كتبتُ
في هذا المكان ملاحظة تتعلق بتدخل الأجهزة
المصرية في بداية معركة طوفان الأقصى،
وكان التدخل موضع ثناء ممزوج بأمل ألا تُنحَّى هذه الأجهزة عن المشهد لصالح رأس
النظام، وهو ما لم يتحقق للأسف وبدت سيطرة
السيسي على مسار الحراك المصري في أخطر
منعطفات القضية
الفلسطينية بعد الاحتلال عام 1948.
لا
جدال في أن موقف السيسي الثابت هو الولاء للدعم الصهيوني له، والولاء توصيف دقيق
للعلاقة بينه وبين حكومة الاحتلال، فمنذ 2013 يقوم السيسي بخدمة الاحتلال في عدة
جهات، بدأت من السماح لطيرانه بقصف مجموعة في شمال سيناء بذريعة أنها مجموعة
متطرفة، ما أعطى ملمحا لشكل العلاقة التي يريدها مع العدو التاريخي لشعوب المنطقة،
والتي وصفها فيما بعد بـ"السلام الدافئ"، في رسالة واضحة منه بأن عصره
سيختلف عن عصر مبارك الذي وُصِفَت العلاقة فيه بـ"السلام البارد" سواء
على المستوى الرسمي، وبالطبع الشعبي.
استمر
ولاء السيسي ثابتا في عدوان عام 2014، وكان الإعلام محرضا بشدة على قتل
الفلسطينيين والحركات المقاومة، والملاحظة هنا أنه كان تحريضا على القتل، لا مجرد
إلقاء اللوم على المقاومة أو تشويهها كما كان يحدث قبل ثورة الكرامة في كانون
الثاني/ يناير 2011، وبقي الولاء ثابتا في عدوان عام 2021 أيضا.
إذا لم يكن سلوك السيسي على مدار سِنِيّه العشر مؤديا إلى ما يقول عنه "تصفية القضية الفلسطينية"، فما درجة التنازلات المطلوبة لتصفيتها سوى أن يقوم بالمشاركة بنفسه في عدوان عسكري على القطاع المحاصر؟
خلال
العشرية السوداء لتولي السيسي الحكم وقعت أحداث جِسام، فكانت هبّة الأسباط وباب
العمود وتهجير أهالي الشيخ جراح وتكثيف الاستيطان، والتنازل عن جزيرتي تيران
وصنافير، وفوق كل ذلك نقل دول لمقار سفاراتها إلى القدس الشريف، في خطوة أخرى تقضي
على حقوق الفلسطينيين في أرضهم.
توَّج
السيسي سلوكه في عشريته بإعلانه أمام ترامب بـ"دعمه الشديد"
لـ"صفقة القرن"، التي لم تظهر ملامحها الرسمية أبدا لأي من شعوب
المنطقة، لكن كان من بين التسريبات إقامة منطقة عازلة لتهجير فلسطينيين من
غزة إلى
شمال سيناء، وكانت الشكوك تتزايد عندما هُجِّر أهالي شمال سيناء من المناطق
الحدودية مع قطاع غزة بذريعة محاربة داعش، وبعد الإعلان عن فرض السيطرة الأمنية
هناك، رُفضت عودة الأهالي واعتُقل المعترضون على إبقائهم خارج مناطق سكنهم قبل
العملية العسكرية على داعش.
والسؤال
هنا، إذا لم يكن سلوك السيسي على مدار سِنِيّه العشر مؤديا إلى ما يقول عنه
"تصفية القضية الفلسطينية"، فما درجة التنازلات المطلوبة لتصفيتها سوى
أن يقوم بالمشاركة بنفسه في عدوان عسكري على القطاع المحاصر؟
هذا
التاريخ الممتد لعشر سنوات جعل سلوك النظام السياسي في بداية الأزمة محل تساؤل عن
وجود تغيُّر دَفَعَ إلى هذا الموقف "المختلف لا القوي" عما كان يصدر
طوال عشرية السيسي، وكانت الإجابة بوضوح أن الخارجية المصرية والمخابرات العامة
تحركتا وفقا للمواقف الثابتة تاريخيا داخل المؤسستين، وهي المواقف التي قد يكون
هناك خلاف مع بعضها، لكنها في مجملها مواقف وطنية، وثابتة في اعتبار الخطر الرئيسي
لمصر يأتي من الحدود الشمالية التي تقبع فيها دولة نووية شرهة للدماء العربية، ولن
تتردد في استخدام هذا السلاح الفتاك تجاه أي نظام عربي يهدد بقاءها، لهذا تعاملت
الأجهزة الوطنية بقِيَمِها الذاتية في بداية الأزمة مستفيدة من الانكشاف السياسي
والعسكري والاستخباراتي للاحتلال.
