وضع الديمقراطية الأمريكية منتكس، ولم يعد يؤهلها إلقاء محاضرات مقنعة على شعوب وأنظمة العالم عن أهمية المشاركة السياسية، واحترام نتائج صناديق الاقتراع وتبادل السلطة بشكل سلمي ودوري، التزاما بمرجعيات دستورية وقوانين الانتخابات. وخاصة بعدما عاث
ترامب الرئيس السابق فسادا وإفسادا، برفضه وطعنه حتى اليوم بعد ثلاثة أعوام من حسم خسارته الانتخابات الرئاسية عام 2020. وبرغم تقدم ترامب مرشحي حزبه الجمهوري في استطلاعات الرأي، لكنه لا يزال يطعن ويّدعي تزوير وسرقة الانتخابات منه. بينما يعتقد 36٪ من أنصار ترامب أن فوز بايدن بالرئاسة غير شرعي!!
لذلك غير مستغرب اعتقاد 68٪ من الأمريكيين المستطلعة آراؤهم قبل أكثر من عام في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، أن ديمقراطيتهم مهددة وفي خطر، مقابل 30٪ لا يرون ذلك! وهذه نسبة صادمة وغير مسبوقة في ديمقراطية تمارس المشاركة السياسية والانتخابات الرئاسية منذ عام 1789!! بل وتحاضر وتضغط، وتحجب المساعدات عن الدول والأنظمة التي تزور وتقيد المشاركة السياسية وتنقلب على الديمقراطيات المنتخبة.
كان صادما وغير مسبوق تحريض الرئيس ترامب أنصاره يوم 6/1/2021 على اقتحام الكونغرس؛ لتعطيل إجراءات فرز الكونغرس الجديد أصوات المجمع الانتخابي، ومنع نائب الرئيس مايك بنس إعلان الرئيس جو بايدن دستوريا، الرئيس السادس والأربعين في تاريخ الولايات المتحدة. لكن ترامب وأغلبية أنصاره مقتنعون بسرقة الانتخابات، وحاولوا تنفيذ انقلاب على الدستور، كما اتهمهم الرئيس بايدن الجمعة الماضي، وذلك باقتحام مئات من مؤيديه وأنصاره مبنى الكونغرس، وترهيب المشرعين والمطالبة بشنق نائب الرئيس بنس؛ لرفضه وقف الإجراءات الدستورية والطعن بنتيجة فوز بايدن وخسارة ترامب! ووصفوا ذلك بالخيانة والعار، رغم عدم وجود أي أدلة تثبت التزوير.
واليوم، بعد ثلاثة أعوام على سقوط الديمقراطية الأمريكية في مستنقع التشكيك بنموذجها الجدير بالاتباع، وصدم العالم بأسره وقرّب أمريكا أكثر من دولة هشة بترتيب 141 من 179 دولة! أكثر منها دولة رائدة ونموذجا للأنظمة الديمقراطية العريقة، ما يعمق مأزق الديمقراطية الأمريكية. والصادم، أن استطلاعات رأي صحيفة واشنطن بوست تظهر ارتفاع نسبة المتعاطفين من جمهور ترامب معه ومع مقتحمي مبنى الكونغرس!
وبرغم مقاضاة الحكومة الأمريكية ترامب على تحريض أنصاره على التمرد حسب الفقرة الثالثة من التعديل 14 للدستور الأمريكي لعام 1866 ـ بعد إنهاء العبودية والرق ـ، بمنع أي مسؤول أقسم يمين حماية الدستور من الانخراط بأعمال تمرد على الدستور، من تسلم أي منصب رسمي في الحكومة الأمريكية! (ينطبق على ترامب بصفته رئيسا سابقا ولا يحق له العودة لمنصب الرئيس)، وشطبت ولايتا كولورادو وماين اسم ترامب من قائمة مرشحي الحزب الجمهوري في الانتخابات التمهيدية التي تبدأ هذا الشهر، واستأنف ترامب محاكمته أمام المحكمة العليا.
وُجهت تهم جنائية فدرالية لنحو 1200 شخص من أنصار ترامب اقتحموا مبنى الكونغرس في واشنطن في 6 كانزن الثاني/يناير 2021 ـ وبحلول كانون الأول/ديسمبر 2023 ـ اعترف 728 من المتهمين بذنبهم، وتم سجن 745 منهم.
