لو
أردنا تشبيه الحضور "البورقيبي" بعد الثورة
التونسية وما بشّرت به من
قطيعة مع الزمن الاستبدادي وثقافة عبادة الزعيم، فإننا لن نجد أفضل من الحضور
"الكمالي" (نسبة إلى كمال أتاتورك)، حتى بعد هيمنة حزب العدالة والتنمية
وأيديولوجيته الإسلامية. فرغم أن الثورة التونسية قد قامت على النظام الريعي-الجهوي-الزبوني
التابع والمتخلف الذي أرسته الدولة
الوطنية (الدولة-الأمة)، فإن البورقيبية قد ظلت
هي "الإطار المرجعي" أو "الخطاب الكبير" الذي تكتسب سائر
الخطابات المتنازعة شرعيتها بمقدار الاقتراب منه وتفقدها عند الابتعاد عنه. وقد
أدّى ذلك -كما هو الشأن بالنسبة للكمالية في تركيا- إلى جعل
"البورقيبية" وخياراتها الكبرى ضربا من "المقدّس السياسي"، الذي لا يجوز المساس به أو جعله موضوعا للنقاش العمومي.
وقد
أدت هيمنة بعض الرهانات السياقية المرتبطة بالثورة وبانتظارات الناخبين إلى إخراج
"
التحرير الوطني" من دائرة السجال العام؛ واستبداله بعرض سياسي يتمحور
أساسا حول "الإصلاح" و"الانتقال الديمقراطي" و"استمرارية
الدولة"، ولم يعد "التحرير الوطني" إلى واجهة المشهد إلا بعد 25 تموز/ يوليو 2021 وإعادة هندسة الحقل السياسي؛ عبر التعامد الوظيفي بين الرئيس ومشروعه، وبين النواة
الصلبة للمنظومة القديمة وحلفائها الإقليميين (خاصة محور الثورات المضادة وفرنسا)،
وهو ما يجعلنا أمام خطاب سياسي متناقض ذاتيا (أي متناقض من جهة علاقة الدعوى
بالممارسة أو المحصول)، الأمر الذي يستوجب تفكيك السردية الرئاسية المتعلقة بـ"التحرير
الوطني"، وبيان وجوه إمكانها أو استحالتها، بعيدا عن عنتريات الأنصار ومزايدات
الخصوم.
إن
طرح مشروع "التحرير الوطني" يستوجب بالضرورة وعيا بوجود
"استعمار" ما زال يُكبّل الدولة التونسية رغم استقلالها الصوري عن فرنسا
منذ أواسط القرن الماضي، وهو ما يعني -على الأقل في المستوى النظري- أن مشروع
التحرير الوطني الآن وهنا، سيكون استكمالا لتحريرٍ منقوص في المناحي السياسية
والثقافية والاقتصادية والتعليمية والديبلوماسية.
لقد
تحدث الرئيس أكثر من مرة عن "حرب تحرير وطني"، هدفها فرض سيادة
الدولة كاملة على قراراتها الداخلية والخارجية، ومنع "تفجير الدولة من
الداخل لتحويل البلاد إلى مجموعة من المقاطعات". ولفهم معنى
"التحرير الوطني" عند الرئيس وتحديد الأطراف الذين يعدهم جزءا من
منظومة "الاستعمار الجديد" أو من مشروع "هدم الدولة"، ينبغي
أن ننطلق من سياقات تلك التصريحات ومن القرارات "السيادية" التي اتخذها
الرئيس أو باركها لتجسيد هذا التوجه الرسمي، كما ينبغي علينا تدبر "اللامفكر
فيه" في هذا المشروع، أي تدبّر ذلك البياض أو تلك الفراغات التي تحكم هذا
المشروع، وتحدّد بصورة كبيرة مآلاته الواقعية.
لو
أردنا أن نحدد الإطار المرجعي العام لمشروع التحرير الوطني عند الرئيس، فإننا سنجده
في "تصحيح المسار"، أو بالأحرى في "التأسيس الثوري الجديد"، باعتباره بديلا شاملا هدفه إلغاء الحاجة للديمقراطية التمثيلية وللنظام البرلماني
المعدل، بل هدفه إلغاء الحاجة إلى مختلف الأجسام الوسيطة (خاصة الأحزاب السياسية)، وبناء نظام شمولي لا يعترف بالانقسام الاجتماعي الموجب لتعدد الوسائط وشرعيتها.
