هذه أقوى ضربة عسكرية تتعرض لها إسرائيل منذ تأسيس إسرائيل 1948، ضربة غير مسبوقة، قد تتوازى في بعض دلالاتها مع معركة الكرامة 1968، وحرب العبور 1973.
أكثر من 600 قتيل إسرائيلي، وآلاف الجرحى، والحصيلة النهائية سوف تتضح، هذا غير عدد الأسرى الكبير في غزة، وما هو أهم من الأرقام، هذه الهشاشة غير المسبوقة التي ظهرت بها الدولة التي لا تقهر، والجيش الذي لا يهزمه أحد، فلا مخابرات الاحتلال اخترقت
المقاومة، ولا جيشها كان مستعدا، ومؤسسات الاحتلال السياسية سقطت تحت وطأة اللحظة، وهي اللحظة التي ستؤدي إلى انتقامات إسرائيلية بشعة، فيما نلاحظ أن مقاومة غزة لم تستعمل كل مخزونها من الصواريخ ولا إمكاناتها؛ إدراكا منها أنها ستحتاجه في بحر الأيام القليلة المقبلة.
ثم آلاف الهاربين الإسرائيليين من المستوطنات وكل مكان، فلماذا يبقون ويموتون والأرض ليست أرضهم أصلا، وكأن كل واحد فيهم بحاجة إلى جندي إسرائيلي لحمايته شخصيا.
عشنا وشربنا كل المرارات في حياتنا من احتلال فلسطين، إلى سقوط بغداد وكل الخيبات والهزائم في جوارنا العربي، حتى جاء السابع من أكتوبر، ونستعمل "أكتوبر" للمراكمة على تعبير "أكتوبر" المصري في حرب العبور، والسابع من تشرين الأول كان مختلفا، كان زلزالا بكل المعاني، هز إسرائيل من أعماقها، وخلخل بنيتها، في توقيت كانت فيه إسرائيل تفاخر بتمددها الإقليمي والعالمي، وأنها دولة لا يمكن مس استقرارها، وإذ بجندها يهزمون.
ما يقال اليوم يرتبط بعدة حقائق يمكن استخلاصها، أولها أن إسرائيل برغم كل قوتها العسكرية، إلا أنها مقيدة وضعيفة لحسابات كثيرة في مساحة جغرافية ضيقة، كشفتها الضربة التي تلقتها بشكل مفاجئ، ولنا أن نتخيل لو كان كل الشعب الفلسطيني مسلحا، وكم سيحتمل الاحتلال حربا داخلية أو من شعوب الجوار. وثانيها أن كل الحروب التي تم شنها ضد المقاومة، لم تؤد إلى أضعافها، بل ابتدعت وسائل بديلة لتسليح نفسها. وثالثها أن المسجد الأقصى محرك أساسي وأول في كل رد فعل فلسطيني. ورابعها أن إشارات العداء من جوار فلسطين وامتداد العالم العربي والإسلامي، إشارات مستمرة كل مرة، وأن المصالحات هي مع الأنظمة وليس مع الشعوب. وخامسها، أن كل الحصار المفروض على غزة واجتياحها مرارا وإعلان الحرب عليها، لم يؤد إلى تغيير المعادلة. وسادسها أن الدبلوماسية العربية للأسف الشديد تتحدث دائما عن " خفض التصعيد" بين طرفين متساويين، وهذا تزييف ومساواة بين المحتل والضحية. وسابعها أن فكرة الموت، عند العرب تختلف عن فكرة الموت عند الإسرائيليين؛ إذ لها دلالات مرتبطة بالإسلام وفهم التضحية لوجه الله، بطريقة مختلفة تجعل المقاومة مستمرة دون توقف. وثامنها أن إسرائيل مقبلة على زلزال أمني وعسكري وسياسي بعد نهاية العمليات، من باب الحساب والتلاوم الداخلي، وتحميل المسؤوليات. وعاشرها أننا على الأغلب أمام صفقة تاريخية غير مسبوقة لتبادل الأسرى، ستؤدي إلى إطلاق سراح آلاف الفلسطينيين.
يضاف إلى ما سبق، العامل العربي والإقليمي، واحتمال توسع الحرب لتشمل لبنان، مع الصواريخ والمسيرات التي يتم إطلاقها على مزارع شبعا، بما يؤشر على احتمالات لحرب إقليمية أوسع، هذا على الرغم من أن إسرائيل سوف تتجنب فتح جبهة شمال فلسطين.
التحليلات المسمومة التي تروج لها إسرائيل، تتحدث عن حسابات
إيرانية لتفجير الحرب داخل فلسطين، استباقا لضربة إسرائيلية ضد إيران، وهذا كلام يستند إلى تحليلات ومعلومات لا يمكن التوثق منها أصلا، وإن كانت سائدة في أوساط محددة بين المحللين والمراقبين، وهي تحليلات موجهة تريد أن توحي أن إيران هي التي أمرت مقاومة غزة ببدء الحرب لدوافع إقليمية، تتجاوز الملف الفلسطيني المباشر، والكلام هنا في أحد جوانبه يريد تشويه سمعة المقاومة، وتقديمها بصورة الذي يضحي بالفلسطينيين لحسابات ترتبط بعواصم ثانية، ويهدف أيضا إلى أضعاف حجم التعاطف والتأييد الشعبي مع المقاومة في غزة، وعزلها وحيدة بذريعة أنها ليست حركات تحرر وطنية، وتتلقى الدعم والتمويل والتوجيه من الخارج، وتتلقى الانتقام الإسرائيلي الدموي بدلا عن إيران المهددة بضربة أيضا في هذه الحالة، وربما على المتابعين التنبه للدس الإسرائيلي في هذه القصة بالتحديد، لأنه يتعمد تلطيخ سمعة المقاومة.
أسطرة إسرائيل وتقديمها كأسطورة ثبت زيفها كليا، حتى لو جاء انتقام الاحتلال بشعا ودمويا.