ثمة فارق بين التفاعل مع الحدث بحجمه وهوله، وبين التعامل معه برتابة وحديث فضفاض لا يتسق نهائيا مع الواقع، كذلك كان الأمر مع الحرب في
غزة والمواقف التي تصدر من هنا وهناك، على مهل وفي سعة، بينما يسحق أطفال غزة تحت قنابل الاحتلال.
ومع موجات الموت التي تضرب أحياء غزة كلها، تصاعد التضامن العربي، وباتت الشعوب تنتظر موقفا يرقى ولو بالدرجة الأدنى لبشاعة المجازر، لكن دون جدوى.
وبينما كانت العيون على العواصم العربية المطبعة مع الاحتلال علها تطرد سفيرا أو توبخ أو حتى تستدعي، جاء القرار من أقصى الغرب
كولومبيا في أمريكا اللاتينية التي طردت سفير الاحتلال، ردا على إساءته لرئيس البلاد الذي أدان الجرائم المرتكبة في غزة.
وأمس الاثنين طالب وزير الخارجية الكولومبي ألفارو ليفا، سفير الكيان المحتل في بوغوتا، غالي دوغان بمغادرة البلاد، بعد إساءته لرئيس البلاد الذي ندد بجرائم الاحتلال.
وقال الوزير الكولومبي، "الدبلوماسية العالمية ستسجل الغطرسة الحمقاء للسفير الإسرائيلي في كولومبيا تجاه الرئيس غوستافو بيترو كعلامة تاريخية، شيء مخز، على الأقل اعتذر وغادر".
وأعرب ليفا عن دعمه لموقف الرئيس حيال الحرب في غزة قائلا: "احترم رئيس كولومبيا فهو يطالب بحل قطعي من أجل كل الأطراف هناك استنادا إلى رؤية تاريخية".
وكانت وزارة خارجية الاحتلال استدعت السفيرة الكولومبية في تل أبيب مارغريتا مانخاريز بسبب تصريحات الرئيس بيترو حول الهجمات على قطاع غزة.
وقال بيان صدر عن مكتب وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، "بتوجيه من وزير الخارجية، استدعى السفير يوناتان بيليد، نائب المدير العام لوزارة الخارجية لشؤون أمريكا اللاتينية، سفيرة كولومبيا مارغريتا مانخاريز، لتوبيخها بشأن التصريحات العدائية والمعادية للسامية ضد دولة إسرائيل التي أدلى بها رئيس كولومبيا غوستافو بيترو".
وردًا على تصريحات بيترو، أعلنت حكومة نتنياهو وقف صادراتها العسكرية إلى كولومبيا، التي ردت بدورها وقررت "تعليق العلاقات الخارجية مع إسرائيل".
وكان الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو انتقد
القصف الإسرائيلي على غزة ونشر صورة لأطفال فلسطينيين استشهدوا خلال القصف، مضيفا، أن "الطريقة الوحيدة لينام الأطفال الإسرائيليون بسلام هي أن ينام الأطفال الفلسطينيون بسلام".
وقال بيترو في منشور على منصة "إكس"، "إذا استوجب الأمر تعليق علاقاتنا مع إسرائيل فإننا نفعل ذلك، لا ندعم الإبادة ولا يمكن توجيه الإهانات لرئيس كولومبيا وندعو أمريكا اللاتينية إلى تضامن حقيقي مع كولومبيا".
وأكد بيترو أن بلاده قررت إرسال مساعدات إنسانية إلى سكان قطاع غزة، مبينا أن حكومته ستتواصل مع نظيرتها المصرية من أجل الحصول على دعم القاهرة في إيصال المساعدات إلى سكان غزة.
ودعا بيترو إلى عقد اجتماع استثنائي للجمعية العامة للأمم المتحدة، قائلاً: "أخيرًا، يُذكّر الاتحاد الأوروبي إسرائيل بالقانون الدولي. فالهجمات الممنهجة ضد المدنيين محظورة والإبادة الجماعية محظورة أيضاً ويجب حماية العاملين في مجال الصحة والمستشفيات".
في المقابل توقع الكثيرون خطوة مشابهة على الأقل من
الدول العربية التي لديها سفراء لدولة الاحتلال أو حتى استدعاءهم للاحتجاج، كرد بديهي على كل تلك المجازر التي ترتكب في غزة.
وتواجه مصر كما تقول خطرا على أمنها القومي بسبب دعوة الاحتلال لتهجير سكان قطاع غزة، فضلا عن تهديده بقصف المساعدات المصرية إذا دخلت القطاع عبر معبر رفح الحدودي، وكل ذلك لم يدفعها لاتخاذ خطوة مماثلة للقرار الكولومبي.