استشعرت
الراعية اللا أخلاقية لدولة الاحتلال خطورة الوضع على الكيان الإجرامي المدلل،
فأرسلت عتادا وأموالا لدعمه، فضلا عن زيارات وزيري الخارجية والدفاع الأمريكييْن
ثم رئيسهم إلى الكيان الفاشل في المواجهات الجادة. ويبدو أن الرسائل وصلت واضحة
إلى الموالين لهم في المنطقة، وعلى رأسهم الممسك بالحدود العربية الوحيدة مع
القطاع المحاصر منذ 2007 بقرار إسرائيلي للأسف، دون أي سيادة حقيقية لمصر على
حدودها والمعبر البري بين فلسطين ومصر، واستجاب المولى للرسالة وأمسك بجميع خطوط
الحركة في الملف الفلسطيني.
يتحرك
السيسي داخليا على مستوى واحد فقط، وهو المستوى الاقتصادي، فحملات المقاطعة
الشعبية أصبحت للمرة الأولى مُرحَّبا بها، وغاب الحديث عن أثر المقاطعة على
العاملين المصريين كما كان يحدث من قبل، وأغلب الظن أن السبب في ذلك يرجع إلى
تخفيف عبء الدولار الذي تفاقمت أزمته بصورة مرعبة، وحملات المقاطعة ستُسهم نسبيا
في تخفيف هذا العبء.
أما
المستوى الإعلامي، فليس محسوبا لصالح القضية، فهو الآن داعم للمقاومة بغرض تخفيف
الغضب الشعبي وتنفيس حالة الاحتقان من الموقف الرسمي المخزي، وسيتحول في اللحظة
المناسبة لتلويث الوعي الاجتماعي بغرض التسويق للخطط الأمريكية الإسرائيلية في
المنطقة، والقطاع المحاصر، ولن يمنع هذا الانقلاب في الخطاب الإعلامي، سوى انتصار
المقاومة على الأرض ومنع العدو من تحقيق أي نصر عسكري، سواء باحتلال القطاع أو
العثور على أسراه.
على
المستوى السياسي، يتحرك السيسي بوجهه المألوف، فهو يشارك في حصار الفلسطينيين،
ويرفض إدخال المساعدات إلا بالقدر الذي يسمح به الإسرائيليون، ويرفض خروج المرضى
إلا بقدر ما يُحدَّد له من الجانب المعتدي، وقد أكَّد هذا الموقف وزير الصحة
المصري بتصريحاته الإعلامية لقناة "CNN".
كما كانت تصريحات السيسي أمام مسؤولين أوروبيين مرعبة تجاه حركتي حماس والجهاد، عندما
طرح نقل الفلسطينيين إلى النقب بدلا من سيناء إلى حين الانتهاء من العملية
العسكرية في غزة، وهي تمثل رؤيته تجاه الحركتين بشكل حقيقي، فضلا عن وصفه العمليات
المقاوِمة بـ"الإرهابية"، في معرض حديثه عما إذا انتقل الفلسطينيون إلى
سيناء ومهاجمتهم لإسرائيل منها.
يتحرك السيسي بوجهه المألوف، فهو يشارك في حصار الفلسطينيين، ويرفض إدخال المساعدات إلا بالقدر الذي يسمح به الإسرائيليون، ويرفض خروج المرضى إلا بقدر ما يُحدَّد له من الجانب المعتدي
ما
يُفهم من سلوك السيسي عندما قَبِل ما سُمِّي بـ"صفقة القرن" مقارنة
بالإعلان عن رفض التوطين الآن، أنه قَبِل توطين أعداد محددة من جملة سكان القطاع
في مرحلة سابقة، لا مئات الآلاف كما يُطرح الآن، ويبدو أن التسريبات التي تطرح عن
توطين الفلسطينيين في عدة دول عربية، كانت فكرة ترامب، ومع مفاجأة 7 تشرين الأول/
أكتوبر أصبح الخطاب العدواني سائدا في كيان الاحتلال إلى درجة مطالبة الفلسطينيين
بالانتقال الفوري من القطاع إلى شمال سيناء، وهو ما سيسبب أزمة داخلية مصرية.
ملامح
الأزمة تتمثل في أن اللاجئين مسؤولية الدولة المستضيفة، وزيادة الأعداد زيادة في
العبء، كذلك سيكون السيسي أمام إشكالية حقيقية فيما يتعلق بسلاح المخيمات والهجوم
العسكري ضد الاحتلال، فهل سيقوم بحملات عسكرية لتصفية السلاح الفلسطيني؟ وما الذي
سيترتب على ذلك من الناحية الشعبية سواء في الداخل المصري أو الجمهور العربي
والإسلامي؟ هل ستقبل الأجهزة المصرية الوصول إلى هذه المرحلة بالفعل، ما يعني أن
مصر ستكون منبوذة عربيا إذا قمعت الفلسطينيين أو لم توفر الاحتياجات اليومية لسكان
المخيمات؟ ستكون هناك أسئلة كثيرة مطروحة عند الحديث عن مئات الآلاف من اللاجئين،
بخلاف الحديث عن عدة آلاف يمكن السيطرة عليهم.
ورغم
كل التصورات المرعبة التي قد تؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وإفراغ الأرض من سكانها
الأصليين تماما، سيبقى الأمل معقودا على صمود الشعب الفلسطيني، وتماسك مقاومته
أمام وحشية المحتل، وقوتها أمام الجبناء المستترين وراء السُّحب والهاربين من كل
ساحٍ.