قال معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، إن
إيران حققت مكاسب كبيرة خلال الفترة الماضية على كافة الأصعدة.
وأوضح المعهد في
تحليل لمدير الأبحاث باتريك كلاوسون، أن طهران تمكنت من تحفيز النمو الاقتصادي، وخنقْ الاحتجاجات الجماهيرية، وتوسيع نطاق تغلغلها في البلدان المجاورة.
واستدرك بأن المخاوف الوجودية العالقة يمكن أن تدفعها نحو خطوات عمل أكثر جرأة - من بينها التجاوز المحتمل للعتبة النووية.
بصمة إيرانية
يحاكي الهجوم الذي وقع في 28 كانون الثاني/ يناير وأدى إلى مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في الأردن الأسلوب الذي تتبعه إيران ووكلاؤها مؤخراً بإظهار عدوانيتهم المتزايدة بشكل علني، بحسب المعهد.
وتابع: "من أجل فهم حسابات إيران، لا يحتاج المرء إلا إلى تطبيق القول المأثور (كل عمل سياسي مردّه محلي)، أي أن لدى القادة الإيرانيين سبباً وجيهاً للاعتقاد بأن نهجهم المحلي والإقليمي العدواني هو ما أحكم قبضتهم على السلطة في الداخل - على الرغم من أنهم يعرفون أيضاً أن النظام لا يزال عرضة للخطر، وبالتالي فقد يضاعف استراتيجيته لإظهار القوة".
اقتصاد مقاوم للعقوبات؟
لطالما اعتقد المسؤولون الأمريكيون أن ممارسة الضغط على طهران من خلال العقوبات سيلحق بها معاناة اقتصادية، وبالتالي ستقدم إيران تنازلات. ولكن اقتصاد البلاد في حالة جيدة بما يكفي لبعث شعور بالأمان لدى النظام من تلك الناحية.
وفي هذا السياق، تشير توقعات "صندوق النقد الدولي" إلى أن عام 2024 سيكون العام الثالث على التوالي الذي ينمو فيه "الناتج المحلي الإجمالي" الإيراني بشكل أسرع من ذلك في
الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن يستمر الأمر على هذا المنوال في عام 2025. كما أنه من المتوقع أن ينمو الدخل القومي الإيراني التراكمي بنسبة 12.1% في الفترة بين العامين 2022 و 2024 مقابل 6.1% للولايات المتحدة. وبهذا يصبح أداء إيران جديراً بالإعجاب خاصة أن اقتصادات أوروبا واليابان نمت بوتيرة أبطأ من الاقتصاد الأمريكي خلال هذه الفترة، ولكن لدواعي الإنصاف، تجدر الإشارة إلى أن فوائد هذا النمو تراكمت بشكل كبير على أفراد النظام، ما أدى إلى تذمر الإيرانيين العاديين.
وتشكل العائدات النفطية أساس هذا النجاح. ففي عام 2020، قدّرت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية عائدات تصدير النفط الإيراني بما قدره 20 مليار دولار، مع بلوغ معدل إنتاج النفط الخام حوالي مليوني برميل يومياً وبلوغ معدل استهلاك المنتجات البترولية 1.8 مليون برميل يومياً، في حين كانت التقديرات بشأن المنتجات الأخرى أقل من ذلك آنذاك. واليوم ارتفعت أسعار النفط وحجم الصادرات. ويقدر "مركز أبحاث مجلس الشورى" الموثوق أن عائدات صادرات النظام للعام الإيراني 2024-2025 ستصل إلى ما بين 28 و40 مليار دولار وفقاً للسعر والحجم. وقد قامت آخر موازنة اقترحتها الحكومة بتقسيم الفارق من خلال تقدير عائدات النفط السنوية بمبلغ 35 مليار دولار، على أساس صادرات قدرها 1.35 مليون برميل يومياً.
ويستفيد النظام أيضاً من انخفاض اعتماد الاقتصاد الإيراني على النفط في هذه الأيام. وفي هذا الإطار، كان النفط يشكل في عام 1983-1984 نسبة 98% من إجمالي صادرات البلاد وفقاً لـ"صندوق النقد الدولي"، في حين أفادت "إدارة الجمارك الإيرانية" في عام 2022-2023 بأن الصادرات غير النفطية بلغت 53 مليار دولار، أي أكثر بكثير من مبيعات النفط. ولا شك في أن هذا الرقم محرّف لأن إيران، على غرار الولايات المتحدة و"منظمة التجارة العالمية"، تصنف صادراتها من المكثفات التي تبلغ قيمتها عدة مليارات من الدولارات على أنها صادرات غير نفطية مع أنها تشكل في الأساس نوعاً من أنواع النفط. ومع ذلك، فإنه حتى لو تم طرح المكثفات من المعادلة، فإن صادرات إيران غير النفطية وحدها من شأنها أن تغطي معظم وارداتها الإجمالية البالغة 60 مليار دولار لعام 2022-2023.