لم يختلف الأمر في الأردن كثيرا، حيث تنتاب عمان ذات مخاوف القاهرة، من التهجير واستقبال اللاجئين، حتى بات الموضوع الأبرز في تصريحات المسؤولين الأردنيين، والملك عبد الله الثاني، الذي سافر لأوروبا في محاولة للتهدئة بينما سفارة الاحتلال في عمان لم يطرق بابها قط.
في الإمارات والبحرين والمغرب، لا يبدو غياب المواقف مستغربا، فالدول الثلاث كانت مواقفها إلى حد كبير تصب بصالح الاحتلال، عبر التضامن مع "إسرائيل" وعدم الإشارة لمجازرها في غزة، بل إدانة المقاومة صراحة في بيان وزارة الخارجية الإماراتية يوم أمس.
الموقف الدبلوماسي العربي رآه كثيرون لم يرتق إلى حجم الحدث حتى الآن، بل لم يستطع مجاراة المواقف الأمريكية التي تتبنى رواية الاحتلال، فقد ذكر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن خلال جولته في قطر والسعودية والإمارات ومصر، أن من حق "إسرائيل" الدفاع عن نفسها بعد "المذبحة" التي شهدتها، لكن غابت المجازر التي تحدث في غزة وحصارها الخانق، من بيانات وزراء الخارجية العرب.
الموقف العربي
يقول الكاتب والباحث السياسي نظير الكندوري، "حينما نرى التعامل السياسي للدول العربية المطبعة مع الكيان الصهيوني، فيما يخص الأحداث الجارية في غزة، تعترينا الدهشة من مواقفها التي لم تكتف بالسكوت عما تفعله إسرائيل من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، بل وصلت إلى مرحلة دعم إسرائيل فيما تفعله من جرائم".
وأضاف الكندوري في حديث لـ "عربي21”، "السبب في ذلك، أن هذه الدول وقعت في ورطة كبيرة من خلال تطبيعها مع الكيان الصهيوني، فهي محرجة من انتصار المقاومة في حال صمدت أمام الوحشية الإسرائيلية، وظهر الكيان بموقف الضعيف أمام الآخرين، وهي التي استندت في تطبيعها على قوة إسرائيل العسكرية، وأيضا هي في حرج من تصاعد أرقام الضحايا الفلسطينيين، لأن ذلك سيجعل غضب شعوبها ينصب عليها بسبب موقفها المساند لإسرائيل".
وتابع، "وفي كلا الحالتين سينعكس الرأي العام الشعبي في بلدانها عليها سلبا، وتظهر أمام شعوبها بمظهر الداعم للمحتل ضد بلد عربي تربطنا بهم وشائج الدين والقومية والمقدسات الإسلامية".
وأردف الكندوري، "أن أقصى أمنيات تلك الأنظمة حاليا، هي عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، واستئناف مسار
التطبيع لباقي الدول العربية والإسلامية لتثبت للآخرين أنها كانت على صواب في تطبيعها مع إسرائيل".
وأوضح، "على الجانب الآخر نرى أن حكومة مثل حكومة كولومبيا في أمريكا اللاتينية، تعتمد على أصوات شعبها للوصول للسلطة، تخشى من الرأي العام لديها وتحاول أن تجعل مساراتها السياسية بما يتوافق مع المزاج العام لشعوبها خشية سقوطها في الانتخابات، والمزاج الشعبي فيها الآن هو لصالح القضية الفلسطينية، لكن في دول التطبيع العربي، لا يوجد مسار ديمقراطي، والحاكم هناك هو الحاكم المطلق الذي لا يسأل عما يفعل، فهي بذلك تتجاهل مواقف شعوبها".
من جانبه قال المختص بالشأن الفلسطيني تيسير سليمان، "إن الشعب الفلسطيني والمقاومة يتعاملون بمبدأ كسب الأصدقاء، لذا فإن النظرة لخطوة الحكومة الكولومبية، تأتي ضمن الموقف الإنساني الدولي الذي يقف مع كل مظلوم في هذه الأرض".
وأضاف في حديث لـ "عربي21”، "أن التضامن الكولومبي مع الشعب الفلسطيني يؤكد صحة الرواية الفلسطينية لما يجري من أحداث على أرض الواقع في غزة".
وتابع، "أن الاحتلال لا يبني علاقات طبيعية تعود بالنفع للطرفين بل ينفذ كل ما يساعده في سياساته ضد الشعب الفلسطيني، والسفراء لديه بمثابة شاهدين على هذه الممارسات".
