يبدو أن السوق
المصرية التي تعاني الكثير من الأزمات الهيكلية والمعقدة مستعصية الحلول، على موعد مع
أزمة جديدة مع تعدي سعر صرف العملة المحلية بالسوق الموازية ضعف السوق الرسمية، بتسجيلها نحو 60 جنيها أمام
الدولار، وحوالي 65 جنيها مقابل اليورو، قبل عدة أيام.
وخلال الأيام الماضية جرى الحديث عن أزمة نقص كبيرة في الخامات ومستلزمات الإنتاج المستوردة للمصانع وشركات الإنتاج المصرية، من الخارج، يقابله شح في المعروض من البضائع، وزيادة كبيرة في الأسعار.
"الصناعة تموت"
وتحدث السياسي المصري، مجدي حمدان موسى، عن نقص "خامات ومستلزمات صناعة الغزل والنسيج ومواد الصباغة الخاصة بالمنسوجات"، قائلا عبر صفحته على "فيسبوك": "عليه العوض البلد، الصناعة بتموت مفيش خامات ولا مستلزمات نسيج ولا مواد صباغة".
وفي السياق، قال رئيس جمعية "الحق في الدواء" الدكتور محمود فؤاد، إن الظرف
الاقتصادي هو الضاغط الحقيقي على صناعة الدواء وأزمتها الحالية، مشيرا عبر صفحته على "فيسبوك"، إلى أن "نقص الأصناف المنقذة للحياة يتزايد لأول مرة بشكل مرعب".
وأكد أن أزمة نقص الأدوية النفسية والعصبية ظهرت"، مشيرا إلى أن "منتجات شركة (Lundbeck) الدانماركية اختفت بسبب أزمة الدولار في السوق المصرية"، موضحا أن "(السيبرالكس) أهم أصناف الشركة، بخلاف أدوية الصرع والاكتئاب".
"نضوب وغلاء"
ومن أمام إحدى شركات بيع الأجهزة المنزلية والكهربائية في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية يقف عشرات المواطنين، في انتظار دورهم في الحصول على سلعتهم التي قاموا بحجزها قبل أيام من الشركة، نظرا لعدم توافر المنتجات بسبب تراجع الإنتاج المحلي، لنقص الخامات بسبب أزمة الدولار.
هذا، وفق ما أكده نبيل، أحد المشرفين على عملية التسويق بالمعرض، نقلا عن الشركات الموزعة، موضحا أن شح المعروض من البضائع رفع أسعار الأجهزة الكهربائية لنحو 25 بالمئة خلال أيام.
وقبل 6 أيام اعترف رئيس شعبة صناعة الأجهزة الكهربائية بغرفة الصناعات الهندسية، حسن مبروك، بأن السوق تعاني نقصا شديدا في المعروض من الأجهزة الكهربائية والمنزلية (بين 55- 60 بالمئة)، من المنتجات المحلية والمستوردة، مؤكدا أن المصانع تعمل بنصف طاقتها الإنتاجية.
واعترف وزير التموين المصري علي المصيلحي، قبل 5 أيام بأن أزمة نقص المعروض من السلع، وارتفاع سعر الدولار، وعدم استقرار سعر الصرف، بالتزامن مع ارتفاع تكلفة الشحن، أسباب رئيسية لارتفاع أسعار السلع الغذائية مثل الزيت.
وأشار الوزير في تصريحات صحفية قبل أيام، إلى أن 97 بالمئة من الزيوت النباتية مستوردة، والعصارات المحلية تستورد بذرة الفول الصويا، و53 بالمئة من القمح، و55 بالمئة من الذرة الصفراء مستورد.
"الحديد والعقارات"
وبالتزامن، شهد السوق المحلي الأيام الثلاثة الماضية ارتفاعا في أسعار حديد التسليح، الذي وصل إلى أكثر من 50 ألف جنيه لسعر الطن.
ما برره عضو اللجنة الاقتصادية بمجلس النواب على الدسوقي، بالقول إن نحو 95 بالمئة من الصناعة يتم استيراده، وتعتمد بالتالي على العملة الصعبة التي لا تستطيع الحكومة توفيرها من البنوك.
وتقترب أزمة شح السلع من السوق العقاري الذي يحظى بإقبال كبير، خاصة وأنه يعتبر من الملاذات الآمنة التي ينصح بشرائها الخبراء، إلى جانب الذهب والعملات الصعبة.
