إذا كان الصقيع يضرب أعماقك، فتتجمّد أطرافك ولا
تستطيع الحركة؛ ليس بردا فقط، بل أيضا من
الموت الذي يقبع وراء كل حجر وفي كل
زاوية وخلف أية خطوة في أي اتجاه؛ فأنت في
غزة.
إذا سُحق طفلك بعد نزهة كراهية لطائرة متوحّشة فوق
بيتك الذي يحميك؛ فتتطايرت أحجاره، ثم لمْلمْتَ شجاعتك ونهرت دموعك، وسحبت طفلك
وكفّنته ومشيت وحيدا في جنازته، والماء يُغرق الشارع حتى ركبتيك طينا، ثم أكملت
مسيرك لتواري قلبك الثرى الذي أصبح طينا أيضا، ثم تركته ومشيت بعيدا في الفراغ؛
فأنت في غزة.
إذا انفجر الفزع موتا ودمارا من القذائف المنهمرة،
وكان ضجيجه يملأ الفضاء رعبا، وارتجفت قلوب
الأطفال حتى كادت تنخلع، وارتعدت
أطرافهم دون توقف، وامتلأ الهواء بالخوف؛ فأنت في غزة.
إذا نشر الموت راياته في كل اتجاه، وقدِم على عربات
تقودها الغربان، وكان لا بد لك من عناقه ومرافقته إلى اللا مكان؛ فأنت في غزة.
إذا كان عقرب ساعة الحياة يتكتك فوق رؤوس أطفالك وهم
يلتصقون ببعضهم خوفا وبردا، وأنت عاجز حتى عن احتضانهم، ولم يبق من صورتك إلا
الثياب التي ترتديها؛ فأنت في غزة.
إذا امتلأت الأرض نارا واختفت السماء تماما وخفت
الدعاء وانكشفْتَ وحيدا أمام عجزك، فلم يتبقَ أمامك غير اختيار طريقة سحقك؛ تحت
دبابة أو تحت ركام أو جرّاء صاروخ أو بصدى ضحكة هستيرية يطلقها جندي مدجّج بالحقد
وموشّح بالخرافات؛ فأنت في غزة.
إذا تفقّدت أعضاءك وألقيت عليها التحية كل صباح وكل
مساء، وشكرت لها بقاءها في مكانها وتمنيت أن يطول تماسكها ولا تتطاير (فزعا أو
قصفا) عن بعضها في كل اتجاه؛ فأنت في غزة.
إذا طاردك الموت من بقعة إلى أخرى، وغزا الخوف قلوع
رجولتك، وتشابهت الشوارع والعناوين، ولم يكن لديك وقت حتى لالتقاط أنفاسك، أو
تذكّر أسماء أحبائك الذين قتلوا في القصف الأخير، ولم تستطع جمع أشلائهم، فأنت في
غزة.
إذا كان طعامك غصّة، وشرابك ملحا، وفراشك خوفا، وصباحك
موتا، ومساؤك نعيا، وأمنياتك خواء؛ فأنت في غزة.
إذا نصبت من بقايا أمواتك ما يشبه الخيمة، وأويت إليها
مع عائلتك كي تتقي بعض المطر والبرد، ثم التصقتم ببعضكم، تنشدون بعض الدفء
والأمان، فاجتاحتكم دبابة أو جرافة على حين غفلة أو سهوة؛ فأنت في غزة.
إذا كان المقاتل شبحا، والرجولة راية، والإيمان فضاء
رحبا، والأرض خارطة لقتل الغزاة، والحرية غاية توشّحها الدماء، والجنّة ممزوجة
بعبق الوطن؛ فأنت في غزة.