الكتاب: "الصراع السياسي في تونس زمن
الانتقال الجمهوري"
الكاتب: المولدي قسّومي
الناشر: دار محمد علي للنشر، تونس، الطبعة
الأولى 2023
(709 صفحات من القطع الكبير)
قبل وصوله إلى قصر قرطاج، شكّك الرئيس قيس
سعيّد في طبيعة النظام السياسي التونسي شبه البرلماني وشبه الرئاسي، واعتبره
"شاذًا وهجينًا"، كما شكَّك سعيّد أيضًا ـ بوضوحٍ وصراحةٍ ـ في جدوى
الأحزاب السياسية الرسمية ومجلس نواب الشعب المُنتخَب. وطالب بـ "قلب هرم
السلطة"، داعياً إلى انتخاب مجالس شعبية محلية، تتمثَّل مهمتها المُقدَّسة في
الحديث نيابةً عن "الإرادة الشعبية".
ترى النخب الفكرية والسياسية التونسية أنَّ
هذا الخطاب السياسي للرئيس قيس سعيَّدْ المناهض للبرلمان، وللأحزاب السياسية، يُعَدُّ
جزءًا من الظاهرة الشَعْبَوِيَّة التي برزت في القرن التاسع عشر، ثم ظهرت من جديد
عقب أزمة الرأسمالية العالمية في سنوات (1929 ـ 1933)، والتي اتفق علماء الاجتماع
على تسميتها بتسميات مختلفة، نازية أو فاشية أو غير ذلك، بل إنَّ هذه الظاهرة لها
امتداد أعمق في التاريخ، إذا تم النظر إليها بكونها ليست إيديولوجية مغلقة، بقدر
ما هي ظواهر أفرزتها الأزمات، وتتمتع بمواصفات سياسية وخطابية مشتركة.
وفي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين
أضحتْ الشعبوية أهم توجه مؤطر للتيارات السياسية في العالم المعاصر، فقد تمكن هذا
التيار من البروز في بريطانيا من خلال طرح مسألة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد
الأوروبي، وشكل انتخاب الرئيس الأمريكي السابق ترامب إيذانًا بتمكن هذا التيار من
دوائر الحكم في البيت الأبيض، كما أشرت تحولات
السياسة والاقتراعات الانتخابية
التي جرت في أوروبا عن صعود نجم التيارات الشَعْبًويَّةِ سواء في المجر أو التشيك
أو النمسا أو في إيطاليا، ولم يستثن العالم الثالث نفسه من هذه الظاهرة، إِذْ
يُعَدُّ الرئيس قيس سعيَّدْ الذي انتخب في سنة 2019، جزءًا من هذه الظاهرة .
ويتفق علماء الاجتماع و السياسة أنَّ الشَعْبَوِيَّةَ،
شَعْبَوِيَّاتٌ، تختلف عن بعضها بحسب الظروف السياسية والتاريخية التي تشكلت فيها،
فالشَعْبَوِيِّة التي ظهرت في القرن التاسع عشر أو بعده، تختلف عن شعبوية النازية
أوالفاشية التي ظهرت في القرن العشرين ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، كما
أنَّها ليست نتاج إيديولوجية واحدة، حتى يمكن الإمساك بحدودها وتعريفها وبسط
خصائصها الموحدة.
فالشَعْبَوِيَّةُ بقدر ما تنبثق عن اليمين،
تخرج أيضا من اليسار، بل تخرج من اليمين المتطرف، وأيضا من يمين اليمين ويمين
الوسط، وكذلك الأمر بالنسبة لشَعْبَوِيَّةِ اليسار، بل إنَّ الشَعْبَوِيَّةَ كما
أشار إلى ذلك بحث فرانسوا بورغا لم تسلم منه حتى الظاهرة الإسلاموية، مما يجعلنا
في المحصلة أمام ظواهر متعددة بممارسات سياسية متشابهة وخصائص خطابية متقاربة، دون
أن يعني ذلك أنها تشكل عقيدة مذهبية واحدة تتسم بطابع التماسك النظري.
أما الشَعْبَوِيَّة التي يُتَّهَمُ بها
الرئيس قيس سعيَّدْ من قبل خصومه السياسيين في تونس، فهي ليست مذهبية إيديولوجية
للحكم، بقدر ما هي تعبير احتجاجي عن الأزمات التي أحدثها النظام السياسي الشاذ والهجين
الذي حكم تونس طيلة العشرية السوداء.