وعينت وزارة العدل للشفافية مدعيا خاصا مستقلا للنظر بالتهم التي ستوجه لترامب، الذي يدعي أنه كانت لديه حصانة رئاسية وقت اقتحام الكونغرس. وطلب المدعي العام من المحكمة العليا البت في قانونية ادعاء محامي ترامب ـ للبدء بمحاكمته ـ ،وإذا ما أدين ترامب فإنه سيسجن لارتكابه أربعة أفعال جنائية: التآمر والتحريض على التمرد، والتآمر ضد الحكومة الأمريكية، والتآمر لعرقلة إجراءات رسمية، والتآمر ضد الحقوق القانونية للمواطنين. وإذا ما أدين بتلك التهم فعقوبتها السجن. كما قد يسجن ترامب 77 عاما إذا ما أدين في تهم الاحتفاظ بوثائق ومستندات رسمية حكومية سرية وبالغة السرية، احتفظ بها بعد تركه البيت الأبيض بدلا من تسلميها إلى الأرشيف الوطني كما يشترط القانون من جميع الرؤساء. وهناك تهم جنائية ومدنية أخرى.
ودأب الرئيس بايدن المنافس الرئيسي لترامب على رئاسة الولايات المتحدة في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في 5 تشرين الثاني/نوفمبر القادم على التحذير من خطر وتهديد ترامب، واستعداده للتضحية بالديمقراطية للوصول إلى السلطة. والتصويت لبايدن هو تصويت لدعم الديمقراطية والنظام، بينما اتهم ترامب بايدن بالفساد وإثارة المخاوف.
تشير استطلاعات الرأي قبل 10 أشهر من الانتخابات لتنافس حاد بين بايدن وترامب في انتخابات
الرئاسة القادمة، وتكرار للمواجهة الشرسة عام 2020. فاز الرئيس بايدن بـ81.2 مليون صوت بفارق 7 ملايين صوت، وحصل ترامب على 74.2 مليون صوت و46.8٪ لترامب! وحسب آخر استطلاعات الرأي لوكالة رويترز، يتقدم بايدن بـ38٪ مقابل 36٪ لترامب، يعني شبه تعادل، و26٪ لم يحسموا أمرهم.
الواضح أن ترامب ساهم بشكل كبير بتعميق الشرخ الاجتماعي والسياسي وبتقسيم المجتمع بخطابه الديماغوجي العنصري ضد الأقليات والمهاجرين واللاجئين، وتفضيله المستبدين الأقوياء مثل بوتين ورئيس وزراء هنغاريا أوربان، حتى إنه صرح أنه لا يمانع أن يكون ديكتاتورا ولو ليوم واحد! واللافت ارتفاع شعبية ترامب بين أنصاره، برغم 4 قوائم تهم جنائية تصل بمجملها إلى 91 تهمة مختلفة ومتنوعة!
ونجح ترامب بإقناع أنصاره أنه ضحية وشهيد مؤامرة الدولة العميقة ووزارة العدل وأذرعها؛ بهدف حرمانه من الترشح ضد بايدن! كما يكرر ترامب انتقاده واتهامه بايدن بالاحتيال والنصب، ويكيل التهم للقضاة والمدعين العامين والمحقق الخاص في التهم الموجهة إليه؛ ما يكرس صورته لدى أنصاره بأنه بالفعل ضحية النظام الأمريكي. ولذلك، يكرر أنه إذا فاز سيحاكم ويعاقب وينتقم من الدولة العميقة، ما يكسبه مزيدا من الشعبية. كما يمنع المرشحين المنافسين له من حزبه التهجم عليه واتهامه بالإساءة للديمقراطية الأمريكية، وتحميله مسؤولية تحريض أنصاره على اقتحام الكونغرس.
يقابل ذلك نقاط ضعف بايدن: تجاوزه 81 عاما، أكبر رئيس بتاريخ أمريكا في البيت الأبيض ويترشح لمنصب الرئيس! والوضع الاقتصادي، وموقف بايدن الداعم والمصطف بقوة مع إسرائيل في حربها الدموية على غزة. ما يكرس معضلة ومأزق الديمقراطية الأمريكية.
(القدس العربي)