لا شك أن "طوفان الأقصى" يُعتبر زلزالا بكل المعاني
الاستراتيجية والعسكرية والسياسية والإعلامية بل والحضارية والأخلاقية.. كما لا شك
أنه لم يكن موجها للكيان الصهيوني فحسب، وإنما لكل حلفائه وشركائه الذين فهموا
الرسالة منذ اللحظات الأولى، وشمروا عن كل سواعدهم ليقفوا خلفه بشكل سافر وغير
مسبوق، حيث يمثل بقاءه أهم ركيزة لمصالحهم الاستراتيجية في المنطقة، والتي تمثل بدورها
أحد ركائز مصالحهم العالمية، وذلك لارتباط تنفذهم في منطقتنا بصراعهم على سقف
العالم وقيادة النظام الدولي.. كما شمر آخرون وقاموا بوظيفتهم في الخفاء، لأنهم
أدركوا أن هزيمة الكيان الصهيوني هي هزيمة لنظم حكمهم، التي ربطت نفسها بشكل وثيق
بالمشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة.
ومن خلال هذا المدخل وفي هذا السياق يمكن أن نرصد
ملامح ومظاهر عديدة لهزيمة
إسرائيل وحلفائها، والتي أهمها -وهو ما طغى على المشهد
بشكل سافر وغطى على كثير من مظاهر وملامح الهزيمة- تعرض نظرية الأمن الإسرائيلي
للانكشاف الهائل، بما لم يحدث من قبل على مدى عقود الصراع، وهو ما جعل الدولة
اليهودية بكل مكوناتها وأهدافها في مهب الريح، وأعاد المشروع الصهيوني إلى بداياته
الأولى، حيث الحاجة إلى إثبات الوجود والهيبة، وتأكيد القدرة على حماية المهاجرين
في مواجهة الهجرات العكسية، التي أصبحت اليوم من أهم كوارث المشروع، فضلا عن
المخيمات التي أصبحت مأوى المستوطنين وقطاعات من السكان، بعد أن كانت المخيمات
حكرا على
الفلسطينيين منذ ١٩٤٨
يمكن أن نرصد ملامح ومظاهر عديدة لهزيمة إسرائيل وحلفائها، والتي أهمها -وهو ما طغى على المشهد بشكل سافر وغطى على كثير من مظاهر وملامح الهزيمة- تعرض نظرية الأمن الإسرائيلي للانكشاف الهائل، بما لم يحدث من قبل على مدى عقود الصراع، وهو ما جعل الدولة اليهودية بكل مكوناتها وأهدافها في مهب الريح، وأعاد المشروع الصهيوني إلى بداياته الأولى، حيث الحاجة إلى إثبات الوجود والهيبة، وتأكيد القدرة على حماية المهاجرين في مواجهة الهجرات العكسية
كما أن السقوط في
استنزاف معارك
المقاومة داخل المدن كان مظهرا آخر من مظاهر الفشل أو الهزيمة،
وخاصة منذ التوغل البري الذي لم تنج منها القوى الكبرى بما في ذلك أمريكا في
أفغانستان والعراق، حيث مُنيت فيهما بهزيمة كبرى واضطرت للانسحاب في نهاية المطاف..
كما لا يخفى ذلك الانهيار الذي أصاب سمعة "واحة الديمقراطية" وأسطورة
"الجيش الأخلاقي"!! والتي كانوا يسوقون لها في إطار تكريس الزعامة
الإسرائيلية في المنطقة، وتبرير قيادتها للمستبدين العرب، وتسويغ دعمها أمام
الشعوب الغربية.
واضطر قادة إسرائيل -في ضوء فقدان الثقة بالنفس والشعور بالضعف- للإعلان بأنهم
يدافعون عن الحضارة الغربية، وذلك للتأكيد على الوقوف في خندق الغرب والاصطفاف معه،
والتذكير بحاجة الغرب لهم، وهو ما يجسد لحظة الخوف من انفضاض الحلفاء عنهم، أو
تركهم يواجهون مصيرهم وحدهم.. فضلا عن السقوط الأخلاقي حيث اضطر الكيان الصهيوني المدعوم بأحدث الأسلحة الأمريكية
وأفتكها للاستعانة بالمرتزقة، وذلك لتغطية الخسائر الكبيرة في قواته، إضافة للسقوط
الحضاري حيث اللجوء لنصوص دينية تدعو للإبادة الجماعية (سفر أشعيا)!
