موجات الأثير تحولت إلى منابر يحذر من خلالها
المعلقون والسياسيون من أن حرباً أهلياً باتت تلوح في الأفق. وفي الميدان، تتجلى التوترات
في تنظيم الاحتجاجات الجماهيرية الأسبوعية التي تجذب مئات الآلاف إلى الشوارع، وكذلك
في المواجهات الساخنة، التي تكون في العادة أصغر حجماً، بين إسرائيليين يحملون وجهات
نظر متعارضة، حتى رغم ما يبذله البعض من جهود لإيجاد أرضية مشتركة.
لم يسفر إطلاق النار أمام كيبوتز السيدة لافي عن أي إصابات،
وإن كان خبره قد تصدر عناوين النشرات الرئيسية، فقد أطلق الحارس الأمني النار في الهواء
دون أن يستهدف أحداً من المتواجدين حينذاك. ومع ذلك سلط الحدث الضوء على الطبيعة الملتهبة
للحظة الحالية في "إسرائيل".
وكانت السيدة لافي قد قالت في مقابلة صحيفة: "الإسرائيليون
ضد الإسرائيليين! إنه لأمر مريع."
ما من شك في أن العواطف المشحونة تغذيها جزئياً الخلافات
العميقة حول دور الدين في الأماكن العامة، وما الذي يعنيه أن يعيش المرء حياة يهودية
معاصرة.
بعد أن أوصل بناته إلى المدرسة صباح ذات يوم في شهر أيار/
مايو، أحاطت مجموعة من الإسرائيليين العلمانيين بأفيشاي ميندل، وهو رجل أعمال أرثوذكسي
متدين. وقد صدف أن كانت تلك المجموعة تنظم احتجاجاً منذ الصباح الباكر أمام منزل أحد
الوزراء في الائتلاف الحاكم.
مظهر السيد ميندل، بطاقيته العريضة سوداء اللون، ولحيته الطويلة،
وجدائله المتدلية، سرعان ما جذب الانتباه إليه، حيث اعتبره أفراد المجموعة عضواً في
المجتمع اليهودي الأرثوذكسي المتدين، والذي يعكف كثير من أعضائه على دراسة القانون
الديني بدلاً من أداء الخدمة العسكرية كما يفعل معظم الإسرائيليين اليهود الآخرين.
وتعليقاً على ذلك، قال السيد ميندل في مقابلة صحفية:
"يحكمون علينا طوال الوقت بناء على مظهرنا."
وفعلاً، وكما حصل في ملاسنة جذبت اهتمام وسائل الإعلام المحلية،
صاح أحدهم في وجهه قائلاً: "أنت لا تخدم في الجيش." وصاح آخر: "لو أن
الجميع فعلوا مثلما تفعل، لما كان هناك جيش."
بدت الخيبة والكآبة على السيد ميندل وهو يرد عليهم قائلاً:
"ماذا فعلت لكم؟ هل صدر مني ما يؤذيكم؟"
يخشى كثير من الإسرائيليين العلمانيين أن تتحول بلدهم إلى
الثيوقراطية، ويستدلون على مخاوفهم بالجهود التي يبذلها المحافظون المتدينون داخل الائتلاف
الحكومي للدفع قدماً بأجنداتهم الخاصة، ويستدلون كذلك بالثقة المتزايدة التي يشعر بها
من يطالبون بإخضاع البلد إلى أحكام أكثر تشدداً انطلاقاً من التعاليم الدينية. وفعلاً،
لقد تقدم بعض أعضاء البرلمان بخطط مقترحة لتوسيع صلاحيات المحاكم الحاخامية التي يقتصر
العمل فيها على الذكور، بينما سعى أحد الوزراء إلى فرض فصل بين الجنسين في أوقات الاستحمام
داخل الينابيع التي توجد في الطبيعة.