على أنَّ هذا الخطاب الشعبوي الاحتجاجي الذي
يقدمه الرئيس سعيَّدْ، يشمل نقد البرلمان وطريقة اشتغاله، والأحزاب السياسية
المتورطة في الفساد، والديمقراطية التمثيلية الحديثة، ويُقَدِّمُ نفسه بديلاً
للأوضاع المزرية القائمة في تونس، متهمًا الآخرين (من أحزاب سياسية، وبرلمان،
ونواب، ونظام سياسي برلماني)، بأنَّهم خانوا تحقيقَ انتظاراتِ الشعب التونسي، وأصبحوا
غير فاعلين، ولا مصداقية لهم، وعاجزين عن معالجة النموذج التنموي في بعده
الاجتماعي والاقتصادي. إذ تنسب هذه الشَعْبَوِيَّة سبب المشكلة للتفاوت الطبقي
وتعمق الفجوة بين الفقراء والأغنياء، إلى طبيعة النظام السياسي القائم في تونس، والذي
يجب تغييره، وتقدم نفسها كمخلص لهذه الوضعية المكرسة لواقع اللامساواة بين شرائح
المجتمع، والولايات التونسية. فتظهر شَعْبَوِيَّة الرئيس سعيَّدْ هنا في تونس، كما
لو أنَّها تريد أن تملأ فراغ السياسة، وغياب المشروع الوطني الديمقراطي لدى كل
الأحزاب التي تنتمي إلى العائلات الفكرية والسياسية المعروفة.
وتؤكد مقابلة قديمة للرئيس التونسي، قيس
سعيَّدْ، أثناء ترشحه لمنصب رئاسة الجمهورية، إخلاصه لـ "مشروعه الطوباوي
الثوري "والتزامه باستمرارية الدولة ودستورعام 2014، وتلمِّيحه أحياناً إلى
أنَّه من الممكن تعديل الدستورمن أجل المضي قدماً في مساعيه لتحقيق
"الديمقراطية الشعبية" من الأسفل إلى الأعلى، إذا نجح البرلمان في حشد
ثلثي أعضائه.
لقد ارتبط وصول قيس سعيّد إلى السلطة بتصاعد
موجة الشعبوية التي حفّت بأغلب أنماط الفعل السياسي في تونس بعد 2011، فضلاً عن
أنَّ هذه الشعبوية وسمت إجراءات 21 تموز / يوليو 2021 وما تلاها من التدابير
الاستثنائية، فنحن هنا إزاء ما يعتبر شعبوية سادت جميع أركان الحياة السياسية
وتحكمت في قواعد تسيير دواليب الدولة وإدارة مؤسساتها وتنظيم السلط العمومية،
وكانت وراء إعلان حالة الاستثناء، وفي الحصيلة النهائية ستكون إزاء شعبوية كامل
مسار تأسيس الجمهورية الجديدة.
يقول الباحث المولدي قسومة: "في
الواقع، لسنا بصدد ظاهرة استثنائية أو معزولة تماماً، ولا هي ظاهرة تونسية خالصة،
إذ إن الشعبوية هي النكهة المميزة لعالم اليوم، فضلاً عن كونها أشبه ما يكون
بظاهرة ملازمة لأغلب تجارب الانتقال الديمقراطي في كل مراحلها ومنذ موجتها الأولى
وخاصة بعد
الثورة الفرنسية الكبرى، مما يعني أن الشعبوية ليست طارئة أو عارضة على
الواقع السياسي، بل هي رديفة الانتقال بشكل عام، سواء كان انتقالاً ديمقراطياً أو
على غير الصيغة الديمقراطية، ولكن ميزتها في اللحظة السياسية الراهنة أنها لم
تنحصر في حدود تجارب الانتقال، بل إنها حلت بأنظمة الحكم الديمقراطي المستقرة على
اختلاف الأنظمة السياسية التي تحتضنها (سواء كانت جمهورية أو ملكية) إضافة إلى
كونها من أكثر الظواهر المتجانسة مع أنظمة الحكم غير الديمقراطية، (وبعد أن ألقت
بظلالها على الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية،
تحوّلت إلى موضوع للبحث والتدقيق من قبل الكثير من الباحثين [...] لكن ما لا يعرفه
الباحثون في الغرب بما فيه الكفاية هو أن هناك تاريخ أكثر ثراء وتعقيداً للشعبوية
يمكن العثور عليه في السياسات الديمقراطية داخل أنحاء أخرى من العالم يتجاوز ما هو
متاح في المجالات الأوروبية أو أمريكا اللاتينية)" (ص221).
