إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس
والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات
والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من
القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير والموازين وهذا
الدمار المبين..
وفي
تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن
الذكرى قد تنفع حتى البغاة والعصاة
والطغاة فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر 1954) وربطا
بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية عرفنا
إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي
الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن
السبع سنين مماثلة لما يراه العالم على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة
الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على
المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا
غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة
في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى
بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة
الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير
والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛
بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت
مسيرتها الطولية إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم
ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن
كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانإ مع ما
يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين وخاصة من
جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن
سلف.. والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر
التاريخ الإسلامي للأمة عندما كانت أمة
حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي
(الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000 مجاهد سنة 1948 ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير
في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة
واليد القصيرة على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان مرورا بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق
التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن
جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو
حال غزة وفلسطين هذه الأيام.. لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الاولى مقارنة
بما نراه على المباشر في الثورة
الفلسطينية العظيمة الثانية التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء
السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات
ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون
انقطاع.) في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال
يلتف حوله قادة العالم الغربي
الاستعماري كله ويدعمونه
انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم
السابقة وإحياء لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة..
كنا نعتقد، وأن بعض الظن ليس
إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء
المعمورة قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة
حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان
التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية،
فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع
الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة
والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب
والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما
فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل
قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا
الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير
القلق فقط حول مصير البشرية في هذا العالم
(وحيد القرن) وإنما يعيد السؤال أيضا وبالحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى
التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع إلى ما تحت الصفر كما
نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية التي تحتضر في مستشفياتها
المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق
الإنسان (الحجري) وليس الإنسان البشري المتحضر المتعلم والمتقدم!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية ( فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ
والاتعاظ به وأخذ العبرة منه..
بقدر ما كانت الثورة الجزائرية عظيمة في أهدافها، وواسعة في نطاقها
ومتنوعة في وسائلها، ومعقدة في عناصرها وأطرافها... اعترضتها مخططات وخيانات
ومؤامرات في مستوى عظمة أهدافها، وشراسة أعدائها، في الخارج والداخل، من الفاعلين
الحقيقيين المباشرين ومن نوابهم المساعدين؛ وهو ما نتناوله في هذه المقالات بما
يتطلبه من شمولية، وتفصيل، وشهادات وتوثيق من الأطراف المعنية حسب مختلف المراحل
والمنعرجات التي مرت بها الثورة من البداية إلى النهاية، وقد حصرنا أهم هذه
المناوآت والاعتراضات والخيانات والمؤامرات فيما يلي:
إنّها المؤامرة الكبرى...
غرست
فرنسا وانتظرت إلى 13 مارس 1959 لتجني.. عملت فرنسا لمدة من الوقت
على تكوين كثير ممن رضوا أن يكون ولاؤهم لها على حساب أمتهم وثورتها، فلما أنهت
التكوين واطمأنت أن المكونين قد تلقنوا ما كان يجب أن يتلقنوه، سرّبتهم ليخترقوا
الثورة، فكان منهم (الفدائي) و(المجاهد)، بل وصار منهم المسؤول والضابط!.
وهم مندسون في الصفوف راحوا يعملون على ضم ما استطاعوا من المجاهدين
إليهم، ترغيبا وترهيبا مستعملين في ذلك مختلف وسائل المكر والغدر والخداع، حتى خيل
لهم أنّهم صاروا قريبا من الهدف الذي رسموه أو الذي رسم لهم لينفذوه" .
وعن المخ المدبر للمؤامرة الكبرى على الثورة يقول الدكتور بوعلام بن
حمودة: "أوكلت مهمة اختراق الولاية الثالثة والثورة الجزائرية برجال يعملون لصالح
المخابرات العامة، لضابط في الجيش الفرنسي يدعى ليجي. ولد عام 1922 بالمغرب، شارك
في الحرب العالمية الثانية، ثم في الحرب الهند الصينية. كان يتقن الحديث بالفرنسية
والعربية والقبائلية. قتل والده خلال الحرب العالمية الثانية سنة 1942. (وهو ما
يزال على قيد الحياة وله كتاب حول الموضوع).