وأكد ثلاثة من أصحاب شركات العقارات العاملة في مدينتي "بدر" و"الشروق" شمال شرق القاهرة، القريبتين من العاصمة الإدارية الجديدة، أن هناك ندرة كبيرة في المعروض من العقارات، مع تراجع في عمليات البناء بشكل لافت، خاصة مع زيادة أسعار الأسمنت والحديد والتي يقود ارتفاعهما سعر صرف الدولار، لأرقام قياسية.
وأكدوا أنه في مقابل قلة المعروض، وتراجع عمليات البناء، تحرص الشركات على عدم بيع ما لديها تحسبا لارتفاع الأسعار كل يوم، وما تبيعه يكون مقوما بالدولار أو اليورو، وما يتبقى من قيمة أية عملية بيع يتم احتسابه واستلامه بالعملة الصعبة وقت الدفع.
"أزمة الاستيراد"
وتعاني السوق المصرية منذ الربع الأول من عام 2022، من أزمة شح الدولار، وتراجع قيمة العملة المحلية، ما أدى لتراكم السلع والخامات وقطع الغيار المستوردة بالموانئ، وسط تضارب القرارات الحكومية، التي انتهت إلى تقليص حجم الاستيراد الخارجي نظرا لعجزها عن توفير الدولار، ما أثر على إنتاج المصانع والشركات.
وسجل عجز ميزان مصر التجاري غير النفطي 37.1 مليار دولار بنهاية 2023، بسبب هبوط واردات البلاد نتيجة شح العملة الصعبة اللازمة للاستيراد، وفق ما نشرته "الشرق مع بلومبيرغ"، الثلاثاء.
وانخفضت واردات مصر بنحو 13 بالمئة لتسجل 72.5 مليار دولار، في انخفاض وصل حوالي 11 مليار دولار لعدم القدرة على تدبير العملة الصعبة من أجل استيراد
المواد الخام اللازمة لعمليات الإنتاج في المصانع.
وتعالج حكومة رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، أزماتها عبر التوجه لبيع الأصول العامة (35 شركة)، والتخارج من نحو 65 نشاطا، والاقتراض الداخلي والخارجي، ومبادلة الديون السابقة بأصول حكومية وسيادية.
وفي الوقت نفسه تواصل مشروعاتها التي تكلفت وتتكلف مليارات الدولارات والتي تم جلب مليارات الدولارات كديون خارجية لأجلها في الوقت الذي لم تقدم فيه أية عوائد للدولة.
"الاقتصاد السري"
لكن، وعلى الجانب الآخر، يرى خبراء وبينهم متخصصون بمجموعة "تكنوقراط مصر" أن الحل لأزمة البلاد مع العملة الصعبة، وما تبعها من نقص المستلزمات وخامات الإنتاج وارتفاع أسعارها، ووقف الضغوط على المصريين؛ بفك "الاقتصاد السري" المكون من الصناديق الخاصة والسيادية، ودمجها باقتصاد الدولة في موازنة واحدة.
وكتب الخبير الاقتصادي محمود وهبة، عن الأزمة مؤكدا عبر "فيسبوك"، أن "هيكل الاقتصاد مختل بشأن توزيع الثروة والأعباء"، موضحا أن "الدخل القومي نحو 400 مليار دولار، ويمتلك اقتصاد الجيش والصناديق السيادية والخاصة (الاقتصاد السري) 280 مليار دولار أي ثلثي الدخل القومي، ويمتلك الشعب 120 مليار دولار".
وأكد عضو "تكنوقراط مصر" أن "الاقتصاد السري، لا يسدد ديونه، أو يدفع فوائد عنها ويحملها للميزانية العامة، ولا يدفع جمارك، أو ضرائب، أو رسوما، وله مزايا أخرى خاصة بالمستفيدين منه"، وصفها بـ"السرية".
ويرى أن "الحل ليس فنيا"، مبينا أن الاقتصاد السري خلق الأزمات وعليه حلها، بأن يتم "توحيد الميزانية بتوحيد ميزانيات الصناديق الخاصة والسياسية"، وأن "يسدد الاقتصاد السري ديونه ويدفع فوائدها ولا تُدفع من الميزانية العامة"، وأن "يدفع الجمارك والضرائب والرسوم المستحقة على كل عملياته التجارية".
وطالب وهبه، أيضا بأن يدفع الاقتصاد السري "التعويض عن سلب كل الأصول التي نقلت ملكيتها له بالمجان"، وأن "تستعيد الخزانة العامة كل العمولات والسمسرة التي تم الحصول عليها من شراء الأسلحة وغيرها من عمليات".