جمهورية جديدة بلا أجسام وسيطة وبلا عقل
عمومي
لقد تجاوز الرئيس قيس سعيَدْ صانع نظام
الاستثناء وباني الجمهورية الجديدة مجرد اعتبار أن هيئات المجتمع المدني بمثابة
الوحدة العاجزة التي ينبغي أن تكون في حالة إذعان دولي للدولة، بل إنه لا يرى
فائدة منها ولا يجد لها من جدوى في الحياة السياسية، بما فيها الهيئات التي لا علة
لوجودها إلا العمل السياسي، ونقصد هنا الأحزاب السياسية، وفي أفضل الحالات فإن هذا
التصور لا يتجاوز مجانسة الأجسام الوسيطة بالتنظيمات المهنية والاجتماعية
و(الأهلية) التي قد تتجاوز الأساس الأخلاقي للعائلة ولكنها لا يمكن أن تشكل سلطة
مدنية تعديلية ضدية، وبالتالي فإن المنظمات والجمعيات ينبغي أن تكون تابعة للنظام
وأجرام متممة لسلطته، فمصيرها وفق العقل السياسي لصانع نظام الاستثناء إما
الانصهار والاندثار، لقد حوّل عملية إبعاد الأجسام الوسيطة إلى ما يشبه الشرط
الإجرائي لبناء الجمهورية الجديدة، عندها لا بدّ من إعادة النظر في مدى ديمقراطية
هذه الجمهورية الموعودة من دون أجسام وسيطة وعقل عمومي حر ومستقل عن العقل السياسي
الرسمي.
لا يعترف صانع نظام الاستثناء بأن الحركات
الاجتماعية بكل تمظهرها القديم والمستحدث أصبحت اليوم في علاقة حيوية مباشرة مع
أنماط الفعل السياسي في دولة ما بعد الحداثة وديمقراطية المواطنة الكونية،
فالحركات الاجتماعية والاحتجاجات تولد داخل أنساق الدولة، وهي تستهدف في الغالب
سلطات الدولة التي تعمل على إحداث التغيرات والإصلاحات التي تجيب على تطلعات
الفاعلين، لذلك فالغالبية العظمى من الحركات الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين
جعلت من الدولة هدفاً.. فالمحقق أنها قد أصبحت من الشيوع اليوم إلى درجة أنها
تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الممارسة السياسية.
تؤدي المواجهة المباشرة بين الدولة والمجتمع المدني إلى تغلّب أحدهما على الآخر، لكنها لا تؤدي مطلقاً إلى تغلب الديمقراطية وهذا ما ثبت إلى حد الآن في ظل نظام الاستثناء، وخصوصاً في علاقة بالمواجهة بين (الرئيس - الدولة) الذي يحتكر كل السلطات ويختصر كل فعاليات السيادة الشعبية وسديم الأجرام الوسيطة وفي مقدمته الاتحاد العام التونسي للشغل،
من البديهي أن تتأثر بواعث الفعل السياسي
وأنماطه بالمناخ السياسي وبالبناء السياسي، لذلك فإن تلك البواعث يمكن أن تنتج
أنماطاً من الفعل السياسي الجدالي أو الشقاقي، كما قد ينتج أنماطا من الفعل السياسي
المتجانس مع السيستام والسياق العام، فالفاعلون لا يعتمدون فقط على الأحزاب
السياسية لكي يعبّروا عن تفضيلاتهم، ولكنهم يلجؤون أيضاً إلى كل الأجسام الوسيطة
أو حتى الوسائط الرخوة على غرار فضاءات التواصل الاجتماعي، فضلاً عن الإعلام
التقليدي، فجميعها وسائط.
يقول الباحث المولدي قسومة: "تلعب
الأجسام الوسيطة أدواراً أساسية في الديمقراطيات الحديثة، إنها تلفت الانتباه إلى
القضايا التي تغفل عنها السلطة، ومن ثم فإنها تشكل أدوات أساسية يمكن أن يعبر بها
المواطنون عن مطالبهم وعن عدم رضاهم في الفترات الممتدة بين الانتخابات، ويمكن أن
يتحول الناشطون داخل الحركة إلى جزء لا يتجزأ من البناء السياسي القائم، كما أنهم
قد يكونون بالفعل جزءاً لا يتجزأ من النظام الموجود، أما المنظومة السياسية التي
لا ترى في الأجسام الوسيطة إلا تعبيراً عن تكوينات عارضة أو طفيلية فإنها تعمل على
إلغاء جزء هام من فضاء الديمقراطية، فهي تبنى على التمييز بين الدولة والمجتمع
السياسي والمجتمع المدني، فإذا نحن خلطنا بين الدولة والمجتمع السياسي سرعان ما
يصل بنا الأمر إلى إلحاق عديد المصالح المجتمعية بفعل الدولة التوحيدي، أما إذا
خلطنا بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني فعندئذ لا ندرك كيف يمكن إيجاد نصاب
سياسي لا يكون مجرد إعادة إنتاج للهيمنة، فالمجتمع السياسي معني بالديمقراطية لكن
هذه تتحدد في آن معاً باستقلالية هذا المجتمع وبدوره كوسيط بين الدولة والمجتمع
المدني.