كما لم يعد خافيا أن
عنصرية الكيان الصهيوني -المجرّمة وفق القانون الدولي- قد فُضحت هذه المرة كما لم
تُفضح من قبل، كما باتت تتعرض لحصار شعبي عالمي يجعل مصير المشروع كله قريبا من
مصير نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو ما يحتاج لتصعيد المواجهة حتى نهاية
الشوط.
وكذلك ارتباك مراكز
الدعم الغربي الرئيسة وعودة هاجس العداء للسامية، بل والصهيونية بصورة مزرية كما
رأينا في الولايات المتحدة وفرنسا.. كما تم التفريط في علمانية الدولة التي يقدسها بعضهم مثل الفرنسيين
حيث اضطرّوا بشكل رسمي -في ضوء الذهول الذي أصاب الجميع- لإضاءة الشموع اليهودية مجاملة
لليهود وفي ذات الوقت تماهيا مع الأمريكان!
واهتزت ثقة العالم
بالقيم الغربية التي يزعمون منذ عدة قرون أنها قيم كونية، حيث ثبت بالقطع أنها قيم
ذاتية، وأنها تطبق بشكل انتقائي، كما أنها تعبر عن ازدواجية مفضوحة، فلا يتم
تفعيلها إلا من خلال المصالح الغربية.. كما كشفت عن زيف الالتزام الأمريكي والغربي
بتلك القيم أمام العالم الخارجي، بل وأمام شعوبهم.. وهو ما ظهر بشكل صارخ أيضا من
خلال المفارقات بين الحرب الأوكرانية والحرب على
غزة! فكل ما أنكروه على روسيا
فعلوا أكثر منه، كما لا مقارنة بين أعداد الضحايا المدنيين خلال شهرين في غزة بأعداد
الضحايا في أوكرانيا في عامين!
كما أظهرت صدمة
"طوفان الأقصى" ضعف وهشاشة القيادة في الغرب وفي إسرائيل، مع الضعف
الواضح في "بايدن" و"ماكرون" فضلا عن مجموعة المجانين ومجرمي
الحرب الذين يحكمون إسرائيل!
وانكشفت حقيقة "مجلس
الأمن" والنظام الدولي الذي يعبر عنه، والذي لا يمكنه بحال أن يعبر عن مصالح
العالم ولا سيما الشعوب الحرة، إذ بينما تحتكر خمس دول فقط "حق الفيتو"
فإن باقي شعوب العالم تقف متفرجة حتى لو تعرضت مصالحها للخطر، وخاصة وقد رأينا
الولايات المتحدة تستخدمه في مواجهة 13 عضوا بمجلس الأمن، برغم أنه جاء على غير
رغبة 150 دولة من أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما يعد هذا الاستخدام هو
الخامس والأربعين لصالح إسرائيل على مدى عقود الصراع السبعة.
لقد ظهر للعالم كيف
أن أمريكا والغرب ينحازان لإسرائيل ولمصالحهما ضد كل القوانين الدولية والقانون
الدولي الإنساني، وهو ما يضعهما في حرج بالغ أمام القانون الذي طالما استخدموه في
محاصرة خصومهما.. ومن المضحكات التي رسمت صورة كاريكاتيرية للقانون الدولي: أن
أمريكا والغرب لم يجدا مبررا لاستمرار دعمهما للعدوان الإسرائيلي سوى "حق
الدفاع عن النفس"، بينما هو في حقيقته حق للشعوب حصرا في مواجهة الاحتلال!
لقد أبرز الطوفان
تناقضات العلاقة بين أمريكا إسرائيل، حيث يريد كل منهما أن يوظف الآخر لصالحه في
ضوء الصراع الجاري فنتنياهو يريد الإفلات من السجن وبايدن لا يريد الهزيمة في
الانتخابات، كما أبرز بعض التصدعات في الجسد الأوروبي على وقع الانسياق الأعمى
للأمريكي، كما رأينا في تميّز موقف إسبانيا، وبلجيكا، وأيرلندا، واسكتلندا عن
الموقف الأوروبي.