ثمة انطباع بأن المتدينين اليهود، وهم أقلية آخذة بالنمو
بشكل متسارع، ممن يعرفون في العبرية باسم الحاريديم، يسعون إلى إعادة تشكيل المجتمع
الإسرائيلي بينما هم لا يفعلون الكثير من أجل حمايته والدفاع عنه، فهم لا يخدمون في
الجيش ولا يدفعون الضرائب. ومما يشار إليه بهذا الشأن أن نسبة من يعملون من الحاريديم
لا تتجاوز 56 بالمائة، لأن كثيرين منهم ينقطعون لدراسة القانون الديني بدلاً من العمل،
رغم أن كثيراً من أزواجهم ينخرطن في القوى العاملة.
يقول كثير من الإسرائيليين المتدينين أنهم ينبغي أن يكونوا
قادرين على العيش انسجاماً مع التعاليم الدينية، وأنه ينبغي على الآخرين احترام تلك
الرغبات. ولذلك فهم يعارضون بشدة المطالب العلمانية بوضع الزواج، والذي يشرف عليه حالياً
كبار الحاخامات، ضمن صلاحيات السلطات المدنية، وكذلك يعارضون المطالبة بتشغيل المواصلات
العامة يوم السبت، يوم العطلة اليهودية.
كما يرغبون في الاحتفاظ بحق أعضاء مجتمعهم في الإعفاء من
الخدمة في القوات المسلحة، وهو أمر لطالما كان مصدر شقاق بين الناس في بلد يعتبر المؤسسة
العسكرية رمزاً للدولة الإسرائيلية ومصدراً للفخار فيها.
يقول الطرفان إنهما يشعران بالاستهداف من قبل الآخر، ولقد
أسخط الإسرائيليين العلمانيين ما تكرر صدوره من بعض السائقين أو الركاب المتدينين من
أوامر للنساء الشابات بالجلوس بشكل منفصل عن الرجال في وسائل المواصلات العامة. في
المقابل، كثيراً ما يخاطب الإسرائيليون المتدينون في الشارع أو على متن الحافلات بعبارات
قاسية من قبل الإسرائيليين العلمانيين.
بخلاف كثير من الحاريديم، خدم السيد ميندل في الجش، فهو واحد
من حوالي ألف من أبناء مجتمعه ممن يخدمون في الجيش كل عام. وبعد ذلك درس الهندسة الكهربائية،
ويدير حالياً شركة مع زوجته ينظمان من خلالها دروساً في التكنولوجيا لتلاميذ المدارس،
المتدينين والعلمانيين منهم على حد سواء.
يقول السيد ميندل رداً على منتقديه من العلمانيين:
"أنا أعمل كما يعملون، وأدفع ما علي من ضرائب، وربما أدفع أكثر مما يدفعون."
ومع ذلك يدافع السيد ميندل عن الإعفاء من الخدمة الإلزامية
في الجيش لأولئك الذين يدرسون التوراة، فتلك الممارسة كما يقول هي التي بفضلها حافظ
اليهود على هويتهم لما يزيد عن ألفي عام في المنافي.
يقول السيد ميندل: "لا يمكننا أن نكون دولة مثل باقي
الدول."
ويضيف: "إن الذي يجلب الخلاص هو دراسة التوراة. ولولا
التوراة لما وجدنا ههنا."
صراع طبقي
لربما كانت الطبقية وليس الدين، هي الحافز الأساسي من وراء
ما جرى في تموز/ يوليو على مدخل كيبوتز حتزاريم، حيث تعيش السيدة لافي.
كيبوتز حتزاريم، هذا المجتمع الصغير المسور، والمكون من منازل
منفصلة بعضها عن بعض والتي تنتشر فيما بينها الحدائق المنزلية المرتبة، حتى بدا كما
لو كان واحة في صحراء صخرية قاحلة، هو واحد من مئات المجتمعات الزراعية التي تأسست
قبل تأسيس دولة "إسرائيل" في عام 1948.
بالنسبة لأفراد الكيبرتزات، يعتبر مشروعهم عملاً بطولياً،
فهو الذي كرس الوجود اليهودي ضمن مناطق معادية. أما بالنسبة للسكان الذين يعيشون في
البلدات المحيطة بالكيبوتزات، فكثيراً ما يتحول الكيبوتز المسور إلى رمز للامتيازات
الحصرية، والتي لا سبيل إلى الوصول إليها.
