تموج البلاد بالأحداث والصراعات والأزمات التي طحنت الشعوب العربية وحصرت
اهتماماتها في كيفية الحصول على لقمة العيش، خاصة في
مصر التي تحظى بحجم هائل من
المشكلات المتفاقمة بعد انقلاب 2013. انشغل النظام في حجم الديون غير المسبوق في
البلاد والمشكلات التراكمة، نتيجة السياسات الفاشلة في إدارة البلاد، وكأن النظام
قد تعاقد مع أكثر الفاشلين عالميا ومحليا ليدير المرحلة، وتقف مصر على أبواب
الانتخابات الرئاسية للمدة الثالثة لقائد الانقلاب العسكري، وسط فراغ كبير من أي من
المرشحين الجادين، ووسط ظروف يستحيل على أحد المعارضين الفوز بها أو مجرد التقديم
لها، إلا أن يكون كومبارس لتمثيلية سخيفة أقيمت من قبل؛ حين ترشح أحدهم من قبل وقد
أعلن أن صوته للرئيس، وفي ظل الشروط الصعبة التي يجب على المرشحين اجتيازها لمجرد
التقديم، مثل الحصول على موافقة عدد من أعضاء مجلس النواب المختارين بعناية على غير
إرادة الشعب، وعدد من التوكيلات الرسمية من الجمهور في كل المحافظات بما أن إدارة
البلاد هي إدارة أمنية في المقام الأول، وليست إدارة سياسية ككل البلدان المحترمة.
وفي جهة أخرى، يقع الشعب فريسة الارتفاع الجنوني للأسعار وشح السلع الأساسية
مثل السكر والبصل والخضروات، والأرز الذي يعتمد عليه المصريون في غذائهم اليومي،
وفي فترة حرجة وهي بداية العام الدراسي، مما يعني عجز أولياء الأمور عن إطعام
أبنائهم وقضاء حوائجهم اليومية، فضلا عن تعليمهم.
الحركة الإسلامية وما تبقى منها
وفي ظل الغليان الغاضب المكبوت في الشارع المصري، تعود حركة الإخوان
المسلمين بخطاب هادئ عبر إحدى قنوات المعارضة في الخارج؛ تمد فيه يدها لصنع شراكة
مع من يمد يده لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حتى لو كانت تلك اليد الممتدة هي يد النظام
الحالي، في رسالة وجهها الدكتور حلمي الجزار المحسوب على إحدى جبهاتها بعد انقسام
حاد عانت منه الجماعة منذ عام 2015؛ حتى استطاعت أن تثبت تلك الجبهة مشروعية
وجودها بناء على قوانين الجماعة، وبناء على عدة انتخابات داخلية أسفرت عن محاولة
عودتها ولملمة شملها مرة أخرى، فيعود الرجل بخطاب يراه البعض مناسبا تماما للمرحلة
الحالية بكل ما يعتريها من ضعف وفرض للأمر الواقع، ومرونة للتعامل مع الحدث حسب
المعطيات الدولية والمحلية، مع الأخذ في الاعتبار أن ملف
المعتقلين هو الملف الذي
يحمل الأولوية الأولى، بعد
معاناة استمرت بأكثر من مائة ألف معتقل، ومائة ألف أسرة
لمدة عشر سنوات سوداء، وليس في الأفق ما يبشر بإنهاء تلك المعاناة قريبا، وأنه قد
آن الأوان للتكاتف لحل تلك الإشكالية، وأنه يجب كذلك وضع الاعتبار لمصلحة الوطن
فوق أي كيان.
ويرى البعض الآخر، أن الخطاب لم يكن على مستوى التضحيات الجمّة التي دفعتها
الجماعة من شهداء واعتقالات، وحياة كاملة لآلاف الشهداء وآلاف المعتقلين ومثلهم من
المطاردين، وأن اللغة الموجهة للآخرين في هذا الوقت كان يجب أن تكون لغة قوية تضع
الأمور في نصابها، وعدم الاعتراف بالانتخابات الحالية سواء خاضها قائد الانقلاب
منفردا أو شاركه فيها أحد ممن يسمون بالمعارضين، فما هم سوى ممثلين لتجميل المشهد
أمام العالم وإعطاء نوع من المشروعية للنظام، فالنتائج معروفة مسبقا.
