في
كلمة غير متوقعة ألقتها أمام مجلس الأمن في آخر جلسة بشأن العراق، أعلنت رئيسة
بعثة الأمم المتحدة في العراق، جينين بلاسخارت، أن مهمتها قد وصلت إلى نهايتها، وأنها تعتزم الاستقالة من منصبها خلال مايو / أيار المقبل.
هذا
الإعلان أثار العديد من التساؤلات حول أسباب هذه الخطوة، خاصة مع تصاعد الاتهامات
بالفساد والفضائح التي تحيط بالبعثة وموظفيها في العراق.
وفيما
تُطرح تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الخطوة تأتي بإرادة خاصة من بلاسخارت أم بتوجيه
من الأمين العام للأمم المتحدة، تثير التكهنات حول إمكانية ربط هذه الاستقالة
بالتغيرات السياسية والأمنية في العراق، خاصة بعد ترشيح الولايات المتحدة لسفيرة
جديدة أيضا إلى العراق.
وتأتي
هذه الاستقالة في سياق فضيحة التحقيق الاستقصائي الذي نشرته صحيفة
"الغارديان" حول اتهام موظفي الأمم المتحدة في العراق بتلقي رشاوى من
رجال أعمال ومستثمرين، مقابل منحهم صفقات الإعمار والمساعدات التي تمر عبر الأمم
المتحدة والمانحين.
وقد
طلب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني من هيئة النزاهة في البلاد، فتح
تحقيق منفصل حول هذه الفضيحة.
الدفع مقابل العقد
وكشفت صحيفة "الغارديان"
البريطانية في تقرير صادم نشرته مؤخرا، عن وجود تجاوزات كبيرة في إدارة برنامج
الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، المخصص لإعادة إعمار المناطق المحررة في العراق.
يُشار إلى أن هذا البرنامج تم إطلاقه
بعد الإعلان عن هزيمة تنظيم الدولة في البلاد، وتم تخصيص 1.5 مليار جنيه إسترليني
لمشروع إعادة الإعمار.
ووفقا للتحقيق الذي أجرته الصحيفة،
قام موظفو الأمم المتحدة العاملون في مشروع المساعدة بالمطالبة برشاوى من رجال
الأعمال، لتسهيل فوزهم بعقود المشاريع الخاصة بإعادة الإعمار بعد الحرب.
وأكدت المصادر أن نسبة الرشوة وصلت
إلى 15% من قيمة العقود.
وأظهرت التحقيقات أن هذه الرشاوى لم
تقتصر على موظفي الأمم المتحدة فقط، بل تم توجيهها أيضا لمسؤولين عراقيين
ومقاولين.
كما أظهر التقرير أن هناك ثقافة
مستشرية للرشوة تتغلغل في المجتمع العراقي منذ العام 2003، وذلك وفقا لشهادات أكثر
من عشرين شخصا تم استجوابهم، بينهم موظفون حاليون وسابقون ومقاولون.
وأكد
أحد المقاولين قائلا: "لا يمكن لأحد أن يحصل على عقد دون أن يدفع، لا يوجد
شيء في هذا البلد يمكنك الحصول عليه دون دفع، لا من الحكومة ولا من برنامج الأمم
المتحدة الإنمائي". وأضاف أن موظفي البرنامج اتصلوا بهم مطالبين برشاوى.
وقال
موظف آخر في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ إن الصفقات تتم شخصيا لتجنب الكشف، حيث
يعمل العراقيون ذوو النفوذ كضامنين، وأشار إلى أن الطرف الثالث يأخذ حصة أيضا من
الرشاوى.
وأوضح
أن المقاولين يختارون الأشخاص ذوي العلاقات والسلطة.
وزُعِم
أن المسؤولين الحكوميين المكلفين بإشراف على مشاريع البناء، يحصلون أيضا على حصة من
الرشاوى. وأكدت الصحيفة أن هناك انتهاكات أخلاقية وفسادا يتعلق ببرنامج الأمم
المتحدة الإنمائي في العراق، حيث يُزعم أن المسؤولين استخدموا سلطتهم لابتزاز
الشركات للحصول على رشاوى.
وأشار العديد من المتحدثين، الذين طلبوا
عدم الكشف عن هوياتهم خوفا من الانتقام، إلى توسع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي
وتمديده بطرق غير مبررة، مما أدى إلى الحفاظ على بصمة البرنامج دون الحفاظ على
التزامات الحكومة العراقية بإعادة إعمار البلاد.
إلى ذلك، ذكرت الصحيفة أن المانحين اعترفوا
بصعوبة متابعة كيفية إنفاق تمويلهم والاعتماد على برنامج، وتشير الصحيفة أيضا إلى
أن معظم مَن أُجريت معهم المقابلات، وصفوا التدريب وورش العمل التي يديرها برنامج
الأمم المتحدة الإنمائي في إطار هذه المبادرات، بأنها "تافهة"
و"تفتقر إلى التماسك الاستراتيجي".