يصادر
"التأسيس الثوري الجديد" على وجود تماثل أو تماه بين إرادة الشعب
وإرادة "الزعيم" وسياسات النظام، ولذلك فإن كل معارضة هي بالضرورة
معارضة "لا وطنية"، وكل مطالبة بـ"لامركزية" القرار أو رفض
للنظام الرئاسوي، هي في جوهرها "تفجير للدولة من الداخل"؛ فغلق مقرات
حركة النهضة واستهداف قياداتها التاريخية، هو جزء من مشروع التحرير الوطني، وكذلك
الشأن عند رفض أي حوار وطني أو تشاركية في إدارة البلاد، ولا يختلف الأمر أيضا
عندما يهاجم الرئيس "الخط التحريري " للإعلام العمومي، ويتهمه بـ"الخضوع
للقوى المضادة للحرية ولمعركة التحرير الوطني"؛ لأنه ارتكب خطيئة عدم مساندة
الرئيس دون أي قيد أو شرط.
إنّ
"معركة التحرير الوطني" في السردية الرئاسية، لا تختلف في شيء عن باقي
عناصر تلك السردية من جهة ارتباطها ببعد "إيماني" لا علاقة له بأي نسق
حجاجي عقلاني أو بأي إنجاز واقعي. فعلى الشعب أن يؤمن بأن إلغاء الأحزاب واستهداف
المعارضة ومركزة السلطة في نظام رئاسوي (لا يمكن محاسبة الرئيس فيه)، هو جزء من
معركة التحرير، كما كان عليه من قبل أن يؤمن بأن الصادقين (أي أنصار الرئيس) هم من
يُجسّدون الإرادة الشعبية مهما كان عددهم في كل المناسبات التي عادت فيها السلطة
للشعب (الاستشارة الوطنية، الاستفتاء، الانتخابات البرلمانية)، وأن يؤمن بأن تدهور
الأوضاع الاقتصادية لا يعود إلى سوء إدارة النظام الحالي للأزمة، وعجزه عن التخلص
من منظومة "الاستعمار الداخلي"، و"أساطير النمط المجتمعي
التونسي" ورعاتها من متطرفي اللائكية الفرنسية "المُتونَسة"، بل
يعود إلى "الغرف المظلمة" التي تُعطّل مشروع "التحرير".
لا يعود سبب حكمنا على معركة التحرير الرئاسية بأنها معركة لا وطنية إلى استهدافها لخصومه السياسيين ولا يعود أيضا إلى هلامية مشروعه السياسي، وانتهازية أغلب المدافعين عنه، بل يعود أساسا إلى اللامفكر فيه طي هذا المشروع. فكيف يمكن خوض "حرب تحرير وطنية" بجنود (سياسيين، إعلاميين، مثقفين، إداريين.. إلخ)، هم في أغلبهم "عيال" منظومة الاستعمار الداخلي وصنيعتها وحرّاس مصالحها المادية والرمزية؟
رغم
أن الرئيس لم يتحدث يوما عن "دكتاتورية وطنية" تحتاجها البلاد لتأسيس
ديمقراطية حقيقية لا تكون بالضرورة ديمقراطية تمثيلية على النمط الليبرالي، فإن
نظام الحكم الذي يشتغل بالأوامر والمراسيم الرئاسية التي لا تقبل الطعن أو الإلغاء
(بحكم حالة الاستثناء من جهة، وبحكم غياب أي جهة رقابية مثل المحكمة الدستورية)، قد
يغري باعتبار النظام نظاما دكتاتوريا، وإن لم يُسلّم أصحاب هذا الرأي له بكونه
"وطنيا". ولكننا لا نميل إلى هذا التوصيف لسبب بسيط ألمحنا إليه في
مقدمة المقال، وهو طبيعة العلاقة التعامدية بين الرئيس والنواة الصلبة لمنظومة
الاستعمار الداخلي، فنحن نعد الرئيس ومشروعه مجرد واجهة لتلك النواة (المركّب
المالي-الأمني-الجهوي)، وهو ما يعني أن السلطة لا تتمركز بين يديه واقعيا مهما حاولت
المنظومة إيهامنا بخلاف ذلك. فالرئيس ليس دكتاتورا، ولكنّ "معركة التحرير
الوطني" التي يخوضها ليست معركة "وطنية"، مهما كان صدق نواياه.