كما وضع الطوفان
العديد من الحكومات العربية والمكونات السياسية والثقافية في مجتمعاتنا ولا سيما صهاينة
العرب والمارينز الثقافي؛ أمام حقيقة مواقفهم من الاحتلال الصهيوني، ففي الوقت
الذي بنت شرعيتها في مراحل التأسيس على خصومة الكيان الصهيوني، إذا بها تتماهي معه
اليوم ضد أهم قضايا عالمنا العربي حيث القضية الفلسطينية، فضلا عن تصريحات قادة
إسرائيل بأن بعض الحكومات العربية تطلب منهم التخلص من المقاومة لأنها تعلم أن
انتصار المقاومة هزيمة لها!
وضع الطوفان العديد من الحكومات العربية والمكونات السياسية والثقافية في مجتمعاتنا ولا سيما صهاينة العرب والمارينز الثقافي؛ أمام حقيقة مواقفهم من الاحتلال الصهيوني، ففي الوقت الذي بنت شرعيتها في مراحل التأسيس على خصومة الكيان الصهيوني، إذا بها تتماهي معه اليوم ضد أهم قضايا عالمنا العربي حيث القضية الفلسطينية، فضلا عن تصريحات قادة إسرائيل بأن بعض الحكومات العربية تطلب منهم التخلص من المقاومة
كما أبرز الطوفان
مدى الخضوع الأوروبي لكل خطوات السيد الأمريكي دون تفكير، وهو ما جعل منسق السياسة
الخارجية يدافع عن إسرائيل بشكل فج بالتصادم مع القيم الأوروبية، وذلك من خلال
دفاعه عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها! كما كان نفس الخضوع في أوكرانيا حيث تخلت
أوروبا (القارة العجوز) عن شخصيتها ومصالحها لصالح "رعاة البقر".
وكشف الطوفان ازدواجية الأوروبيين الذين لديهم
تاريخ مع اليهود دينيا وفي ذات الوقت فإنهم الآن يذوبون في حب إسرائيل
استراتيجيا.. وهو ما يذكرنا أيضا بطبيعة الحال بالأمريكيين
الذين يدفعون باليهود لبناء الهيكل الذي يعتقدون أنه شرط لعودة المسيح ومن ثم تنصر
اليهود ولأن هذه النهاية تعنى بطلان عقيدهم لهذا تجدها من المسكوت عنه حفاظا على
تحالفهم الاستراتيجي.
وتتقزُّم صورة أمريكا
وهي تتبني السردية الإسرائيلية ولا سيما وقائع الاغتصاب والذبح؛ ما أظهرها بصورة
مزرية وخاصة حين اتضح أكثر من مرة أن الأمريكيين لا يفعلون سوى ترديدهم لأكاذيب
نتنياهو ومكتبه الإعلامي دون تحقق!
وورطت عملية طوفان الأقصى
أمريكا -المتشبثة بقيادة النظام الدولي- في معركة جديدة تمثل عبئا استراتيجيا
إضافيا، وذلك بالنسبة لطموحات استمرارها بالانفراد الدولي، كما عطلت تحركها باتجاه
محاصرة الصين التي تجهز للصراع معها منذ ٢٠٠٢ باعتبارها الخطر الأول، ومن ثم تسريع
تراجعها على المستوى الدولي، الذي بدا واضحا مع تعثر مخططاتها في الحرب الأوكرانية
التي تجمدت بين الكر والفر..
كما أن التورط في
معركتين في وقت واحد، حيث أوكرانيا التي لم يستطيعوا أن يحققوا فيها هدفا؛ وغزة
التي استنزفت قوة إسرائيل ولوثت سمعة أمريكا والغرب، لا زال له مردود سلبي على
الانفرادية الأمريكية ومن ثم الهيمنة الغربية.. ولهذا فإن الصين وروسيا هما من
أكثر المستفيدين ويمكن أن يكونوا من أكثر المستثمرين في تورط أمريكا بهذا الشكل في
الشرق الأوسط، بعد أن كان تخففها منه هو لصالح التفرغ لهما.