إذا جاز القياس الأدبي على
التاريخي، جاز لنا القول إنّ علاقة الحركة
الإسلامية في
تونس بالسلطة السياسية، قد كانت محكومة وبشكل متواتر بثنائية سرديّة
هي "الأزمة والانفراج". وبحسب الوضع الذي تكون عليه السلطة من القوّة أو
الضعف تتعامل مع الحركة إمّا بالحلّ الأمني والملاحقة والتضييق أو بالمناورة
والمداورة وترك هامش للحركة. وبحسب اقتراب "عقل الدولة" من الديمقراطية
أو وبدورها حاولت الحركة كسر جدار الجليد بينها وبين السّلطة ولكن بمقدار ما تؤمّن
وجودها في الساحة السياسية وبقدر محسوب ومعلوم.
إذا كانت مرحلة التأسيس قد حققت غاية التفاف الأنصار وتحشيد الجموع
حول فكرة "الإسلام الاحتجاجي" الذي يستحضر ميراث النبوّة و"عذابات
بواكيرالدعوة" فإنّ مرحلة ما بعد التأسيس (1982/ 1984) وانكشاف التنظيم هي
مرحلة "إدارة الأزمة". فبعد اعتقال القيادات الأولى شهد التنظيم فراغا
قياديا سريعا ما ملأته قيادات الصف الثاني وأهمّ هؤلاء علي العريض الذي ترأس مجلس
الشورى رغم دخوله مرحلة السريّة. ووجدت الجماعة نفسها ضمن مأزق دستوري بين
شرعيتين: قيادة مفوّضة بما قرره المؤتمر وقيادة شرعية مؤقتة بما فرضه واقع الملاحقة
الأمنيّة. والسبب في هذه الازدواجية هو أنّ قوانين التنظيم ـ لقلة الخبرة في الفقه
الدستوري ـ قد صيغت على غير مقاس حركة مهددة بالقمع والاعتقالات. ورغم سدّ هذه
الثغرة فيما بعد غير أنّ الأمر عاد هذه الأيام لنفس المأزق.
على كلّ حال اجتمع من تبقّى من مجلس الشورى الشرعي المنبثق من مؤتمر
سوسة الاستثنائي لتدارس الوضع التنظيمي فانتخب فاضل البلدي مشرفا مؤقتا فما لبث أن
غادر البلاد ملاحقا. فوقع تعيين قيادة مفوّضة بادرت بلائحة في شهر أيار/ مايو 1982
تضمّنت ثلاثة نقاط:
1 ـ
اعتبار أنّ مجلس الشورى والمشرف الأصليين في وضعية لا تمكّنهم من تأدية مهامهم.
2 ـ
اعتبار المجلس الجديد هو مجلس شرعي مؤقت وكذا المشرف الجديد إلى حين عقد مؤتمر
الحركة أو خروج المشرف الأصلي (راشد الغنوشي) من السّجن.
3 ـ
في صورة توفر ثلثي المجلس الأصلي أو خروج المشرف الأصلي من السجن يقع الاحتكام إلى
القاعدة لتسوية الوضعية القانونية والشرعية.
وبهذه اللائحة صعد مهندسان إلى أعلى التنظيم: حمادي الجبالي مشرفا
وعلي لعريض رئيس مجلس الشورى. وهكذا عاد التنظيم إلى وحدته ورصّ صفوفه رغم صراع
الشرعيات.
الحقيقة أنّ بن عليّ قد أنقذ رقاب الإسلاميين من المشنقة ولكنّه سوف يهيّء لهم كمّاشة ستمتدّ على أكثر من عشرين سنة.
غير أنّه لا بدّ من توقّف عند هذه النّقطة بالذّات لكونها مثّلت من
فترة إلى أخرى عنصر توتّر تنظيمي أثّر بشكل مباشر على قواعده وفتح الباب لخروج
أفراد نوعيين عن التنظيم. ونشهد هذه الأيام تقريبا نفس السيناريو يعاد بعد حملة
اعتقالات لأهمّ قيادات "النهضة" ـ وريثة الاتجاه الإسلامي ـ وتململ
القواعد وترددها في اتخاذ قرار انجاز المؤتمر الحادي عشر الذي تأخّر لأربع سنوات.
