"أكاذيب حقيقة" اسم فيلم، لكن الحقيقة أن نصف الحقيقة أو ربعها كذبة كاملة،
أحيانا هي طرفة.. تقول واحدة من هذه الأكاذيب الحقيقية إن مؤشرات السعادة تشير إلى
أن أسعد البلدان هي السويد، مع أن شعبها أكثر الشعوب إقبالا على الانتحار يأسا من
عسل السعادة! ليس كل الموازين والمعايير صحيحة، وليس كل ما يلمع ذهبا، فالقش يلمع في
الشمس أيضا، وقد تراجع العلماء عن كثير مما أطلقوا عليها اسم حقائق، مثل نهيهم عن
شرب الماء مع الطعام، أما كذبة كورونا، فلا تزال أسبابها ونتائجها مجهولة.
حرص الاحتلال الإسرائيلي على التنفير من المقاومة وحجب
كل فضيلة عنها. إن الدفاع عن الأرض والعرض من الفضائل التي لا يختلف فيها اثنان
ولا ينتطح فيها عنزان، لكنها تسربت رغما عنهم، وأظهرت
الصور أول محتجزة إسرائيلية عجوز أطلقت في صفقة التبادل حرصت على مصافحة المقاتل
القسامي الملثم، وحرصت محتجزة ثانية على التلويح لمحتجزيها مودعة من غير إكراه.
أما مشهد الإفراج الثاني، فكأنه مشهد مأخوذ من فيلم من أفلام الحب والرومانسية، ومن
أبلغ صوره صورة صاحبة العكازة التي تودع المقاتل القسامي بعينين عاشقتين، حتى أمسى
اسمها ريتا، وريتا اسم زوجة محمود درويش الإسرائيلية الشيوعية.
وقد يتذكر المتذكر المتنطع متلازمة ستوكهولم ناسبا المرض
إلى هؤلاء النسوة، والمتلازمة تعريفا هي مجموعة من العلامات والأعراض الطبية
المرتبطة مع بعضها والمتعلقة غالبا بمرض أو اضطراب معين، وقد نشأت في العلوم
النفسية نسبة إلى حادثة في ستوكهولم، عاصمة السويد، عندما سطا مجموعة من اللصوص
على بنك كريديتبانكين هناك في عام 1973، واتخذوا بعضا من موظفي البنك رهائن لمدة
ستة أيام، خلال تلك الفترة بدأ الرهائن يرتبطون عاطفيا مع الجناة، وقاموا بالدفاع
عنهم بعد إطلاق سراحهم.
وقيل في تفسيرها، والنظريات النفسية آراء تصيب أو تخطئ،
إنَّ الضحية تظنُّ عدم الإساءة من قبل المعتدي إحسانا ورحمة. وقد سجلت ملفات
الشرطة وجود متلازمة ستوكهولم لدى 8 في المئة من حالات الرهائن. فهل ستنشأ متلازمة
اسمها متلازمة
غزة، وقد نفر لنصرتها الملايين في بقاع العالم، خاصة في البلدان
التي عانت من الاحتلال والظلم مثل أيرلندا ونيوزلندا وكندا وأستراليا التي انقرضت
شعوبها الأصلية؟ بل إن المظاهرات المناصرة لأهل غزة قامت حتى في أشد المدن عداء
للمسلمين والعرب!
إن متلازمة ستوكهولم ليست اضطرابا، بل هي علامة من
علامات الصحة النفسية، وسمة من سمات سلامة الفطرة البشرية، عبّر عنها الشعراء،
أمثال المتبني في قوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإذا
أنت أكرمت اللئيم تمردا
وفي قوله:
كلّ امرئٍ يُولي الجميلَ مُحبَّبٌ وكلُّ مكانٍ يُنبِت العزَّ طيّبُ،
ويعضده المثل العربي: صنائع المعروف تقي مصارع السوء.
عامل لصوص البنك رهائنهم في ستوكهولم برفق
ولين، فملكوا الكرماء منهم أو أن الرهائن عطفوا عليهم بسبب ظلم الدولة وكثرة
الضرائب والقوانين. من الجدير بالذكر أنَّ
البطل النمطي في الغرب غالبا ما يكون مجرما كريما، أو مطلوبا محسنا، مثال ذلك
روبين هود، وزورو المقنّع، وجان فالجان، وحتى يهودا الإسخريوطي، وجان باتسيت غرنوي؛
بطل رواية العطر القاتل الذي يتحول إلى قديس.. البطل الغربي هو المجرم الضحية، أو
المجرم الثائر.
قُدّس البطل الضحية في الغرب، وأُلّه وعُبد، كما في حالة
المسيح عليه السلام. وغالبا ما يجمع الضحية بين فضيلتي القوة والحلم، التمرد
والإحسان، ومثاله الأشهر هو المسيح المصلوب، الذي جمع بين قوة الإله وضعف البشر،
وقد جمع الأنبياء بين الحالين.