تؤدي المواجهة المباشرة بين الدولة والمجتمع
المدني إلى تغلّب أحدهما على الآخر، لكنها لا تؤدي مطلقاً إلى تغلب الديمقراطية
وهذا ما ثبت إلى حد الآن في ظل نظام الاستثناء، وخصوصاً في علاقة بالمواجهة بين
(الرئيس - الدولة) الذي يحتكر كل السلطات ويختصر كل فعاليات السيادة الشعبية وسديم
الأجرام الوسيطة وفي مقدمته الاتحاد العام التونسي للشغل، وإن كانت المواجهة لم
تفضِ نهائياً إلى هزيمة الديمقراطية فإنها عطلت مسارها وحرفته، يحدث ذلك على أيدي
فاعلين أدركوا أن درس السنوات القليلة الماضية من خلال الحوار الوطني أقام الدليل
على أن مجال فعل الهيئات الوسيطة هو المجال الحيوي للديمقراطية وخط الدفاع الأكثر
أهمية عنها"(صص 570 ـ 571).
على أن الآداء الوسيط لمثل هذه الهيئات
يختلف عن النشاط الجماعي الذي تقوم به الحركات الاجتماعية وعن بعض النشاطات
الجماعية التي (ترمي إلى تعديل صيغة الاستعمال المجتمعية لبعض الموارد المهمة باسم
التوجهات الثقافية التي تلاقي تقبّلاً من المجتمع، وهذا ما كانت عليه الحركات
العمالية التي ناهضت الرأسمالية باسم التقدم والإنتاج، وينبغي على الحركة
الاجتماعية بناء على هذا التحديد أن يكون لها برنامج سياسي، لكنها في الوقت الذي
تسعى إلى تحقيق مصالح خاصة بها إنما تنادي بعده من المبادئ العامة، وهذا ما كانت
عليه أيضاً حال الحركات العمالية وحركات التحرر الوطني وحال الحركات النسائية
والحركات البيئوية)، وهذا التمييز ليس ضرورة طارئة بل هو مسألة جوهرية منذ تأكيد
توكفيل بإلحاح كبير على مبدأ الجماعات أو الجمعيات السياسية والصناعية وأيضاً
الأخلاقية والثقافية، كضرورة مؤسساتية ذات مدلول سياسي مباشر، (فقوة الشعوب تكمن
من الجماعة، وأهمية المؤسسات الجماعية بالنسبة إلى الحرية مثل أهمية المدارس
الابتدائية بالنسبة إلى العالم، ويمكن للوطن أن يحظى بحكومة حرة بدون مؤسسات
جماعية، لكنه لن يتوفر على روح الحرية).
إن الأهمية الممنوحة للهيئات الوسيطة، إن لم
تتمثل في حل التناقض الداخلي للنظام الديمقراطي بين الحرية والمساواة، فإنها على
الأقل ترسم الطريق الذي تبحث من خلاله عن هذا الحل، وهي الطريق التي يدعو توكفيل
من خلالها، وبليبراليته المتفردة (إلى إضفاء الشمولية، وبالتالي إلى دمقرطة القيم
الاجتماعية ضمن تصور معين للحرية عن طريق التنظيم الاجتماعي والسياسي، أي المأسسة
النوعية والجمعوية لهذه الحرية، هذا التصور هو الذي جعل توكفيل رائداً للتيارات
الفكرية التي تخلت عن المرجعية الأرستقراطية ووضعت من جديد مسألة (الهيئات
الوسيطة) في صلب انشغالاتها للتخلص من التصور القديم للتقابل بين الفرد والدولة.
يؤكد تراجع دور الأحزاب وجاهة الرأي القائل
بأن تضاؤل فضاء الهيئات الوسيطة ـ سواء كانت ذات طابع سياسي أو مدني ـ هو تعطيل
للديمقراطية واستماتة خلوية مبرمجة لها، لأن (التجربة الديمقراطية، كما تجربة
السلطة فيها مغامرة جماعية، والمعضلة أن الكثير من محاولات الإصلاح بقدر ما تعد
بتوسيع دائرة هذه المغامرة تؤدي في الحقيقة إلى تضييقها، حتى تنتهي إلى شخصنة
السلطة، وإنهاء الديمقراطية، إنها أبوية جديدة وسلطوية خفية تقتحم الديمقراطية من
بوابة الدمقرطة وباسم سلطة الشعب).
اقرأ أيضا: خصائص الصراع السياسي في ظل الجمهورية الجديدة في تونس.. قراءة في كتاب
اقرأ أيضا: هل شكَّل فوز قيس سعيد الخطوة الأولى لخوض معركة إعادة بناء الدولة التونسية؟