قلنا إنّ المأزق القانوني الذي ما يفتأ يظهر في أغلب المراحل إنّما يعود لطبيعة
مثل هذه الحركات والتنظيمات التي لم تستطع التخلّص من عقليّة العمل السرّي
والحسابات الأمنيّة وهاجس الحفاظ على "جسم الحركة". فتكون "إكراهات
الواقع" أسبق على "احترام اللوائح".
لم يكن -والطوق الأمني يضيق على الحركة- من سبيل لبعث الروح في التنظيم
غير الانكفاء على هموم الحركة الداخليّة وأهمّها "رسم ملامح البديل
الإسلامي" للإجابة على سؤال المضمون الذي كثيرا ما أحرج طلبة الاتجاه
الإسلامي في الجامعة في فترة الثمانينات. من أجل هذا وقع إقرار ما يسمّى بـ"مشروع
الأولويات" ويتضمّن أسسا ثلاثة متصلة الحلقات:
أ ـ تقييم المرحلة السابقة من العمل الإسلامي.
ب ـ تحديد خصائص الوضع التونسي حضاريا وسياسيا واقتصاديا وتحديد الأصول
المنهجية والعقائدية لفكر الحركة وما يتأسس عليها وعلى تحديد خصائص الوضع من برامج
وبدائل.
ج ـ رسم استراتيجية العمل الإسلامي مستقبليا على ضوء التقييم وتحديد
خصائص الواقع ورسم ملامح البديل الإسلامي.
وكان علينا انتظار صائفة 1984 لإعداد مشروع التقييم وسنة 1986 لظهور
الورقات الفكريّة.
ويمكن التعليق على هذا المشروع بأنّه بداية تحوّل في "عقل
التنظيم" من الشعار إلى التأسيس النظري الذي سيكون ورقة عمل ورؤية تلزم
المنتمين إليه على معنى الخلفية الايديولوجية المنضبطة لقراءة الواقع التونسي وربط
البديل بـ "التراث الفقهي". وبدون الدخول في تفاصيل نظريّة مشروع لنا
طرح أسئلة الأفكار: على أيّ مدرسة فقهية استند هذا البديل؟ هل المالكية التي تهيمن
على المدرسة الزيتونية؟ هل هي انتقائية "تأخذ من كلّ مدرسة بطرف"؟ ما
مدى تأثير ابن تيمية وما نعلم منه من تشدّد في سياقنا هذا؟ (لراشد الغنوشي كتاب
بعنوان "القدر عند ابن تيميّة") وأهمّ من كلّ هذا أين هذه الوثيقة
التقييمية نصّا ظلّ "مجهولا"؟ ورغم كلّ هذه الأسئلة لا بدّ من اقرار فضل
لهذه الورقة يتمثّل في الايمان بالنّقد الذاتي وما يمكن أن يسمح به من مرونة سنجد
أثرها لاحقا.
كان سياق الثمانينيات في الحقيقة هو سياق مواجهة حركة الاتجاه
الإسلامي لمصيرها. تدير أزمات متلاحقة من قضايا الشرعية فالفراغ النظري إلى نزيف
الانكشافات المتتالية. كان آخرها في كانون ثاني/ يناير 1983 حيث انكشف للسلطة
المرتبكة زمنئذ بين قضية خلافة بورقيبة والرعب الذي جرّته أحداث قفصة، المكتب
التنفيذي للحركة ومجلس الجامعة وتعتبر هذه من أقوى الضربات التي تلقتها الحركة
ودفعتها إلى إلغاء الفصل بين مؤسستي الشورى والتنفيذي مركزيا وجهويا فتصبح الحركة
بثلاثة رؤوس: حمادي الجبالي علي لعريض ومحمد القلوي.
وللحق أثبتت هذه الحركة قدرة على التطور التنظيمي وتجدده ويُعزى هذا
إلى ايمان عقائدي يبثّ فيهم حماسة واستعدادا للتضحية.