وهو الأمر بالنسبة للإيرادات الحكومية التي أصبحت أقل اعتماداً على النفط. فوفقاً للميزانية المقترحة لعام 2024-2025، تغطي عائدات الضرائب الإيرانية الآن نسبة 46% من الإنفاق.
وأضاف المعهد أن الوضع العمالي تغير، فقد كانت البطالة فيما سبق آفة المجتمع الإيراني، ما أدى إلى تأجيج القلاقل السياسية. إلّا أن تقديرات "منظمة العمل الدولية" للفترة المتراوحة بين 2012 و 2022 تشير إلى أن 150 ألف رجل إضافيين حصلوا على وظائف في القطاع الرسمي في كل عام، حيث يَشغل أكثر من 40% منهم وظائف مهنية أو إدارية، بينما وجد عشرات الآلاف طرقاً غير رسمية لكسب العيش. وتعادل هذه الأرقام نمو القوى العاملة من الذكور في إيران أو تتخطاها، وهي تقدر بنحو 150 ألف رجل جديد في سن العمل سنوياً - وهو انخفاض كبير عن معدل الـ 600 ألف رجل الذي شهدناه قبل عقد من الزمن، عندما كان عدد أقل من الناس يصلون إلى سن التقاعد وكان عدد أكبر بكثير من الشباب ينضمون إلى القوى العاملة. وفي عام 2022، سجلت نسبة البطالة بين الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و54 عاماً 6.9% - ويُفترض أنها نسبة ليست مرتفعة بما يكفي لحث الناس على النزول إلى الشوارع للاحتجاج.
المرأة مهمشة
وبطبيعة الحال، تظل المرأة الإيرانية مهمشة اقتصادياً. ففي عام 2022، أبلغت إيران "منظمة العمل الدولية" بأن نسبة اللواتي يعملن من النساء في سن العمل لا تتجاوز الـ11%، مقارنة بنسبة 28% في المملكة العربية السعودية - وهي نسبة قد تثير القلق للنظام نظراً لأن النساء قدن أحدث حركة احتجاجية جماهيرية، بحسب المعهد.
ولا يزال التضخم أيضاً أحد التحديات المضنية، ويعود ذلك إلى حدّ ما إلى أن إنفاق الحكومة لا يقتصر على ما تجمعه من الضرائب وصادرات النفط، فهي تموّل إنفاقها، والذي يشمل الإنفاق خارج الميزانية، عن طريق الاقتراض المصرفي. ويجري نمو المعروض النقدي بوتيرة سريعة جداً لدرجة أن تقديرات "صندوق النقد الدولي" لأسعار المستهلكين ارتفعت بنسبة 46% في عام 2022-2023 وسترتفع بنسبة 47% أخرى في عام 2023-2024، قبل أن تتراجع إلى حد ما إلى 32% "فقط" في عام 2024-2025 و25% في عام 2025-2026. ومن شأن معدلات مماثلة أن تؤدي في أغلبية المجتمعات إلى استياء واسع النطاق. إلّا أن إيران تخضع لعقوبات شديدة منذ عام 2018 وأصبحت معتادة نوعاً ما على التضخم المرتفع جداً، حيث أصبحت النسب مفردة العدد المسجلة في الولاية الأولى للرئيس حسن روحاني من ذكريات الماضي. ولا شك في أن ارتفاع الأسعار لا يزال يشكل مصدراً للكثير من التعاسة، ولكن من غير المنطقي الاعتبار أن الاقتصاد الإيراني على شفير الانهيار.
وبإيجاز، فإن لدى قادة إيران من الأسباب ما يدعوهم إلى الاطمئنان بشأن الوضع الاقتصادي في البلاد، ولذلك فإن من المستبعد أن يقدموا تنازلات في المدى القريب لمجرد قيام الغرب بزيادة ضغوطه الاقتصادية، وفقا للمعهد.