وأردف، "أن الاعتقاد بأن العلاقات الدبلوماسية مع الاحتلال ستساعد على وقف التصعيد أو مفيدة على الأقل للدول المطبعة، اعتقاد خاطئ، ولا ننسى مثلا محاولات الاغتيالات التي نفذها الاحتلال في عدة دول منها الأردن، فضلا عن تجنيد العملاء والجواسيس في الدول المطبعة معه، والاحتلال لم يتوقف عن ذلك".
الدبلوماسية العربية
وحول الحراك الدبلوماسي العربي، يقول الكندوري، "مع كل التخاذل الذي أظهرته الأنظمة العربية الرسمية خلال الأحداث الجارية في غزة، لكن إذا ما قارنا مواقفها الحالية مع مواقفها السابقة وفي حالات مماثلة، نجد أن هناك تغييرًا طفيفا نحو الأفضل في مستوى بعض الدول العربية في تعاملها مع ما يجري في غزة".
وأضاف، "لا بد من الإشارة إلى الموقف السعودي والمصري، اللذين رفضا التعامل مع الخطة الإسرائيلية الأمريكية لتهجير سكان غزة إلى سيناء، هذا ما سمعه وزير الخارجية الأمريكي أثناء زيارته لعواصم البلدين".
ويرى الكندوري، "أن هذا الموقف الإيجابي تجاه القضية الفلسطينية لم يكن نابعا من اعتراف تلك الدول بالحق الفلسطيني، إنما خشيتهما من تداعيات ذلك التهجير على أمن بلديهما، وما جرى سابقا في لبنان والأردن من تداعيات بسبب تهجير الفلسطينيين إليها في فترات سابقة، كان درسا لها. مع ذلك يمكننا اعتبار رفض الدولتين لخطة التهجير، خطوة في المسار الصحيح".
بدوره يقول الكاتب والباحث السياسي الفلسطيني تيسير سليمان، "إن العرب يصنفون لعدة مستويات في علاقتهم مع الاحتلال منها من قام بالتطبيع مجبرا ومنها من اختار ذلك".
وأضاف، "بعض الدول العربية تخطئ في التعامل مع المكانة الاستراتيجية والتاريخية لبلادها، وفي حالة تركت الشعوب والبرلمانات لتتكلم سنرى موقفا مغايرا للموقف الرسمي وسنرى تضامنا ووقوفا مع الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال وضد من يطبع معه".
وأشار، "إلى أن الاحتلال الآن يستعد للجزء الثاني من خطته ضد غزة، بعد القصف الكثيف والحصار المطبق، وهذا وجد ترحيبا أوروبيا وأمريكيا، فالقرار السياسي بهذا الخصوص اتخذ بالفعل".
أدوات الضغط
بحسب الكندوري، "فإن الدول العربية وبالأخص الخليجية تمتلك وسائل ضغط كبيرة يمكنها استعمالها ضد إسرائيل والولايات المتحدة، لكنها تُحجم عن استخدامها خشية من أن ذلك سيساعد على انتصار المقاومة الفلسطينية وبالتالي تتحول هذه المقاومة إلى رمز للشعوب العربية تحاول أن تقلد تجربتها في بلدانها ضد الأنظمة الاستبدادية".
انعكاسات طرد السفراء
يقول الكاتب والباحث السياسي نظير الكندوري، "إن الكيان الصهيوني، وفي خضم محاولاته لوأد المقاومة الفلسطينية بالقوة المسلحة، هو حريص جدًا على تجييش الرأي العام الدولي لصالحه، وكذلك حشد الدعم الدبلوماسي من قبل دول العالم لمواقفه، لأنه بغياب هذا الدعم ستكون إسرائيل وحيدة وتوجه لها الانتقادات خصوصا لانتهاك حقوق الإنسان داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة".
ويضيف، "أن دولة الاحتلال تخشى سيناريو النظام العنصري في جنوب أفريقيا وكيف أن الرأي العام الدولي كان له الأثر الكبير في إسقاطه، ولهذا فإن طرد سفراء هذا الكيان من بعض دول العالم ومقاطعتها دبلوماسيا سوف يضرها بشكل بالغ لا يقل أثره السيء عن ضربات المقاومة الفلسطينية".
وأكد، "أنه في الأيام الأخيرة، بدأ المزاج الشعبي الدولي بالتغير لصالح القضية الفلسطينية وبدأت تحدث تغييرات على مواقف بعض الدول الداعمة لإسرائيل، وتحولها من الدعم المطلق لإسرائيل، إلى توجيه الدعوات للكيان الصهيوني لمراعاة حقوق الإنسان خلال تصديها للمقاومة الفلسطينية".
وختم الكندوري، "ولا نعلم إذا ما أصرت إسرائيل على المضي في ممارساتها الحالية، إلى أي مدى سيتحول الموقف السياسي الدولي بالضد من إسرائيل".