المسألة النقابية
انتبهت الحركة إلى أهمية العمل النقابي الذي بدا يستفرغ الاتجاه
العاشوري (نسبة للحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل 1913 ـ
1999 المسجون ساعتها بعد أحداث 78) وتحتلّ التنظيمات اليسارية مواقع متقدمة في
النقابات. وسواء كان الدخول إلى النقابات هو فصل من فصول مواجهة
"العلمانية" أو كانت تكتيكا لتوسيع جبهات المواجهة فإنّ ضربة تموز /
يوليو 1981 قد كشفت ضعف تواجدهم في أهمّ منظمة اجتماعية قادرة على تحقيق التوازن
مع السلطة. فانتدبت لهذه المهمّة العنصر الحركي محمد القلوي لا لوضع خطّة يتسرّب
بها رفاقه إلى هياكل الاتحاد بل وضع الدراسات لفهم القوى النقابية وتصنيفها بحسب
قربها من الهويّة أو انكارها لها.
مرّة أخرى تسقط الحركة في فخّ الانكشاف بعد عثور الأمن على أرشيف الحركة بضاحية حيّ الزهور بالعاصمة في 6 تموز / يوليو 1986 وكان أخطرها. فقد كشف كلّ مجريات مؤتمر سليمان (1984) السرّي نوابا ولوائح ونقاشا داخليا وهو ما عجّل الحركة للإسراع بعقد مؤتمر المنار في كانون ثاني / يناير 1987 ولكنّه في الآن نفسه عجّل أيضا بحملة اعتقالات واسعة ستشهد أحكاما قاسية تصل إلى الإعدام.
وقد كانت الخطة تعتمد على مساندة رئيس الاتحاد في صراعه ضدّ اليسار
باعتباره في كلّ الأحوال أفضل من "العلمانيين" ومحاولة التسرّب للقيادات
المتوسّطة. وقد نجح القلوي في تمكين الإسلاميين من نقابات التعليم التقني والبناء
والكهرباء والغاز والوصول إلى المكاتب الجهوية. وبرغم هذه الاكتساح فإنّ ضعف
التجربة النقابية وغياب ثقافة النضال من داخل هياكل تعتبر أنّ الدفاع عن الطبقة
العاملة استراتيجيا تسعى نحو أفق اشتراكي هو ما جعل من هذا النضال نضالا
"مشبوها" في أزمنة الايديولوجيات.
الإسلاميون في الجامعة
كان النشاط الطلابي في الثمانينيات يصبّ مباشرة في الجامعة. وكلّ هذا
الزّخم البشري كان يمور في أغلب الأجزاء الجامعيّة ويشكّل ظاهرة جديدة في الفضاء
الجامعي الذي هيمن علية اليسار الطلابي لعقد كامل خاصة بعد ما سمي بـ "انقلاب
مؤتمر قربة"( 1971 ). ظهرت تسمية "الاتجاه الإسلامي" أول ما ظهرت
في الجامعة التونسية من خلال إمضاء طلبة إسلاميين لبيانهم الانتخابي بدار المعلمين
العليا سنة 1977 وانطلق من هناك تيار سيجتاح الجامعة التونسية بل سيكون طرفا نوعيا
مهيمنا خصوصا بعد تبنّيه قراءة مختلفة لتاريخ الحركة الطلاّبية عن قراءة اليسار
المتمسّك طوال عقد السبعينيات ونصف الثمانينيات بهيكل نقابي مؤقت تحضيرا لعقد المؤتمر
18 الخارق للعادة.
كانت قراءة "التأسيس" عند الإسلاميين تعيد ربط الحركة
الطلابية برافدها الزيتوني معتبرة أنّ الاتحاد العام لطلبة تونس ليس إلا جناحا
طالبيا للحزب الحاكم وأنّ القطع مع هذا الهيكل ضروري بتأسيس اتحاد آخر سمّي
"الاتحاد العام التونسي للطلبة".