ويمثل الرأيان صورة ضبابية عبثية لجانب المعارضة المفتت، الذي لم يستطع
رغم قسوة الأحداث أن يتوحد، بل هو يزداد فرقة كل يوم، وعلى ضفة من ضفاف النهر
يتحدث الناس عن الأسعار والجزر المباعة والشركات المتنازل عنها والمستقبل المجهول،
والديون وانقطاع الكهرباء وعجز الموازنة وعجز المواطنين، والتعليم المفقود والصحة
المنعدمة والإعلام الكاذب، والآمال والطموحات واليأس والإحباطات.
على الضفة الأخرى، هناك في زاوية البلاد بمعاناتها وسخونة أحداثها، تقبع مائة ألف أسرة تحمل كل تلك الهموم فوق رأسها، غير أنها تحمل هموما أخرى ربما لا يعلمها
الآخرون أو يشغلون أنفسهم بها، وهي أسر المعتقلين.
إحنا بتوع المعتقلين
في عام 1979، قدم الفنان عبد المنعم مدبولي مع عادل إمام الفيلم الشهير
"إحنا بتوع الأتوبيس"، تتلخص قصة الفيلم حول أحداث تمت قبيل الهزيمة
النكراء لجمال عبد الناصر، حيث تحدث مشاجرة عادية بين اثنين من الركاب في أتوبيس
نقل عام من جهة، والجهة الأخرى مع محصل التذاكر، لتنتهي بهما المشاجرة في أحد
أقسام الشرطة ليتم الإفراج عن الكمسري، ويلقى بهما في الحجز لحين الفصل في أمرهما،
في الوقت الذي تحدث فيه جلبة كبيرة حيث يتم القبض على بعض الإسلاميين، ويختلط
الحابل بالنابل ليدخل الاثنان بالخطأ مع المعتقلين السياسيين ويُنسى أمر الأتوبيس تماما،
وتبدأ رحلة عذاب لا نهاية لها لاثنين لا علاقة لهما بالأمر، ولا ذنب لهما إلا ظلم
الأنظمة وأذنابها واستهانتها بالشعوب ومصيرها.
وما أشبه ما يدور اليوم في هذه الأحداث الغريبة وتلك التي رواها الفيلم في
قالب درامي حزين، ليس بعيدا عن الواقع، ليحكي تاريخ حقبة سوداء في تاريخ البلد، أعقبتها
نكسة لم تُنسَ حتى اليوم، وها هي الأحداث ذاتها تتكرر بلون مختلف.
وبالرغم من أن الاعتقال والتغييب والإخفاء القسري والتعذيب صار ظاهرة في
بلادنا، إلا أن مصر ما زالت تمتلك الريادة في هذا الخضم وتسبق بالعدد الأكبر وغير
المسبوق.
ولك أن تتخيل ما يزيد عن مائة ألف معتقل، ينتمون لمائة ألف أسرة فيهم
الآباء والأبناء والزوجات والإخوان والجيران والأصدقاء وزملاء العمل، مما يعني أن
ما يقرب من نصف الشعب يلامس تلك الإشكالية الكبيرة، يحملون فوق الهموم اليومية
التي ورّطهم فيها النظام الشمولي الديكتاتوري هموما أخرى، تتكرر بشكل دوري شهريا أو
أسبوعيا أو نصف شهري، أو يوميا أحيانا حسب موقع المعتقل في قسم شرطة، فتضطر الأسرة
لتحضير الطعام له بشكل يومي، في ظروف قاسية لا يتحملها إنسان عادي، مما يعني أن
الأسرة قد تضطر لأن تمتنع عن الطعام أو تختصر الوجبات لوجبة واحدة يوميا حتى تستطيع
توفير الزيارة، التي تكون عبارة عن وجبة مميزة بالطبع مراعاة لظروف المعتقل. وأما
إن كانت الزيارة شهرية أو غيرها، فقد توجّب على الأسرة أن توقف معظم ميزانيتها
الشهرية لتحضير تلك الزيارة، التي تشمل احتياجات المعتقل كافة، ومن معه في
الزنزانة على مدى الشهر بالتبادل والتكافل فيما بينهم، بمعنى أنه إذا كان في الزنزانة
أربعة مثلا، فيكون على كل أسرة أن تحمل ما يكفي من الطعام أسبوعا يكفي احتياجات
أربعة من المعتقلين، من طعام وأدوية وفواكه وخضروات حسب القدرة، في وقت يعاني فيه
الإنسان العادي في توفير تلك الطلبات لأسرته الآمنة.