في مارس 1955 التحق بمصلحة المخابرات العامة. ولما اندلعت معركة
الجزائر في فيفري 1956، كلفه الجنرال ماسو بالقضاء على ما تبقى من الفدائيين في
القصبة. وكان العقيد دوكاس هو من أخبر الكولونيل ترانكي بأن العسكري الوحيد القادر
على سحق الفدائيين بالقصبة، وكل ما تبقى من معركة الجزائر، هو ليجي. فبحث عنه
الكولونيل ترانكي في كل مكان، إلى أن عثر عليه في مقهى Ville
Tonton (بالقرب
من ساحة بورسعيد حاليا).
كان للضابط ليجي بشرة سمراء ويشبه العرب. وبعد اللقاء مباشرة كلفه
ترانكي بمهمة الاستخبار، انطلاقا من مركزه بالقضبة السفلى حيث يوجد مقر المظليين.
وأول عمل قام به ليجي تمثل في تحويل الفدائيين الذين شاركوا في معركة الجزائر إلى
جانب ياسف سعدي، إلى خونة وعملاء مزدوجين، فسموا بـ "الزرق"".
ويتحدث الدكتور بن حمودة عن الخطط الجهنمية التي طبقها ليجي وعن
نتائجها الكارثية على الثورة فيقول: "وتميزت الاستراتيجية التي طبقها ليجي
بالاعتماد على تعميم الإشاعة التضليلية l'intox à grande échelle. وساعده في ذلك ذراعه الأيمن عبد العزيز عبد
الحميد (خائن)، والذي أصبح يدعى بالسرجان شركوف. ومن الأشخاص الأوائل الذين جندهم
ليجي للشروع في خطته الجهنمية لضرب الثورة، نجد كلا من: سعيدون السعيد (وكان عاملا
في بيت للدعارة)، بالإضافة إلى خواص بوعلام النائب الأول لياسف سعدي، الذي تحول من
فدائي إلى عميل مزدوج بعد عملية "غسل المخ" التي أجريت له في مكاتب
ليجي، حيث قدم للفرنسيين كل المعلومات المتعلقة بالتنظيم داخل القصبة، مما أدى إلى
إلقاء القبض على عشرات الفدائيين الذين كانوا ينشطون".
ثم يضيف بن حمودة عن نتائج المؤامرة قوله: "أيام قليلة قبل
إلقاء القبض على ياسف سعدي رفقة زهرة ظريف يوم 25 ديسمبر 1957، واستشهاد علي
لابوانت، توصل ليجي إلى إلقاء القبض على حسن غندريش النائب الأول لياسف سعدي،
وغندريش هذا بدوره تحول إلى عميل مزدوج، وأصبح يعمل تحت أوامر ليجي. وهو الذي أعطى
للفرنسيين اسم مكان تواجد ياسف سعدي، الذي ظن حينما ألقي القبض عليه أن غندريش
مايزال يعمل في صفوف الثورة، فبعث إلى العقيد عميروش يحثه على تعيينه (أي غندريش)
كقائد عسكري أول في مدينة الجزانر. وذلك ما حدث بالفعل، فتحول غندريش من عميل
لليجي إلى مسؤول للثورة على مستوى العاصمة.
وقد فرح ليجي كثيرا لما حدث، فتأكد أن كل ما حدث بعد معركة الجزائر،
كان لصالحه. أما ياسف سعدي فلم يكن يعلم أي شيء عن خيانة نائبه الأول.
وبدأت ترتسم خطة ليجي شيئا فشيئا، لتكتمل نهائيا بعد ضم حورية (la brune) ضمن فريقه المتكون من العملاء المزدوجين، حيث استعملها للتعرف على
خيوط شبكة ياسف سعدي وعلي لابوانت، وطبق معها اللعبة المزدوجة مثلما فعل مع
غندريش، فارس، عليلو، هني. وكل هؤلاء كانوا يعملون معه، لكنهم ظلوا في اتصالات بكل
ما كان يحصل حولهم بالنسبة للثورة وذلك كله بخطة من بول ليجي.
