أعلن وزير الدفاع
الإسرائيلي الجنرال يواف غالانت رسميا نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي عن
الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب العدوانية ضد قطاع
غزة، واصفا المرحلة
الجديدة بأنها تشمل غارات جوية أقل حدة وكثافة، وعمليات برية لقوات خاصة بأشكال
مختلفة في الشمال والمعسكرات الوسطى أولا، بينما تستمر الوتيرة الحالية للعدوان في
مدينة خان يونس جنوب القطاع، وسيتم الانتقال نهائيا للمرحلة الثالثة حتى منتصف شباط/
فبراير الجاري، عبر إبقاء حاجز وسط القطاع (وادي غزة) لفصله إلى قسمين، وسحب بقية القوات
النظامية إلى الحدود حيث المنطقة العازلة بطول القطاع التي شرع جيش الاحتلال بإقامتها،
مع مواصلة النقاش حول الوضع في مدينة رفح الحدودية أقصى الجنوب والتي تحتضن قرابة
مليون نازح إضافة إلى ربع مليون من سكانها، ما يعني أنها باتت تحتضن أكثر من نصف
سكان القطاع تقريبا البالغ عددهم 2.3 مليون تقريبا.
كانت المرحلة الأولى
للحرب قد بدأت بغارات جوية مكثفة شملت قطاع غزة كله، وتحديدا الجزء الشمالي الذي
يمثل ثلث المساحة مع نصف السكان، ويضم العاصمة غزة بأحيائها الشهيرة؛ الشجاعية
والزيتون والدرج والتفاح وبلدات بيت حانون وبيت لاهيا وبلدة ومخيم جباليا، ومنها انطلقت
معظم هجمات طوفان الأقصى ضد المستوطنات والمواقع الإسرائيلية صباح 7 تشرين الأول/ أكتوبر
الماضي.
بحثت الغارات الجوية
المكثفة والغاشمة عن الضرر لا الدقة، كما قالت صحيفة هآرتس عن حق من أجل الرد على طوفان
7 تشرين الأول/ أكتوبر، وإرضاء رغبات الشارع الإسرائيلي المتعطش للثأر والانتقام،
حيث جرى استخدام 40 إلى 45 في المائة من القنابل الغبية فيها،
والتي أوقعت عشرات آلاف الشهداء والجرحى، وأدت إلى تشريد مليون مواطن تقريبا من الشمال
إلى الوسط والجنوب (خان يونس) قبل أن يتم إجبارهم على النزوح مرة أخرى إلى جنوب
الجنوب، حيث مدينة رفح التي باتت تحتضن جل النازحين أي مليون غزّي تقريبا.
شهدت المرحلة الأولى
كذلك استعادة السيطرة، أو للدقة إعادة احتلال المستوطنات في غلاف غزة، وهي العملية
التي استمرت لأيام، حيث بقي وقاتل المقاومون فيها لأكثر من أسبوع بمواجهة إغراق
المنطقة بوحدات الجيش والقوات الخاصة حسب التعبير الدارج بالإعلام العبري.
بدأت المرحلة الثانية
التي تضمنت العملية البرية (نظريا) يوم 27 تشرين الأول/ أكتوبر عبر قطع تام للاتصالات
عن غزة، وغارات جوية أكثر كثافة وغباء، والتوغل في المناطق الحدودية المفتوحة في الشمال
إثر اتباع سياسة الأرض المحروقة فيها، وبعد عشرة أيام (6 تشرين الثاني/ نوفمبر"
بدأت المرحلة الثانية فعليا مع التوغل واجتياح مناطق الكثافة الحضرية والسكانية في
مدينة غزة والشمال بشكل عام.
أما الجزء الأخير
من المرحلة الثانية فانطلق مع انتهاء الهدنة الإنسانية مطلع كانون الأول/ ديسمبر في
المناطق الأكثر كثافة سكانيا في الشمال (جباليا والشجاعية)، والانتقال جنوبا إلى مدينة
خان يونس، ومن هناك جرى التوجه مطلع كانون الثاني/ يناير الماضي مرة أخرى شمالا نحو
الوسط ومخيمات البريج والمغازي والنصيرات، بعدما جرى محاصرتها فيما تشبه الكماشة
من الشمال والجنوب.
