بعد أن كانت
الولايات المتحدة تعتمد على قواعدها العسكرية لبسط نفوذها على العالم، في مختلف أرجائه، في الشرق والجنوب خاصة، وبعد أن لفظت حركات التحرر التي ظهرت على هامش الحرب الباردة معظم هذه القواعد العسكرية من بلادها، صارت أميركا تعتمد على ما يمكن وصفه بالدول العميلة وهي غير الدول الحليفة، ذلك أن الدول العميلة لها وظيفة محددة، وهي صد إمكانية أو احتمال دولة عظمى عن منافسة أو تهديد النفوذ الأميركي الخارجي، أو الحفاظ على ذلك النفوذ وتلك السيطرة من أي تهديد في المستقبل.
وفي هذا السياق، نحاول أن نستعرض ما آلت إليه أحوال العلاقة بين نماذج ثلاثة من الدول التي تعتبر مرتبطة تماماً بالولايات المتحدة، أو حتى أنها تقوم بمهمة رئيسة من أجلها، وليس من أجل شعبها أو مستقبلها أو حتى كيانها، وهذه الدول الثلاث هي: تايوان، أوكرانيا، وإسرائيل. ورغم أن الولايات المتحدة جربت مثل هذا النموذج خلال الحرب الباردة، ورغم أن بعض النماذج التي صنعتها قد نجح نسبياً وبعضها قد فشل تماماً، إلا أن الأهم هو أنها لم تتعلم الدرس، وأنها لم تدرك بعد أن عصرها الإمبريالي قد ولى، وأن تلك «الدول» التي ربطتها معها بحبل سري، قد صارت - بدلاً من أن تكون عوناً أو حتى عيناً لها - عبئاً عليها، بأكثر من معنى، اقتصادي، أمني، سياسي، وحتى شعبي وأخلاقي.
بعد انقلابات عدة ضد الأنظمة الشيوعية التي ظهرت في أميركا الجنوبية، نجحت أميركا في اغتيال وإسقاط نظام سلفادور الليندي في تشيلي، لكنها فشلت طوال عقود طويلة في إسقاط نظام فيدل كاسترو في كوبا، كذلك فشلت في شرق أوروبا إلى أن ظهر ليخ فاليسا زعيم نقابة التضامن البولندية، والذي تولى رئاسة بولندا بين عامَي 1990 - 1995 بعد أن أسقط نظامها الشيوعي، ما فتح الأبواب لسقوط كل الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا ثم في الاتحاد السوفياتي نفسه، والى تفكك الاتحاد السوفياتي واتحادات الدول الشيوعية، في يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، وهذا ما شجع الولايات المتحدة، لاحقاً على الاعتقاد بأن زعامتها الأحادية للعالم، ستبقى إلى ما شاء الله.
وحقيقة الأمر، أن بعض النماذج من الدول التي تتبع أميركا باعتبارها زعيمة العالم الرأسمالي، وذلك إبان الحرب الباردة، كانت عبارة عن انقسامات لقوميات ما بين قطبَي عالم الحرب الباردة، هنا يبرز نموذج كوريا، الشمالية والجنوبية، والذي ما زال قائماً، ونموذج ألمانيا الشرقية والغربية الذي انهار مع انتهاء الحرب الباردة، وكان الجنوب الكوري والغرب الألماني اختارا النمط الرأسمالي، مقابل الدولة الشيوعية التي اختارها شقاهما الشمالي والشرقي، وكان هذا حتى حال اليمن العربي الذي كان منقسماً ما بين دولتَي الجنوب والشمال، وهكذا يمكن القول: إن هناك دولاً حليفة للولايات المتحدة، ليس على قاعدة اختيار نموذج الحياة الرأسمالي فقط، وإنما على قاعدة أمنية عسكرية، في مواجهة جار مختلف، أو أنهما في حالة حرب وصراع، يدفع الدول الحليفة للولايات المتحدة، لأن ترتمي في أحضانها تماماً، نظراً لكونها حاميتها العسكرية.
اليابان وألمانيا كانتا عدوتين للغرب الرأسمالي، رغم أنهما لم تختارا النظام الشيوعي، بل كانت الحرب بينهما وبين الغرب، على أساس التنافس في الهيمنة الإمبريالية، فاليابان كانت عملياً تحتل الصين، وألمانيا احتلت معظم الشرق الأوروبي بما في ذلك فرنسا، لكنهما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمتهما، منعتا من التسلح، فركزتا جهدهما على التمنية الاقتصادية، وهكذا تحولتا إلى عملاقين اقتصاديين، يتمتعان بدرجة ما من الاستقلال عن التبعية الأميركية الكاملة، فيما كانت كوريا الجنوبية، أكثر منهما نسبياً فيما يخص التبعية لأميركا، كونها رغم قوتها الاقتصادية، فإنها لم تجمع بين القوة العسكرية والاقتصادية، لذلك بقيت بحاجة إلى الحماية الأميركية في مواجهة قوة الشمال الكوري العسكرية.