بعد أن أحاط الرجال بسيارة السيدة لافي، مما جعل ابنتها ذات
السنوات العشر تنفجر بالبكاء، راحوا يكيلون إليها الشتائم، معبرين عن عقود من الامتعاض
والحقد الاجتماعي.
تقول السيد لافي، التي تبلغ من العمر خمسين عاماً وتعمل كاتبة
حسابات لدى مجلس الكيبوتز، إنها سمعت أحد الرجال يقول لها: "تحتاج ابنتك المدللة
إلى دخول الكيبوتز، أنتم سكان الكيبوتز المفضلون!"
لقد أيقظت الأزمة القضائية توترات كانت نائمة ما بين سكان
البلدات من الطبقات العاملة – والذين يميلون في العادة نحو اليمين – وسكان الأحياء
الثرية والكيبوتزات، ممن يغلب عليهم التصويت للأحزاب الوسطية وذات التوجه اليساري.
تحيط بالكيبوتز من كل جانب مدن وبلدات سكانها أقل حظاً، مثل
بئر السبع وديمونا، حيث يعيش الناس في شقق داخل مبان سكنية مهترئة يعلوها الغبار.
يغلب على سكان هذه المجتمعات أنهم يهود من أصول شرق أوسطية،
يعرفون باسم ميزراحيم، والذين كان آباؤهم قد عانوا من التمييز ضدهم خلال العقود الأولى
من عمر "إسرائيل".
أما الكيبوتزات فقد أنشأها بشكل أساسي اليهود الذين جاءوا
من أوروبا هرباً من الاضطهاد، ويعرفون باسم أشكنزيم، وهم الذين شكلوا العمود الفقري
للجيل المؤسس لدولة "إسرائيل".
يقول دانيلا حرمون، وهو ناشط في التيار اليميني يعمل محاسباً
وينحدر من ديمونا: "لطالما تمتعوا بالامتيازات التي لا نجد سبيلاً إليها."
ما لبثت أوجه انعدام المساواة بين الطرفين أن انحسرت إلى
حد كبير مع الزمن من خلال التزاوج والمتغيرات الاجتماعية.
فعلى سبيل المثال، إن المدير المالي لكيبوتز حتزاريم هو ابن
لمهاجرين من المغرب. كان قد انضم إلى الكيبوتز قبل أربعين سنة بعد طفولة قضاها في ديمونا.
كما تشهد بئر السبع اليوم ثراءً متزايداً وتكثر فيها الأحياء الجديدة الممتلئة بالفيلات
الفارهة، ويوجد في المدينة صندوق استثماري كبير يقوم عليه رجال أعمال من المزراحيم.
وعن ذلك تقول السيدة لافي: "أرى أناساً يعيشون في بئر
السبع، وهم في حال أفضل ألف مرة من حالنا نحن."
ولكن مازالت قطاعات من اليمين الإسرائيلي ترى أن النخب القديمة
– والتي تتجسد كما يرونها في سكان الكيبوتزات – مازالت تحتفظ بكثير من السلطة والنفوذ.
ويرون كذلك أن المظاهرات الممولة بقوة، والتي تخرج ضد الحكومة،
وتنظم في مدين مثل بئر السبع ويشارك فيها عادة نشطاء يأتون إليها من خارج المدينة،
تبدو كما لو كانت جهود اللهاث الأخير من قبل النخبة لحماية مصالحها، ويقولون إن المظاهرات
المضادة أمام بوابات الكيبوتز إنما تأتي رداً على تلك المظاهرات.
تقول السيدة لافي إن أنصار الحكومة الذين اعترضوا سبيلها
أمام بوابات الكيبوتز قالوا لها: "أنتم دائماً تتظاهرون أمام أبوابنا، وتسدون
الطرق في وجوهنا. ما فعلتموه بنا سوف نفعله بكم."