قد يكون أول المصابين بمتلازمة ستوكهولم هو قابيل، الذي
قتل أخاه هابيل، فندم، ودفنه، وكان دفنه ضحيته هو اعتذاره لها واستغفاره لجرمه،
وأشد معاناة في غزة بعد الحرمان من الماء والغداء والدواء هو منع الناس من دفن
موتاهم، وقد صرّح قادة القسام أن سبب قبولهم الهدنة هو كثرة الجثث تحت الأنقاض،
وواجب إكرامها.
قرأنا في أخبار النعمان بن المنذر مشهدا من متلازمة
ستوكهولم، تقول المرويات: إنه كان له يومان؛ يوم بؤس ويوم نعيم، فصادف الملك طائيا
في يوم بؤسه، فأراد قتله، فطلب الطائي مهلة يودع أولاده، ويوصي بهم أهل الحي،
فأشفق عليه ورقَّ له، على أن يضمنه أحد، فضمنه نديم الملك شريك بن عدي بن شرحبيل،
وعاد الطائي في آخر المدة، فعجب الملك من وفاء الطائي ومن كرم شريك بن عدي، وكان
أن أبطل عادته تلك ودخل دين الطائي وهو النصرانية.
أما تجليات المتلازمة في الإسلام فكثيرة، وكان أبو سفيان
يقول: نقطع محمدا ويصلنا، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يصل فقراء مكة، ودخل
مشركون في الإسلام بمتلازمة ستوكهولم، منهم أبو عزيز بن عمير -وهو ممن أُسر في
بدر، وهو أخو مصعب بن عمير- يقول: "كنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا
قدَّموا غداءهم وعشاءهم، أكلوا التمر وأطعموني البُرَّ (الخبز) لوصية رسول الله
إياهم بنا". وكان لهذا الأمر الأثر الكبير في نفسية أبي عزيز الذي ما إن
أُطلق حتى أعلن إسلامه.
وكان أبو العاص بن الربيع أيضا في أسارى بدر، وأسلم بعد
ذلك، وكان زوجا لبنت رسول الله السيدة زينب رضي الله عنها، يقول: "كنت في رهط
من الأنصار، جزاهم الله خيرا، كنا إذا تعشَّينا أو تغدَّينا آثروني بالخبز وأكلوا
التمر، والخبز معهم قليل والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها
إليَّ". وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة -وهو أخو خالد بن الوليد- من أسارى
بدر، كان يقول مثل ذلك: "وكانوا يحملوننا -على دابة- ويمشون"، أي إذا
رأوا منهم جريحا أو مريضا أو متعبا، حملوه رفقا به. وهو ما رأيناه في حمل المقاتل
القسامي العجوز المحجوزة بيديه.
وشهيرة قصة مالك بن دينار، وكان دخل بيته لص فما وجَد
شيئا، فجاء ليخرجَ، فناداه مالك: سلام عليكم، فقال: وعليكم السلام، قال: ما حصَل
لكم شيء من الدنيا، فترغَب في شيءٍ من الآخرة، قال: نعم، قال: توضَّأ من هذا
المِرْكَن وصَلِّ ركعتين، واستغفرِ الله، ففعَل، ثم قال: يا سيِّدي، أجْلس إلى
الصبح؟ قال: فلمَّا خرَج مالك إلى المسجد، قال أصحابه: مَن هذا معك؟ قال: جاء
يَسْرقنا فسرقناه.
أما في السينما، فمتلازمة ستوكهولم كثيرة في قصصها
وحبكاتها، نجد حكاية منها في الفيلم المصري "الحدق يفهم"، تمثيل محمود
عبد العزيز المقتبس من فيلم "مدافع سيباستيان"، تمثيل أنطوني كوين، أما
فيلم "الإرهابي" لعادل إمام فهو قصة مقلوبة، وفي فيلم شهير لآل باتشينو
اسمه "عصر يوم قائظ"، وفيلم "المفاوض" لكيفن سبايسي، وفيلم "الرقص
مع الذئاب"، ويروي قصة أمريكي أبيض ينضم إلى الهنود الأسرى ويصير منهم.
العطف على الضحية ومناصرة المظلوم فطرة بشرية، وليست
مرضا نفسيا، وهذا دأب الغرب حتى في علوم النفس، وعلوم الجريمة، إن قام أحدهم بقتل
مجموعة من الناس نُسب إليه المرض النفسي والاختلال العقلي، أما إن همّ أحد
الوافدين المسلمين أو العرب بدس يده في جيبه أو بتقبيل طفله؛ اتهم بمحاولة القتل أو
الانحراف الجنسي.
أغلب الظن أن "طوفان الأقصى" طوفان كاشف، وإن
كفاح شعب غزة خصوصا وفلسطين عموما فطرة إنسانية، وسيكشف أن القتلة قتلوا شعوبا
وادَّارَأْوا فِيهَا، وإن اللَّه مُخْرِجٌ مَا كُانوا يكْتُمُونَ.
twitter.com/OmarImaromar