مكاسب أمنية
يعدّ الأمن القومي أكثر مسألة فيها أسباب تدعو النظام إلى الذعر. ولقد حقق النظام نجاحات واضحة على الصعيد الأمني في الآونة الأخيرة، إذ أحرزت طهران تقدماً كبيراً في البرامج الرئيسية مثل تطوير الصواريخ والطائرات بدون طيار والتخصيب النووي، وذلك بالرغم من الجهود الأجنبية لتقييدها (على سبيل المثال، اتفاق واشنطن غير الرسمي في بداية عام 2023 الذي طالب إيران بالقليل من ضبط النفس مقابل تخفيف الضغوط الاقتصادية عليها - وهي كما يبدو ورقة ضغط قلما توليها إيران اهتماماً عاماً بعد عام).
وخرج النظام من "العزلة الاستراتيجية" التي اختبرها لفترة عشرة أعوام دون أصدقاء سوى سوريا ولبنان. ويعود بعض هذا التقدم إلى قوة "حزب الله" والمليشيات العراقية والحوثيين في اليمن الذين تزودهم طهران بالسلاح والأموال. وهو الأمر بالنسبة لحرب غزة، التي جاءت بمزيد من المؤيدين لوجهة النظر الإيرانية التي ترى أن الولايات المتحدة وإسرائيل هما المذنبان الحقيقيان وراء المشاكل التي تعاني منها المنطقة. ومن خلال تزويد روسيا بمعدات عسكرية هي في أمس الحاجة إليها، أصبح لدى طهران الآن عضو دائم في مجلس الأمن يعمل على حمايتها.
ولكن على الرغم من النجاحات التي حققتها استراتيجية "المقاومة" والتي يتبجح بها النظام، إلا أنه لم يتمكن من حماية الكثيرين من أشد المؤيدين له وكبار المسؤولين فيه. ففي وقت سابق من هذا الشهر، أدت التفجيرات الإرهابية في محافظة كرمان إلى مقتل أربعة وثمانين شخصاً خلال مراسم إحياء ذكرى بطل النظام الراحل قاسم سليماني.
وقد أثارت فداحة الحادثة واختيار الهدف دهشة الشعب، في حين أدت التقارير القائلة إن واشنطن حذرت طهران من المكيدة مقدماً إلى تعزيز الشائعات التي تحدثت عن مؤامرة. وفي الوقت نفسه، تبدو السلطات عاجزة أمام الهجمات الإسرائيلية المستمرة ضد كبار المسؤولين، بدءاً من اغتيال العالم النووي الكبير محسن فخري زاده في عام 2020 في وسط إيران وإلى الاستهداف السهل على ما يبدو لخمسة من كبار ضباط الحرس الثوري الإيراني و"فيلق القدس" في منزلهم في دمشق قبل أسبوع، وفقا لمعهد واشنطن.
إلى أي مدى سيذهب النظام؟
تميل طهران وشركاؤها إلى التحلي بالجرأة عندما يشعرون بوجود فرصة أو يخشون الظهور بمظهر الضعفاء. وفي اليمن، يشعر الحوثيون بالسعادة إزاء الدعاية التي يحصدونها من هجماتهم على السفن في البحر الأحمر ولم يوقفوا حملتهم على الرغم من الضربات الجوية الأمريكية والبريطانية.
وفي العراق، تهلل المليشيات بينما تؤجج هجماتها التقارير التي تفيد بأن واشنطن قد تخفض وجود قواتها المحلية (على الرغم من أن الرد الأمريكي الكامل على التصعيد الكبير الأخير الذي قاموا به لا يزال غير واضح).
ولكن غالباً ما يتوخى "محور المقاومة" الحذر عندما يواجه مقاومة حقيقية. ففي الآونة الأخيرة، بعد أن ردت باكستان بالمثل على الهجمات الصاروخية الإيرانية في وقت سابق من هذا الشهر، سارعت طهران إلى تأكيد صداقتها لإسلام أباد وأرسلت وزير خارجيتها في زيارة رفيعة المستوى - وهو مؤشر على أن الرد على إيران بشكل مباشر لا يؤدي بالضرورة إلى دورة من المزيد من العنف.
وأضاف معهد واشنطن: "بالمثل، بالغ الوكيل الأكبر لطهران "حزب الله"، في إظهار مدى قدرته على مهاجمة إسرائيل دون استخدام أقوى صواريخه، الأمر الذي يشير إلى رغبته في تجنب حرب شاملة (في الوقت الحالي) وسط الرد العسكري العنيف من جانب القدس".
وخلص إلى أن "أهم الدروس المستفادة من هجوم "حماس" على إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر هو أن واشنطن وشركاءها لا يعرفون بشأن ما تفعله إيران وشركاؤها بقدر ما كانوا يعتقدون - وفي الواقع، فقد تكون خطط طهران أكثر جرأة وخطورة مما يعتقده أي شخص".