اضطرت إسرائيل للانتقال إلى المرحلة الثالثة بعد مماطلة وشد وجذب لعدة أسباب، وإضافة إلى صمود وعناد المقاومة في الميدان؛ هناك الضغط الأمريكي، والحرج أمام الفظائع والجرائم والخسائر البشرية والأعداد الكبيرة للشهداء والجرحى والنازحين الفلسطينيين، وحالة الشلل التام للاقتصاد الإسرائيلي
وبينما استمرت المرحلة
الأولى الجوية أساسا ثلاثة أسابيع، طالت المرحلة الثانية لأكثر من ثلاثة شهور لعدة
أسباب: منها وأهمها المقاومة العنيدة والصلبة والمفاجأة في التكتيكات الدفاعية التي
اتبعها المقاومون وتم الإعداد لها طوال سنوات حسب تعبير رئيس أركان الاحتلال "هآرتس
هليفي"، ثم جرى تحديثها بشكل مستمر خلال الحرب حسب مستجدات الميدان، حيث قاتلت
المقاومة على كل متر في الشمال -غزة وبيت لاهيا وبيت حانون والشجاعية وجباليا- وتقاتل
الآن على كل سنتمتر في الجنوب وبمدينة خان يونس تحديدا.
في حصاد المرحلة
الثانية يمكن القول إنه وباستثناء تدمير غزة؛ لم يتم تحقيق أي من أهداف الحرب
الإسرائيلية المتضمنة القضاء على
حماس واستعادة الأسرى، وعليه تم تحديث المصطلح
ليصبح تفكيك قدرات حماس العسكرية (خان يونس) والسلطوية (الشمال)، ومنع غزة من
تهديد إسرائيل مستقبلا.
في الحقيقة اضطرت
إسرائيل للانتقال إلى المرحلة الثالثة بعد مماطلة وشد وجذب لعدة أسباب، وإضافة إلى
صمود وعناد المقاومة في الميدان؛ هناك الضغط الأمريكي، والحرج أمام الفظائع والجرائم
والخسائر البشرية والأعداد الكبيرة للشهداء والجرحى والنازحين الفلسطينيين، وحالة
الشلل التام للاقتصاد الإسرائيلي، وتوقف عجلة الإنتاج إثر استدعاء مئات الآلاف من جنود
الاحتياط، ما أدى إلى تراجع وخسائر (بمليارات الدولارات) مباشرة لتمويل آلة الحرب؛
وغير مباشرة مع توقف عجلة الإنتاج والاقتصاد بشكل عام وتراجع قطاعاته الحيوية (السياحة
والتصدير والإنتاج الحربي)، خاصة في الصناعات العسكرية التي تفرغت لتزويد الجيش بما
يحتاجه في حرب الاستنزاف بغزة.
وقبل ذلك وبعده، هناك
الخسائر البشرية العالية في عدد الجنود الإسرائيليين القتلى والمصابين، رغم أن هذا
لم ينل بعد من الإجماع الداخلي على الحرب أمام سردية اعتبارها دفاعا عن الدولة
وهيبتها وردعها ومستقبلها، وقتالا على الوجود وفق معادلة إما نحن أو هم حسب تعبير
وزير الدفاع الجنرال يواف غالانت.
يقول كبار
المسؤولين الإسرائيليين السياسيين والعسكريين إن المرحلة الثالثة ستستمر لشهور
طويلة، ربما حتى نهاية العام الجاري 2024، مع استنساخ نموذج الضفة الغربية في قطاع
غزة، بحيث يصبح حكم الشجاعية وخان يونس مثل نابلس وجنين حسب التعبير الحرفي لعضو
مجلس -كابينيت- الحرب الجنرال بيني غانتس.