كان شعار الطلبة الإسلاميين في تلك الفترة هو: "لا لا للتدجيل
الهياكل للتمثيل" ولمّا وجدوا من اليسار في الجامعة الذي انقسم على شيع
مختلفة ردّا عنيفا بل دمويا رفعوا شعار: "نطالب بالحرية في الجامعة كما نطالب
بها في البلاد"، وبذلك دشّنوا المواجهة مع السلطة السياسية لا في الجامعة فقط
ولكن في الشارع أكثر. أمّا على مستوى ثقافي فقد أدخل الإسلاميون تقاليد جديدة كـ "يوم
الطالب" والاحتفال بـ "اليوم العالمي للتنديد بالاستعمار
والامبريالية" وأصدروا مجلّة حائطيّة سمّوها "الحدث السياسي" تعبّر
عن مواقفهم وتصدر فيها بياناتهم. وظهرت قيادات من مثل عبد الرؤوف بولعابي وعبد
العزيز التميمي والهاشمي الحامدي والعجمي الوريمي وعبد الكريم الهاروني...ولم يسلم
هؤلاء من الاعتقال والملاحقة.
هذا التلخيص المخلّ لحضور الإسلاميين في الجامعة لا يمنع من تقييم
تجربتهم التي كانت في تنسيق تام مع قيادات
الاتجاه الإسلامي خارج الجامعة. وليس خافيا أنّهم ورقة ضغط على النّظام من لدن
القيادة السياسية وبتوجيه من مكتب الجامعة في التنظيم. غير أنّ أهمّ ما يمكن
الاشارة إليه في سياقنا هذا أنّ الطلبة الإسلاميين قاموا في فترات كثيرة بدور
القاطرة التي تجرّ القيادة إلى مواقف عالية السّقف في ظرف دقيق مرّت به البلاد.
فلن تتأخّر "أحداث الخبز"( 29 ديسمبر 1983 ـ 5 يناير 1984 ) التي هزّت
عرش بورقيبة وأعلنت عن ظهور الإسلاميين كرقم جديد في المعادلة السياسية. كان هذا
الحدث بداية الانفراج بين الإسلاميين والسلطة.
السابع من نوفمبر يعيد خلط الأوراق
مرّة أخرى تسقط الحركة في فخّ الانكشاف بعد عثور الأمن على أرشيف
الحركة بضاحية حيّ الزهور بالعاصمة في 6 تموز/ يوليو 1986 وكان أخطرها. فقد كشف
كلّ مجريات مؤتمر سليمان (1984) السرّي نوابا ولوائح ونقاشا داخليا وهو ما عجّل
الحركة للإسراع بعقد مؤتمر المنار في كانون ثاني/ يناير 1987 ولكنّه في الآن نفسه
عجّل أيضا بحملة اعتقالات واسعة ستشهد أحكاما قاسية تصل إلى الإعدام.
في جهة السلطة كان هناك جنرالا يتربّص بالزّعيم بعد تدهور كلّ
ملكاته وأصبح عاجزا عن تسيير الدولة ويعيش كوابيس استيلاء الإسلاميين على تونس
فيمعن في إسداء التعليمات للقضاء ليستأصل شأفتهم. كانت البلاد على كفّ عفريت
تتقاذفها أزمة سياسيّة واجتماعية بلغت أوجهها. كان الوزير الأوّل زين العابدين بن
علي يحيك مؤامرة سمّيت بـ "الانقلاب الطبي" على بورقيبة فيذيع في فجر
السابع من تشرين ثاني/ نوفمبر 1987 بيانا
يزيح بموجبه الرئيس "نظرا لطول شيخوخته واستفحال مرضه". واعتمادا على
الفصل 57 من الدستور يتولّى الرئاسة المؤقتة وقيادة القوات المسلّحة.
بلا شكّ تلقّي الإسلاميون سواء من كانوا في السجن أو من كانوا
ملاحقين أو مهجّرين هذا البيان بنوع من الارتياح خاصّة في نقطتين: "لا ظلم
بعد اليوم" و"إنّ شعبنا قد بلغ من الوعي والنضج ما يسمح لكلّ أبنائه
وفئاته بالمشاركة البناءة في تصريف شؤونه".
الحقيقة أنّ بن عليّ قد أنقذ رقاب الإسلاميين من المشنقة ولكنّه سوف
يهيء لهم كمّاشة ستمتدّ على أكثر من عشرين سنة.
اقرأ أيضا: الحركة الإسلامية في تونس.. سؤال تاريخ النشأة والمرجعية
اقرأ أيضا: الحركة الإسلامية في تونس.. التمكين السياسي وأسئلة الشرعية