فالعقيد عميروش ظل يعتقد أن غندريش ما يزال يناضل في صفوف الثورة.
وبالإضافة إلى المعلومات القيمة التي وضعها غندريش على مكتب القائد
الفرنسي، وإعطائه أسماء الفدائيين، أصبح ليجي يتحكم في زمام الأمور جيدا، خاصة أن
كمال القائد الجديد للمنطقة الأولى للولاية الثالثة، لم يكتشف ما كان يحاك حوله من
مؤامرات، فكان يتعامل مباشرة مع هني الذي سبق أن قلت بأنه كان أحد أعوان ليجي.
وهكذا أصبحت كل المعلومات المتعلقة بالثورة في المنطقة المستقلة، تصل
مباشرة إلى مكتب ليجي الذي وضع يده على كل تحركات الفدائيين.
وكان هني قد تلقى أوامر من القيادة للقيام بمهمة فدائية، لترقيته بعد
ذلك، فمنحت له مسؤولية رسمية من طرف قيادة العقيد عميروش وكان التكليف بالممهمة
يحمل إمضاء كمال قائد المنطقة الأولى للولاية الثالثة.
وحال حصول هني على التكليف الكتابي، توجه إلى ليجي مباشرة، وأخبره
بما حدث ففرح ليجي كثيرا، حيث أصبح بذلك هو المسؤول الحقيقي على المنطقة الأولى
للولاية الثالثة، باعتبار أن هني عميل له، وهو عضو في شبكة الكمندو التي أنشأها في
العاصمة!".
وبعد أن اكتملت خيوط العملية في العاصمة أقدم بول ليجي على اعتقال
معظم المناضلين والفدائيين على مستوى مدينة الجزائر، ثم راح يبسط خطته الجهنمية
على الولاية الثالثة بواسطة فدائية تدعى "تاجر الزهراء" التي أصبحت تعرف
فيما بعد "بروزة لابلويت" وعن قصة، بل مأساة هذه المجاهدة التي تمثل
حلقة مهمة في تنفيذ مؤامرة الزرقاء في الولاية الثالثة يقول المؤرخ الدكتور يحي
بوعزيز: «تاجر الزهرة التي يدعوها أهلها باسم روزة، التي تعني الوردة دلالا، عمرها
18 عاما، تقطن في حي بلكور مع أهلها وتصنع الأعلام الوطنية لجبهة التحرير الوطني،
وعندما اكتشف أمرها هربت إلى الجبل في ناحية برج منايل، والتحقت بالمجاهدين، وجرحت
في إحدى المعارك، وأسرت من طرف القوات الفرنسية، وسلمت إلى الضابط ليجي، الذي حضر
بنفسه لتسلمها، وراودها طويلا على العمل معه، أو على الأقل أن تلعب دورا معه وآخر
مع جبهة التحرير الوطني، وهو ما كان يريده منها ليصل إلى أسرار الثورة.
سكتت الفتاة في البداية، ولم تجبه، وكلف قندريش بإقناعها، ففشل وأكد
له بأنه إذا أطلق سراحها سوف تعود إلى الجبل لا محالة، ولكي يقنعها بالعمل معه،
أكد لها بأنه على صلة وثيقة بقادة الثورة في منطقة برج منايل، وأخرج لها من درج
مكتبه رسالة عليها ختم جيش التحرير من أحد مسؤولي برج منايل، واطلعت في مكتبه على
قائمة بأسماء كل مسؤولي قيادة منطقة برج منايل الذين تعرفهم خلال وجودها هناك،
فاستغربت وتعجبت، وقررت في نفسها العودة إلى برج منايل لإطلاع المسؤولين عن ذلك
إذا ما أطلق سراحها.
وفعلا أطلق ليجي سراحها بعد أن شفيت من جروحها، وألح عليها أن تهتف
إليه كل أسبوع ووعدته وفعلت ذلك في الأسبوع الأول ثم اختفت وعادت إلى الجبل حيث
كانت، وعندما استبطأها ليجي أرسل رسولين إلى منزل أمها التي أخبرتهما بأنها اختفت
منذ ثلاثة أيام.