هنا لا بد من التذكير
بأن الحرب عموما والمرحلة الثانية تحديدا استمرت بدعم أمريكي وتغطية سياسية ودبلوماسية
وعسكرية واقتصادية ونفسية، مقابل إدخال مزيد من المساعدات الإنسانية وتقليص الضرر الواقع
على المدنيين في غزة، رغم تأكيد الأمم المتحدة أن الوتيرة الحالية في الجنوب (خان
يونس) هي نفسها التي اتُبعت في الشمال، حيث الأرض المحروقة والتهجير وتدمير البنى
التحتية للمنطقة المستهدفة وجعلها غير قابلة للحياة والعيش فيها.
يفترض أن تستمر المرحلة
الثالثة لشهور طويلة كما يقال في إسرائيل، حسب تصريح غالانت، وعام 2024 الجاري سيكون
عام قتال كما قال رئيس الأركان هآرتس هليفي وتقول التقديرات الرسمية لجيش الاحتلال.
من الصعب وحتى المستحيل تغيير توازنات أو رسم مستقبل المنطقة بعيدا عن الفلسطينيين ودون حلّ عادل وشامل ومستدام يرتضونه، حتى بوجود القيادة الحالية المنفصمة والفاقدة للشرعية والثقة والمصداقية في رام الله، والتي أسقطها الطوفان وتجاوزتها الحرب
أما التغطية الأمريكية
متعددة المستويات والأبعاد للمرحلة الثالثة؛ فمرتبطة بإدخال مزيد من المساعدات الإنسانية
وحماية أكبر للمدنيين الفلسطينيين وعودة النازحين إلى الشمال، والتوصل إلى هدنة إنسانية
طويلة لتبادل الأسرى على أعتاب شهر رمضان الكريم، وفتح النقاش حول اليوم التالي للحرب
لعدم الغوص في الوحل الغزاوي وتحول جيش الاحتلال إلى أهداف ثابتة وسهلة للمقاومين.
ووفق وسائل الاعلام العبرية فقد أعدت حماس 30 ألف مقاتل تقريبا، بينما تزعم إسرائيل
أنها قتلت وأصابت النصف تقريبا، ما يعني أن 10 آلاف على الاقل لا يزالون في الميدان
ومستعدين للقتال أشهر وربما حتى سنوات قادمة.
عموما، سواء في
المرحلة الثانية أو الثالثة والحرب برمتها، لا تريد إسرائيل أن تفهم رسائل ودلالات
7 تشرين الأول/ أكتوبر، وتهرب عمدا من استخلاص العبر والاستنتاجات اللازمة
والصحيحة بعدما وقعت فعلا في البئر، حسب تعبير المعلق المخضرم ناحوم برنياع في يديعوت
أحرونوت (9 كانون الثاني/ يناير)، وحلت بها الهزيمة التاريخية حيث لا إمكانية للتفوق
والانتصار بعد ذلك، ناهيك عن الأبعاد والدلالات الاستراتيجية لجهة استحالة هزيمة
الفلسطينيين أو تجاهل قضيتهم العادلة وتجاوزها وإزاحتها عن جدول الأعمال الداخلي والإقليمي
والدولي، كما حصل في السنوات العشر الأخيرة، أي منذ فشل آخر مساع أمريكية جدية مع إدارة
بارك أوباما ووزير خارجيته جون كيري، بينما كانت صفقة القرن لدونالد ترامب تحايلا
وتذاكيا لتصفية القضية لا حلها، وقد أسقطها الفلسطينيون أيضا مع اصطفاف سياسي وإعلامي
ضدها حتى مع الاختلافات الحزبية والتنظيمية، والانقسام السياسي الجغرافي بين فتح
وحماس ورام الله وغزة.
وعليه، بات من
الصعب وحتى المستحيل تغيير توازنات أو رسم مستقبل المنطقة بعيدا عن الفلسطينيين ودون
حلّ عادل وشامل ومستدام يرتضونه، حتى بوجود القيادة الحالية المنفصمة والفاقدة للشرعية
والثقة والمصداقية في رام الله، والتي أسقطها الطوفان وتجاوزتها الحرب -رغم
محاولات التنفس الاصطناعي الخارجية- بخلفياتها وحيثياتها ودلالاتها وتداعياتها
المستقبلية.