"الأزمة أعمق"
وتحدث المستشار السياسي والاقتصادي الدكتور حسام الشاذلي، لـ"عربي21"، عن تأثير نقص الخامات والسلع ومستلزمات الإنتاج على وضع البلاد، فيما تطرق إلى دور الاقتصاد السري وضرورة فكه ودمجه في الاقتصاد الرسمي لحل الأزمة، وأشار إلى ما أسماه منظومة الاقتصاد المسموم، كما عرض لما اعتبره حل شامل؛ يتطلب تغيير هيكلي وسياسي واقتصادي.
وقال الشاذلي، الذي يرأس جامعة كامبردج المؤسسية بسويسرا: "من الهام جدا عند تقييم الحالة الآنية للاقتصاد المصري أن ننظر للصورة مكتملة وليس فقط الجزء الخاص بانهيار
الجنيه، والذي كان متوقعا".
وأضاف: "وما زالت نتائجه قادمة، بعد فقدان ثقة الاستثمار الأجنبي في السوق المصري، بعد حذف مصر من مؤشر (جي بي مورغان)، وكذلك تغيير وكالة (موديز) تصنيف مصر إلى سلبي، وتحذيرها من خطورة المرحلة القادمة".
وأكد أن "حقيقة الأمر هي أن مشكلة مصر تكمن ليس فقط في نقص السيولة أو العملة الصعبة فقد تم حقن مليارات بعد مليارات من القروض والمعونات؛ ولكن كانت منظومة الاقتصاد المسموم قادرة على إذابة أي قدر من السيولة بدون تحقيق أي تقدم في إصلاح المنظومة الاقتصادية المصرية".
ولذلك يرى الشاذلي، أن "محاولة تفكيك ما يُعرف بالاقتصاد السري أو اقتصاد الصناديق السيادية سوف يساعد في توفير السيولة والعملة، ويمنح قدرا من الشفافية المطلوبة لأي منظومة اقتصادية ناجحة؛ ولكن لن يحل المشكلة".
وأضاف: "حتى إذا نظرنا إلى محاولة السيطرة على نوع آخر من الاقتصاد، وهو الاقتصاد الموازي وغير الرسمي، والذي يمثل في مصر ما يقرب من 40 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي GDP))، فسوف يساهم بالسيطرة على ضرائب الدخل ونواتج المنظومة ولكن لن يحل المشكلة أيضا".
"منظومة الاقتصاد المسموم"
الخبير المصري، قال إن "مشكلة منظومة الاقتصاد المسموم، والتي لقبتها بهذا الاسم، وقدمت هذا المفهوم لأول مرة في مقالتي على صفحة كلية (لندن للاقتصاد والعلوم السياسية)، "Toxic Economy : The Egyptian Model"، ونشرت الكثير من المقالات حولها منذ عام 2018".
وأكد أن "تلك المنظومة في شدة الخطورة كونها تعطي مؤشرات خادعة حول المنظومة الاقتصادية، وترسخ لمبدأ الاعتماد على القروض، وتؤخر التشخيص، ولا تفيق منها المنظومة إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن يكون الهيكل الاقتصادي قد استُهلك تماما وبدأ في الانهيار".
ولفت إلى أن "هذا ما تواجهه مصر الآن؛ ولذلك فإنني أزعم بأن الحل الاقتصادي للخروج من منظومة الاقتصاد المسموم هو حل شامل؛ يتطلب تغييرا هيكليا وسياسيا واقتصاديا على مراحل متعددة".
ويركز حل الشاذلي، "على خلق منظومات جديدة لصناعة التكنولوجيا والتحول الرقمي، ويرسخ لمنظومة تعليم مؤسسية مختلفة، ويضمن حرية السوق، ويعالج الفساد والسيطرة الأحادية، ويخلق شراكات دولية جديدة بعيدة عن السيطرة الشاملة".
وأيضا، "يتبنى خطة متخصصة للتميز والجودة في صناعات مستقبلية محددة، ويتخلص من الاتفاقيات المحددة للنمو، ويركز على الاستفادة القصوى من العقول المصرية المتواجدة بالخارج، ويدعو المتميزين إلى قيادة منظومة تغيير اقتصادية شاملة".
تلك المنظومة، "تضمن تحقيق إصلاحات مؤكدة في إطار زمني محدد، وتعيد ثقة الاستثمار والشركاء الدوليين، وتطالب بإسقاط جزء من المديونية في ضوء خطة الإصلاح الشاملة، من أجل مصر أفضل لكل المصريين".