لم تستطع إكمال
قراءة نص التقرير الذي كتَبَتْه، انهارت بالبكاء بمجرد أن شرعت في تسجيله.
في لحظات لاحت
لها كل المشاهد الكارثية التي مرت عليها عند تغطيتها للحدث.. رأت أمامها الجثث والمباني
المدمرة.. عادت إلى مسامعها أصوات بكاء الأطفال والأهالي الذين يبحثون عن أبنائهم
بين الركام وعلى شاطئ البحر.. لم تعد ساقاها قادرتين على حملها فجلست على أول كرسي
وأكملت نحيبها بصمت بعد أن شعرت بجسدها يرتجف بأكمله.. ثم غادرت مقر العمل ولم
تكمل دوام ذلك اليوم.
"أروى خالد"، صحفية شابة تلتمس
طريقها في عالم
الصحافة، كُلفت بتغطية كارثة الفيضانات والسيول التي اجتاحت مدينة
درنة شرق ليبيا في 11 أيلول/ سبتمبر 2023 وخلفت آلاف القتلى والمفقودين وجرفت نحو
25 في المئة من معالم المدينة، ونظرا للتشديد الأمني على منطقة الكارثة التي تقع
تحت سيطرة الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، مُنع المراسلون من إرسال المواد والتقارير
من هناك أو الخروج في
تغطيات مباشرة، سوى مراسلي القنوات التي تتفق مع أجنداته
ورؤيته العسكرية، لذا بمجرد عودتها من رحلتها الرهيبة كُلفت بكتابة تقرير عما
شاهدَتْه على أرض الواقع.
تقول
"أروى": "بمجرد أن بدأت قراءة نص التقرير شعرت وكأنني أقف وسط المدينة
المنكوبة، شممت حتى رائحة الجثث حينها، ولم أشعر بنفسي إلا وقد أجهشت بالبكاء ولم
أعد قادرة على قراءة حرف واحد مما كتبت".
ورغم مشاركات
سابقة لها في تغطيات لأزمات أخرى كأزمة اللاجئين السوريين على الحدود مع تركيا، فإن
بشاعة ما رأته خلال زيارتها الميدانية لدرنة فاق كل توقعاتها ولم تره حتى في أبشع
كوابيسها، وفق تعبيرها.
الخطر الذي يحدق به لا يتوقف فقط على خطر وجوده بمناطق الكوارث والخطوط الأمامية للأزمات والحروب، بل هناك ضريبة نفسية سيدفعها الصحفي نتيجة تعرضه لكل هذا الكم من المشاهد الكارثية وما يصل إلى مسامعه من مآسٍ إنسانية؛ تجعله في كثير من الأحيان سجينا لها يعيش بين جدرانها سنوات طويلة
هذا مجرد جانب
بسيط مما قد يدفعه الصحفي نتيجة تغطيته للأزمات الإنسانية والحروب، فالخطر الذي
يحدق به لا يتوقف فقط على خطر وجوده بمناطق
الكوارث والخطوط الأمامية للأزمات
والحروب، بل هناك ضريبة نفسية سيدفعها الصحفي نتيجة تعرضه لكل هذا الكم من المشاهد
الكارثية وما يصل إلى مسامعه من مآسٍ إنسانية؛ تجعله في كثير من الأحيان سجينا لها
يعيش بين جدرانها سنوات طويلة.
عند تغطيتنا في
المؤسسة التي أعمل بها للكارثة السالف ذكرها، خيمت على غرفة الأخبار أجواء كئيبة؛
كون الحدث أولا في بلادنا، ولدى أغلبنا إن لم أقل لكلنا صديق أو قريب في تلك
المدينة، أما الأمر الثاني الأكثر تأثيرا هو وجود عدد من الزملاء بيننا من تلك
المدينة والذين انقطعت أخبار أهاليهم وأقاربهم عنهم بعد وقوع الفيضانات والسيول..
كانوا يعملون معنا في ظرف استثنائي خطير على المستوى الشخصي.. فأينما وليت وجهك في
المؤسسة تملكتك الكآبة ورأيت الشحوب غزا وجوه الجميع.
يقول الصحفي بقسم
السوشال ميديا وابن مدينة درنة، "منيب الشلوي": "عملية تغطية
الكارثة في مدينتي أثقلت نفسي وذهبت بعقلي بعيدا عن كل شيء، بل وصنعت شبه انهيار
كامل كاد أن يوقفني حتى عن أداء عملي والتعاطي مع الأزمة لولا بقية من
مقاومة".
كون الواقعة حدثت
في مدينة صغيرة كدرنة فقد جعلت حجم الخوف والقلق في تزايد، حيث يعرف أهلها بعضهم،
وكل إعلان جديد لإحصائية قتلى ومففودين يعني فقدانك أقارب لك وعلى الأقل جار أو
صديق أو زميل دراسة وغيرهم.
"الاضطراب النفسي الذي عانيتُه أثناء
هذه الكارثة هو تعدد المهام الشخصية فوق مهنة الصحافة، تجد نفسك تحاول الاتصال
بأهلك للاطمئنان عليهم، وتشغل نفسك بتحليل الصور لمعرفة إن وصلت السيول إلى
بيوتهم، ثم تذهب إلى التعاطي مع الناجين ففي هذه اللحظة تجد نفسك أمام أهلك
النازحين بمثابة الشخص المنقذ الذي يستطيع تدبير الأمور وتيسير آلية لمغادرة
المدينة، وصولا إلى توفير بيت آمن".. يصف الشلوي عمله أثناء الأزمة.