تلك الأسر أصبحت مجالا لتجارة المتاجرين بمعاناتهم، فمن ناحية يتاجر النظام
بهم، فيكفي أنه قد خلص الشعب منهم وعلى الشعب أن يتحمل كل معاناة في سبيل الخلاص
من هؤلاء الإرهابيين، ومن ناحية أخرى يطلب هذا وذاك دعما وبيعة ومكانة لأنهم
يعيشون لقضية المعتقلين، ولست أدري هل يعيشون لها، أم يعيشون بها؟ الجميع يتاجر، والجميع
يعد، ولا أحد يشعر، ولا أحد يدري بالمرارة في حلق كل أم وكل أب وكل ذي معتقل يحمل
هم زياراته التي بدأت في التباعد بسبب ضيق اليد، لا أحد يفكر في أم، أو زوجة شابة
تحمل طفلا أو تجر أطفالا وتقف على بوابات أخرى؛ تفتيش ومضايقات وشفقة وشماتة، لترى غائبها بضع دقائق لا تكاد تشفي فيها قلبا، أو تطفئ شوقا، أو تحمل فيها وصية.
لا أحد تروّعه زيارات زوار الليل والنهار التي لا تنقطع، طرقات على الأبواب
بأياد لا تعرف الرحمة تبحث عن آخرين في البيوت المكلومة نفسها؛ بحجة أنهم اعتادوا تلك
الزيارات فلا ضير إن تكررت، فالمرة الواحدة كالمرات المتعددة ما عادت تؤلم أو
تخيف، هكذا يحسبون.
لا أحد يشعر بكمّ الإحباطات التي تمر بها تلك الأُسر، حين لا تجد مخرجا في
أفق مغلق حين تنتهي مدد المحكومين دون أن يخرج منهم أحد، ويتم تدويرهم في قضايا
جديدة كل مدة دون أن يروا النور.
لقد فقد المعتقلون وذووهم الاهتمام الإنساني الحقيقي من الجهات كافة، ومن
كل الجوانب، ونسيهم الجميع في خضم الأحداث ليدفعوا ثمنا مضاعفا.
إحنا بتوع المعتقلين في بلادكم المكلومة، نعلم أنكم تعانون من الفقر
والحاجة ونشفق عليكم ونتمنى لكم حياة أفضل، دفعنا ثمن أمنياتنا تلك أحب من لدينا،
ونعلم لأننا مثلكم نعاني من الضيق نفسه لكنه مضاعف، نعلم أنكم تتمنون خطابات
مكتملة، وأفعالا مثالية، وتبحثون عن آخرين يقومون بتضحيات أخرى من أجلكم لكنكم لا
تجدون، فما رأيكم أن تذكروا أولئك القابعين في ظلمات الزنازين بدعوة، أو بكلمة، أو
بمطالبة، أو بتحرك، فربما يخرجون ليحرروكم ويحققوا لكم ما تتمنون؟ ما رأيكم لو نحّيتم
خلافاتكم جانبا حسبة لله كي يخرج هؤلاء المنسيون، وتستريح تلك الأسر البائسة وتهدأ
قليلا؟ ما رأيكم لو اجتمعتم مرة على قضية هؤلاء، عسى الله أن يخفف عنكم مصائبكم
بسعيكم لتفريج كرب هؤلاء، الذين أمضوا زهرة شبابهم في غُرفات غير آدمية لتحيوا حياة
إنسانية؟ ما رأيكم لو اتحدت مساعيكم مرة، ليس للصراع على الكراسي، ولكن دفاعا عنهم
بصدق ولو لمرة واحدة؟
إحنا بتوع المعتقلين ليس لذنب اقترفناه، وإنما لعقيدة نحملها، وكلمة خير
قلناها، ورأي حملناه رجونا به وجه الله، فهل يا كل هؤلاء تسمعون؟ هل تسمعون؟