وعندما وصلت إلى الجبل وعلم بها أحسن محيوز أمر باعتقالها وإيقافها
لاستنطاقها، وقيل له بأنها رؤيت وهي تتجول مع الضابط ليجي في برج منايل، مما زاد
في حنقه عليها، والحقيقة أن ليجي صحبها في شوارع برج منايل يوم تسلمها من الذين
اعتقلوها وظنوا أنها تتجول معه بإرادتها، وكان من رأي محيوز أن كل النساء في الجبل
القادمات من العاصمة جاسوسات، ومخبرات، وبياعات، وأكد ذلك لعميروش وغيره من
المسؤولين، ولكن روزة صاحت في وجهه قائلة، بدل أن تتهمني أنا، ينبغي أن تعلم أن كل
المحيطين بك جواسيس لصالح ليجي وذلك استنادا إلى القائمة التي رأتها في مكتبه.
عذب محيوز روزة تعذيبا شديدا، وفي الأخير قطع رأسها، وعندما حضر
المدعو قدور من العاصمة مبعوثا للبحث عنها وعن مصيرها من طرف ليجي، قبض عليه وعذب
حتى اعترف بدوره، وآطلع محيوز على الخطة الكاملة التي وضعها ليجي!
عن حجم الكارثة التي تسببت فيها المؤامرة "الزرقاء"، وعدد ضحاياها في صفوف الثورة يقول: "ليس لدينا رقم مضبوط، لكنني في رسالة رفعتها للهيئة العليا، قدّمت معطيات تفيد بسقوط 2500 ضحية، وهو رقم اكتسبته من الأستاذ عميود في أكفادو سنة 1959، لما التقيته خلال حركة الضباط الأحرار، قال لي: تقريباً عدد الضحايا بين 2000 و2500، وبدوري قدمته للحكومة المؤقتة، في صيف 1960".
وتوالى بعد ذلك استنطاق وتعذيب حوالي 300 شخص من المشبوهين والتخلص
منهم بإشراف أحسن محيوز، واستمرت عملية الاستنطاق، والتعذيب، والإعدام، أكثر من
عام وراح ضحيتها عدد كبير من الرجال الخلص، والأبرياء.
وأكد لنا هذا الرائد سي حميمي الذي ما يزال حيا، وعاش الأحداث كلها
من أولها إلى آخرها، وأوضح لنا أن عددا كبيرا من المشبوهين راحوا ضحايا، وهم
أبرياء وقد انتقل هذا المرض إلى الولاية الرابعة، ولكنه لم يستفحل كما استفحل في
الولاية الثالثة".
ويؤكده الجنرال ماسو Massu نشاط
النّقيب Léger Paul كما يلي: "إنّ عددًا من الأسرى
جُنِّدوا ووُضِعوا تحت تصرّف النّقيب Léger التّابع للعقيد Godard؛ كانوا يلبسون لباسًا
أزرق فلذلك سمّوا "بالزُّرق"؛ كانوا يشاركون في حَمَلات التّوقيف وهم
مُقَنَّعون؛ فيما بعد، كانوا يشاركون في دوريّات المراقبة ووجوههم مكشوفة؛ ثمّ
يُقِرّ العميد Massu بأنّ النّقيب Léger جعل جيش التّحرير الوطنيّ يشكّ في بعض
إطاراته فتوصّل إلى تصفيتهم بصفة غير مباشرة".
ونجد كل تفاصيل هذه المؤامرة التي طبقها النقيب ليجي مؤكدة من طرف
المجاهد ياسف سعدي الذي يقرّ بأنّ النّقيب Léger تمكّن من تجنيد بعض المعتَقَلين بعد
إضراب الثّمانية أيّام (يناير - فبراير 1957). وقد عُيِّنَ على رأس جهاز الحماية
بالعاصمة (DPU) في مارس 1957؛ ونَصَّبَ مركز قيادته في
وسط القصبة وعَيَّنَ الجواسيس في كلّ مستوى حتىّ وصل عدد الجزائريّين المستعملين
إلى 7.500 شخص (رجالاً ونساءً) .