دائما ما يكون الحديث عن الاضطرابات النفسية للناجين من الكوارث والنازحين من الحروب، لكن القليل من يتحدث عن الوضع النفسي للصحفي الذي تعرض لكل هذا الكم الهائل من الأخبار السلبية والمواقف المفزعة لينقل لنا معاناة ومشاعر كل هؤلاء
لك أن تتخيل أن
موظفا مختصا بكتابة العواجل على الشاشة كان أحد أبناء تلك المدينة المنكوبة.. يكتب
يوميا أرقاما مخيفة للقتلى والمفقودين الذين تسجلهم السلطات المختصة.. يكتب ذلك وهو
على يقين أن هذه الأرقام قد تكون لقريب وصديق ومعلم وجار له.. كانت بالفعل تجربة
قاسية عشناها في مؤسستنا وبالتأكيد ستكون لها تبعاتها على هؤلاء الشباب.
يعتقد كثيرون أن
الابتعاد عن الأخبار السلبية والمفزعة هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار النفسي..
كيف هو الحال مع صناع هذه الأخبار؟ ماذا عن الشخص الذي يقضي جل يومه في البحث عن
هذه الأخبار ثم يعيد صياغتها والحديث مع أصحابها مباشرة؟ هل يمكن تخيل مدى العبء
النفسي الذي يحمله هؤلاء خلال تغطيتهم للكوارث والأزمات؟
دائما ما يكون
الحديث عن الاضطرابات النفسية للناجين من الكوارث والنازحين من الحروب، لكن القليل
من يتحدث عن الوضع النفسي للصحفي الذي تعرض لكل هذا الكم الهائل من الأخبار
السلبية والمواقف المفزعة لينقل لنا معاناة ومشاعر كل هؤلاء.
الأشخاص الذين
يعيشون واقع الكوارث والأزمات والحروب في العادة يكونون عرضة للإصابة بالصدمة
النفسية، كذلك هو الأمر للصحفيين الذين يتابعون هذه الأخبار فهم عرضة للإصابة
بحالات من القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، ولعل أبرز هذه الحالات هو ما
يسميه المختصون "الاحتراق الوظيفي"، حيث يشعر الصحفي بانخفاض الدافع
تجاه العمل نتيجة الإجهاد وتعرضه لفترات طويلة لمشاهد غير إنسانية.
واحدة من أخطر
المعاناة التي قد يعيشها الصحفي هي "عقدة الناجي"، حيث يصاب الصحفي
أحيانا بحالة من تأنيب الضمير لنجاته من الموت من كارثة كان قد غطاها، ربما هنا في
المؤسسة التي أعمل بها قد يعاني هذه العقدة الصحفيون أبناء المدينة الذين كانوا
بعيدين عن أهاليهم أثناء وقوع الكارثة..!
يتحتم على المؤسسات الإعلامية الاهتمام بالصحة النفسية لصحفييها، ولا يقتصر التركيز فقط على تطويرهم المهني وتجاهل العامل النفسي، والعمل على احتواء أي علامات سلبية قد تظهر عليهم ومنع تفاقمها وعلاجها في أسرع وقت، بل يذهب مختصون إلى ضرورة أن يخضع الصحفيون إلى جلسات دعم نفسي من وقت إلى آخر لتجاوز مخلفات المشاهد والمواقف الصعبة التي عاينوها
الخطر لا يحدق
فقط بصحفي الميدان، فوفقا للجمعية الطبية البريطانية حتى الصحفي الموجود في غرفة
الأخبار هو الآخر عرضة لما يعرف بالصدمة غير المباشرة الناتجة غن التعاطف مع
الناجين والتعامل يوميا مع الأحداث المأساوية.
يتحتم على
المؤسسات الإعلامية الاهتمام بالصحة النفسية لصحفييها، ولا يقتصر التركيز فقط على
تطويرهم المهني وتجاهل العامل النفسي، والعمل على احتواء أي علامات سلبية قد تظهر
عليهم ومنع تفاقمها وعلاجها في أسرع وقت، بل يذهب مختصون إلى ضرورة أن يخضع
الصحفيون إلى جلسات دعم نفسي من وقت إلى آخر لتجاوز مخلفات المشاهد والمواقف
الصعبة التي عاينوها.
قد يكون هذا
الأمر غير كاف في بلد مثل ليبيا لم يشهد صحفيوها استقرارا نفسيا منذ أكثر من عشر
سنوات، ربما نحتاج إلى استثمار أكبر في إدارة الصدمات النفسية وبناء وعي بمدى
أهمية السلامة النفسية وتنظيم دورات وورش عمل حولها.
غرفة الأخبار في
مؤسستنا ربما تكون قد حافظت على استمراريتها أثناء تغطية كارثة السيول الأخيرة في
ليبيا، لكن بكل تأكيد ستحتاج إلى وقت للتعافي وتجاوز هذه الحالة من الصدمة التي
خلفتها الكارثة، وبما أننا نعيش في بلد غير مستقر فإن هذه الأزمة لن تكون الأخيرة،
يتوجب علينا أن نعتبرها نقطة بداية للانفتاح على مجال
الصحة النفسية والتخطيط
لمعالجة المخلفات القديمة وتجهيز بيئة صحية صحفية مناسبة لمواجهة ما هو آت على أسس
صحيحة.