ووصف موظف سابق، مبادرة سبل العيش، التي
أطلقها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لتعليم النساء النازحات، الخياطة، بأنها
"غير واقعية"؛ لأن العراقيين يميلون إلى شراء الملابس المستوردة الرخيصة
من الأسواق المحلية: "لقد كانوا يحاولون إنشاء اقتصاد غير موجود".
وأضافوا: "كان الأمر أشبه بالعودة إلى العصور الوسطى".
فيما قال خمسة ممن أُجريت معهم مقابلات
مطلعون على تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إنها لا تعكس الواقع على الأرض،
بحسب الصحيفة.
ما دور بلاسخارت بالفساد؟
بلاسخارت، القادمة من هولندا، تولت
منصبها في كانون الأول/ديسمبر 2018، لتكون بذلك رئيسة للبعثة التي تهدف إلى مساعدة العراق في
تحقيق الاستقرار والتنمية بعد سنوات من التحديات.
ومع إعلان استقالتها، أصبحت بلاسخارت
محط أنظار الرأي العام، خاصة بعد تقارير تكشف عن اتهامات بالفساد وسوء الإدارة، تطال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق.
وفي سياق متصل، اتهمت أطراف سياسية
عراقية بلاسخارت والسفارة الأمريكية في بغداد بالتدخل في شؤون البلاد، خاصة فيما
يتعلق بنتائج الانتخابات البرلمانية عام 2021.
وقالت؛ إنها مارست الضغوط في الخفاء على
المحكمة الاتحادية للمصادقة على نتائج الانتخابات، التي تضمنت اتهامات بعمليات
تزوير.
تتساءل الأوساط المراقبة عما إذا كانت
استقالة بلاسخارت تأتي كجزء من تصاعد الضغوط والانتقادات المتزايدة التي واجهها
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق، وسط الاتهامات المتزايدة بشأن الفساد
وسوء الإدارة في تنفيذ المشاريع.
تبقى أسباب استقالة بلاسخارت قضية قيد
البحث، ومعها مستقبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق يبدو غامضا، حيث
يترقب الرأي العام مزيدا من التفاصيل حول هذا القرار والتحقيقات المحتملة، التي قد
تجرى لفحص الاتهامات المثارة بحق البعثة ومسؤوليها.
"معلومات
مضللة"
قبيل أيام، أصدرت بعثة
الأمم المتحدة في العراق بيانا رسميا يوضح السياق والأسباب المتعلقة بمغادرة جينين
بلاسخارت، الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة، منصبها في العراق.
وذكرت أن مغادرة جينين
بلاسخارت لمنصبها في العراق تأتي وفقا للممارسات الرسمية المتبعة داخل الأمم
المتحدة، وتشمل ذلك التناوب المعتاد لكبار المسؤولين.
عندما قدمت بلاسخارت
إحاطتها الأخيرة لمجلس الأمن، أشارت إلى أن وقت رحيلها قد حان بعد خدمة دامت خمس
سنوات، وأعربت عن تقديرها للعراق كـ"بلد ذو جمال وتنوع ثقافي"، مشيرة
إلى وجود العديد من الفرص "التي تنتظر الاستثمار فيها".
وأضاف البيان: "تؤكد
بعثة الأمم المتحدة في العراق أن يونامي وUNDP (برنامج الأمم
المتحدة الإنمائي) لديهما هياكل إدارية ومالية مختلفة".
وقال؛ إن البعثة تنفي بشدة
مزاعم الفساد التي تم تداولها في وسائل الإعلام بشكل مضلل، مؤكدة ضرورة "إيلاء
وسائل الإعلام الأولوية للدقة، وتجنب نشر معلومات مضللة".
وختم البيان بدعوة وسائل
الإعلام إلى "تحمل مسؤولياتها في نقل الأخبار بشكل دقيق وتفادي تعميم
المعلومات غير الصحيحة".
"النزاهة"
تحقق
بدورها، أعلنت هيئة النزاهة
الاتحادية العراقية أمس الخميس، أنها بدأت في إجراءات التحري والتحقيق حول مزاعم
الفساد، التي نُشرت في الصحافة البريطانية بشأن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) في العراق.
وأفاد مكتب الإعلام
والاتصال الحكومي في الهيئة، أن الفريق الذي شكلته الهيئة قد بدأ في إجراءات
التحقيق والتدقيق، بناء على المعلومات التي نُشرت في مقال نشرته صحيفة
"الغارديان" البريطانية.
وأشار المكتب إلى أن الفريق
قد تواصل مع كاتبة المقال للحصول على دلائل وتوضيحات إضافية، وأكد أن إجراءات
الهيئة تتزامن مع التحقيقات التي تُجريها فرق الأمم المتحدة المُرسلة للتحقيق في
هذه القضية.
وختم البيان بتأكيد الهيئة
على أنها ستعلن النتائج فور توفر حقائق قابلة للإثبات، مع تأكيد صلاحيتها في
التحقيق في جرائم الفساد المرتكبة من قبل المؤسسات غير الحكومية، وفي قطاعات
الأعمال ذات الصلة بالقطاع العام.
هل تشعل الضربات الأمريكية ضد فصائل عراقية حربا مفتوحة؟
"عراق بلا مخيمات".. ما لا تتفق عليه بغداد وأربيل