ولأن الحماية الأميركية العسكرية ليست مجانية، فإن مقابلها يكون في الحفاظ على النفوذ الأميركي حتى في العلاقة مع أوروبا الغربية، أو أوروبا كلها بعد انتهاء الحرب الباردة، لذا بقي بعض الجيوب المتمردة على نظام أميركا العالمي، التي تعاجلها أو تستمر في التعامل معها وفق منطق «التعايش» إلى حين، كما يتعايش بعض مرضى السكر أو الضغط مثلاً، وهذا ينطبق على نموذج الكوريتين، أو فنزويلا وكوبا في أميركا الجنوبية، لكنه ليس كذلك فيما يخص تايوان وإسرائيل وأخيراً أوكرانيا.
العلاقة مع إسرائيل بقيت رغم أن إسرائيل أقيمت كقاعدة عسكرية متقدمة للغرب الإمبريالي للحفاظ على نفوذه في الشرق الأوسط النفطي، برعاية بريطانيا زعيمة ذلك الغرب ما بين الحربين العالميتين أولاً، وأميركا زعيمته منذ ما بعد الحرب الثانية، رغم توالي العصور، منذ الحرب العالمية الأولى حتى اليوم، وذلك يعود إلى أهمية الشرق الأوسط من جهة، وإلى عقدة الغرب فيما يخص المحرقة، فيما ازدادت أهمية تايوان، والتي كانت في طريقها للالتحاق بالصين، كما حدث مع هونغ كونغ من قبل، لولا تعاظم قوة الصين الاقتصادية، ومنافستها لأميركا نفسها في هذا المجال جامعة ما بين القوتين الاقتصادية والعسكرية، وانفتاح أبواب العالم أمام بضائعها أولاً ثم أمام مشاريعها ثانياً.
أما أوكرانيا فقد تم «اختراعها» كدولة عميلة، حديثاً، وذلك بعد أن تولى جو بايدن إدارة البيت الأبيض، لأنه اختار سياسة تحطيم الطموح الروسي بالخروج عن طوع أميركا، وفي الوقت الذي حاول فيه تحييد إيران، للاستفراد بالصين، زج بأوكرانيا في أتون حرب استنزاف لروسيا، لكن وحيث لم يسقط نظام بوتين، فإن استمرار الحرب في أوكرانيا منوط بأميركا، ذلك أن روسيا أخذت من أوكرانيا ما تريد، أي شرقها وجنوبها وضمته لها، وفقدت أوكرانيا معظم قوتها العسكرية وتعرضت مدنها للدمار ولتشريد الملايين من شعبها.
تحولت أوكرانيا بسبب الفشل في إلحاق الهزيمة بروسيا، إلى عبء مالي وسياسي على أميركا، فمن أصل نحو مائة مليار دولار منحت لأوكرانيا خلال الحرب، كان نصف هذا المبلغ من أميركا وحدها، وقد ظهر ذلك جلياً في موافقة الكونغرس على 46.6 مليار دولار من المساعدات العسكرية المباشرة لأوكرانيا، أما تايوان، فقد بدأت ميزانية الدفاع الأميركية تخصص مبلغاً صريحاً لتايوان، حيث أقر الكونغرس الأميركي في أواخر العام الماضي أن تتضمن ميزانية الدفاع مبلغ 10 مليارات دولار كمساعدات عسكرية ومبيعات أسلحة لتايوان.
أما الدعم الأميركي المالي والعسكري لإسرائيل فليس له مثيل، حيث تقدر المساعدات لإسرائيل بـ 55% من مجمل المساعدات الأميركية الخارجية، وتشير التقديرات إلى أن أميركا منحت إسرائيل منذ تأسيسها في العام 1948 نحو 270 مليار دولار، وأنها أقرت مساعدات لها خلال عشر سنوات ما بين عامَي 2019 - 2028 بقيمة 28 مليار دولار، وهذه المساعدات تشكل 18% من الميزانية العسكرية الإسرائيلية.
ولا يقتصر الأمر على منح أميركا إسرائيل القسط السنوي المتمثل بالتزامها خلال العشر سنوات المشار إليه، والذي بلغ العام 2020 (3.8) مليار دولار، فقد منحت أميركا إسرائيل خمسة مليارات أخرى في ذلك العام لتوطين المهاجرين الجدد في إسرائيل.
واليوم وبعد وقوع الحرب السادسة على قطاع
غزة، وبعد تقديم أميركا كل ما احتاجته إسرائيل من ذخائر، عبر جسر جوي احتوى على مساعدات عسكرية تقدر بـ 8 مليارات دولار ألقتها على قطاع غزة، بما يعادل ثلاث قنابل نووية من مثل تلك التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين من قبل أميركا في الحرب العالمية الثانية، وذلك حسب تقديرات المراقبين، إضافة إلى كل ذلك، فإن إسرائيل طلبت مساعدات طارئة بقيمة 10 مليارات دولار، وكل هذه الأموال تصرف للإبقاء على النفوذ الإمبريالي الأميركي الذي ينهب ويسرق مقدرات شعوب العالم، وإضافة إلى ما صرفته أميركا في السنوات الأخيرة بالعراق وأفغانستان للغاية ذاتها، فإن كل تلك المبالغ كان يمكنها أن تمنح البشرية ما يسد رمق ملايين الجوعى، وما يمنح البشر السعادة والحياة الأفضل.
(
الأيام الفلسطينية)