لا
يعود سبب حكمنا على معركة التحرير الرئاسية بأنها معركة لا وطنية إلى استهدافها
لخصومه السياسيين، ولا يعود أيضا إلى هلامية مشروعه السياسي، وانتهازية أغلب
المدافعين عنه، بل يعود أساسا إلى اللامفكر فيه طي هذا المشروع. فكيف يمكن خوض
"حرب تحرير وطنية" بجنود (سياسيين، إعلاميين، مثقفين، إداريين.. إلخ)، هم
في أغلبهم "عيال" منظومة الاستعمار الداخلي وصنيعتها وحرّاس مصالحها
المادية والرمزية؟ وكيف يمكن أن توكل مهمة التحرير الوطني لأصحاب "القضايا
الصغرى"، الذين لا يوجد في سيرهم الذاتية أي انحياز للقضايا الكبرى، أو معارضة
لمنظومة الاستعمار الداخلي؟ وهل يستقيم الحديث عن معركة تحرير وطني مع المحافظة
على الانتماء الفرنكفوني لتونس، وتجذير العلاقات الاستراتيجية مع محور التطبيع
(محور الثورات المضادة)؟ وما قيمة معركة التحرير عندما لا تتوجه إلى العدو الأساسي
(منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها في الخارج)، وتستبدل هذا العدو الوجودي بأعداء
سياسيين، يعرف الجميع أنهم لا يتحكمون في آليات توزيع السلطة والثروة وفي تأبيد
وضعية التخلف والتبعية؟
معركة التحرير الوطني بالصورة التي تدار بها، هي "مهمة مستحيلة" أو هي مجرد مجاز يُضاف إلى جملة الاستعارات المؤسسة للدولة-الأمة، وللخطابات السلطوية التي هيمنت عليها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. وإذا كان أغلب التونسيين لا ينكرون وجود استعمار غير مباشر لبلدهم الذي لا يتمتع واقعيا بمقومات السيادة، فإن بناء تلك المقوّمات -في نظرنا- لا يمكن أن يحصل دون مواجهة السبب الأساسي في فقدانها منظومة الاستعمار الداخلي.
ختاما،
فإن معركة التحرير الوطني بالصورة التي تدار بها، هي "مهمة مستحيلة" أو
هي مجرد مجاز يُضاف إلى جملة الاستعارات المؤسسة للدولة-الأمة، وللخطابات السلطوية
التي هيمنت عليها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. وإذا كان أغلب التونسيين لا
ينكرون وجود استعمار غير مباشر لبلدهم الذي لا يتمتع واقعيا بمقومات السيادة، فإن
بناء تلك المقوّمات -في نظرنا- لا يمكن أن يحصل دون مواجهة السبب الأساسي في
فقدانها منظومة الاستعمار الداخلي.
وإذا
ما سلّمنا للرئيس بصدقه في حرب التحرير الوطني، فإننا لا يمكن أن نوافقه في تحديد
الخصم الحقيقي للفوز بهذه الحرب. فتغيير الدستور وتعديل النظام السياسي واعتماد
المراسيم والأوامر وإلغاء الحاجة للأجسام الوسيطة (خاصة الأحزاب السياسية)، كل
ذلك لا يعني أن الرئيس يخوض "حرب التحرير الوطني" في مكانها الطبيعي وضد
خصمها الحقيقي، ولا يعني بالتبعية أنه سينجح فيها؛ فحرب "التحرير" لا
يمكن أن تنجح إلا ببناء "كتلة تاريخية"، هدفها محاربة منظومة الاستعمار
الداخلي ومراجعة كل "الأساطير" المؤسسة للدولة-الأمة، دون شيطنةٍ للتاريخ
ورموزه ولا أمثَلة لهم، ودون احتكار للقرار السيادي أو شخصنة له بصورة تقرّبه من
الدائرة الإيمانية، وتبعده عن الجدل العمومي العقلاني.
twitter.com/adel_arabi21