وعن أصل هذه التسمية يقول المجاهد حسين زهوان في حوار مطول مع جريدة
الشروق اليومي: «يلقون القبض على أحد الفدائيين ويحطمونه جسديا، إلى درجة قرب خروج
الروح ثم يتركونه مدة ليسترجع قواه المنهارة، وبعدها يأخذونه في سيارة
"جيب" ويضعون على رأسه كيساً، ويتجوّلون به في المدن والطرق والقرى ومن
ملجأ إلى ملجأ، وحينما يتغير الملجأ أو يُغتال مجاهد، يظهر الموقوف على أنه خائن
دون أن يكون فعلاً وراء مقتله، فيضطر إلى التجند في صفوف قوات الاحتلال، ويلبسونه
بدلة صينية زرقاء صيفية، ثم يوضع في أماكن حراسة عمارات أو بنايات هامة. وقد سماهم
"الزرقية" أو "جيش الزرق".
وعن سؤال يقول ما هي مهام هؤلاء "الزرقية" المجندين فيجيب:
«لقد كتب النقيب "ليجي" كتابا عن هذه المناورة، وحكى من البداية كيف
خلقت الفكرة في صفوف الضباط الفرنسيين المتمرسين في الفيتنام. وفي وقت أحسوا أن
وجود هؤلاء لا يكفي في العاصمة لتنفيذ مشاريعهم، بدأوا يدخلون بهم إلى الجبال
بحيلة، يقولون له: نحن لدينا نظام في أوسع نطاق وزملاء لك في الجبل داخل صفوف جيش
التحرير والجبهة، وأنت نرسلك بمهمة الاتصال مع بعضهم، ويعطونه أسماء صحيحة لتلك
المناطق، وأسماء من فيها؛ كمال أو مسعود مثلاً، وهو محافظ سياسي.
وفعلا، يأخذونه في سيارة ويتركونه في عمق الجبل، ويعرفون أن السيارة
تحت أعين المجاهدين. وبعد أمتار يمسكه المجاهدون، فيقول: جئتُ إلى فلان، ويجدون
رسالة في ظهره من ضابط فرنسي يقصد بها المسؤول في صفوف الجبهة يصفه كأنه من معارفه
أو كعون في الشبكة كرسالة حميمة تعبِّر عن صداقة، وفي بعض الأحيان تخاط له الرسالة
في ظهره دون أن يدرك، وبذلك يصور للمجاهدين أن ذلك المسؤول صديق وعون بمعنى أنه
"خائن".
وعن مصير ذلك المبعوث إلى الجبل يجيب حسين زهوان الذي عاش التجربة
بكل تفاصيلها كمحافظ سياسي في قلب الحدث بالمنطقة الرابعة، فيقول: "يضربونه،
وهو يردد كلمات مبهمة، ويهذي ولا يدري، والعدو ملأ رأسه بالأسماء، ومن ثمة وقع
الانزلاق وكثرت الشكوك في ولاء البعض، وبدأت الاغتيالات في صفوف أعوان وضباط جيش
التحرير، وأشعل "الزرق" الشكوك بين المجاهدين، وبدأت الاعتقالات داخل
الجيش بالجبال وحصلت الإعدامات بالعشرات، وشملت الاتهامات ضباطاً ومحافظين سياسيين
وممرِّضات، وكانت المؤامرة جهنمية، وانطلقت التصفيات كالنار ولم يستطع أحدٌ إطفاءها".
وعن حجم الكارثة التي تسببت فيها المؤامرة "الزرقاء"، وعدد
ضحاياها في صفوف الثورة يقول: "ليس لدينا رقم مضبوط، لكنني في رسالة رفعتها
للهيئة العليا، قدّمت معطيات تفيد بسقوط 2500 ضحية، وهو رقم اكتسبته من الأستاذ
عميود في أكفادو سنة 1959، لما التقيته خلال حركة الضباط الأحرار، قال لي: تقريباً
عدد الضحايا بين 2000 و2500، وبدوري قدمته للحكومة المؤقتة، في صيف 1960".
إقرأ أيضا: كيف واجه ثوار الجزائر ضد فرنسا "المؤامرة الزرقاء"؟ شهادات للتاريخ (1 من 2)