نشرت صحيفة "
نيويورك تايمز" الأمريكية، تقريرا، للصحفيين باتريك كينغسلي وناتان أودينهايمر، قالا فيه "إن السكان اليهود المتشددين في أحد أحياء القدس استقبلوا جنديا عائدا من الخدمة العسكرية".
وتابع التقرير: "في مدرسة دينية، اجتمع طلاب متدينون أيضا للاستماع إلى ضابط يتحدث عن واجباته العسكرية. وفي كنيس يهودي حضره بعض اليهود الأكثر تدينا في البلاد، خصّص الأعضاء لفافة توراة تخليدا لذكرى جندي قُتل في
غزة".
وأوضح: "كانت العملية التي قادتها حماس على إسرائيل في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي سببا في تحفيز ومضات من التضامن الأعظم بين قطاعات من الأقلية اليهودية الأرثوذكسية المتطرفة والتيار العلماني في إسرائيل، مع تسبب المخاوف من التهديد المشترك في التعجيل باندماج بعض مواطني إسرائيل الأكثر انعزالية".
وأضاف: "مع استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة واستدعاء جنود الاحتياط الإسرائيليين للخدمة لفترات طويلة أو إضافية، أصبحت الانقسامات القائمة منذ فترة طويلة حول الإعفاءات العسكرية لليهود الأكثر تدينا في البلاد مرة أخرى في قلب الحوار الوطني".
واستدرك: "لكن الآن، في أعقاب اليوم الأكثر دموية من الهجمات على اليهود منذ المحرقة، فإن أجزاء من مجتمع اليهود الأرثوذكس المتطرفين المتنامي بسرعة في إسرائيل، المعروفين بالعبرية باسم الحريديم، يعيدون النظر في دورهم في نسيج الأمة. وقد أعربت أعداد كبيرة بشكل غير عادي عن دعمها أو اهتمامها بالخدمة العسكرية، وفقا لبيانات الاقتراع والإحصاءات العسكرية، حتى مع أن الغالبية العظمى من الحريديم لا تزال تأمل في الاحتفاظ بإعفائها".
وأردف: "منذ تأسيس إسرائيل قبل 76 عاما، كانت علاقة الحريديم مع جيرانهم العلمانيين مشحونة، ويرجع ذلك جزئيا إلى الفوائد التي تم ضمانها للمجتمع الحريدي الصغير في ذلك الوقت في اتفاق بين الزعماء الدينيين والعلمانيين"، مؤكدا أنه: "خلافا لمعظم الإسرائيليين، الذين تعتبر الخدمة العسكرية إلزامية بالنسبة لهم، فإن الحريديم مُعفون من التجنيد للتركيز على الدراسة الدينية. كما أنهم يتلقون إعانات مالية كبيرة من الدولة للحفاظ على نظام تعليمي مستقل يتجنب الرياضيات والعلوم لدراسة الكتاب المقدس".
ومع الارتفاع الكبير في عدد اليهود الأرثوذكس المتطرفين، إلى أكثر من مليون شخص اليوم، أي ما يقرب من 13 في المئة من سكان دولة الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن كان عددهم حوالي 40 ألفا في عام 1948، أدّت هذه الامتيازات والإعفاءات إلى استياء الإسرائيليين العلمانيين. ويشعر العديد من الإسرائيليين أن خدمتهم العسكرية وضرائبهم توفر الحماية الجسدية والمكافأة المالية لمجتمع يعاني من البطالة الجزئية ولا يقدم إلا القليل في المقابل.
وأثارت الجهود العلمانية لجذب اليهود المتشددين إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي وقوة العمل غضب العديد من الحريديم، الذين يرون في الخدمة العسكرية تهديدا لحياتهم الدينية. فيما قد يأتي الجيش في نهاية المطاف لبعض الحريديم سواء شاءوا ذلك أم لا.
وتواجه حكومة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، موعدا نهائيا وشيكا إما من أجل تمديد إعفائهم أو البدء في إدراجهم في الخدمة العسكرية. وهو القرار الذي يضع بعض المشرعين الحريديم في مواجهة المسؤولين العلمانيين مثل وزير الحرب، يوآف غالانت، الذي يريد زيادة مشاركة الحريديم في الجيش، ويهدد بإسقاط الائتلاف الحاكم.
وفي السياق نفسه، قال غالانت، في خطاب ألقاه الأربعاء: "إن التحديات الأمنية التي تواجهنا تثبت أنه يجب على الجميع أن يتحملوا العبء، كل قطاع من السكان". بينما تُظهر استطلاعات الرأي أن التيار السائد في دولة الاحتلال الإسرائيلي أكثر حرصا من أي وقت مضى على إجبار الحريديم على التجنيد، خاصة مع تزايد عدد الجنود العائدين من المعركة في غزة والتساؤل عن غياب اليهود المتشددين على الخطوط الأمامية.
ولكن بعيدا عن هذه المواجهة، يجري سد بعض الانقسامات الاجتماعية بدلا من توسيعها. بينما اهتزت دولة الاحتلال الإسرائيلي بالكامل بسبب عملية حماس في تشرين الأول/ أكتوبر، والتي من المتوقع أن تستمر تداعياتها الاجتماعية والسياسية لسنوات عديدة.
وأوضح التقرير نفسه، أنه "تحدث بعض التداعيات الأكثر إثارة للدهشة داخل الأجزاء الأكثر انفتاحا على الخارج في المجتمع الحريدي؛ وفقا لبيانات استطلاعات الرأي وخبراء الحريديم وحتى بعض أشد منتقديهم العلمانيين".
إلى ذلك، يؤيد الآن ما يقرب من 30 في المئة من الجمهور الحريدي التجنيد الإجباري، أي أعلى بـ 20 نقطة عما كان عليه قبل الحرب، وذلك وفقا لاستطلاع للرأي أجراه في كانون الأول/ ديسمبر المعهد الحريدي للشؤون العامة، وهي مجموعة بحثية مقرها القدس. وقال ما يقرب من ثلاثة أرباع المشاركين في الاستطلاع إن إحساسهم بالمصير المشترك مع الإسرائيليين الآخرين قد تكثف منذ يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
وقال أفيغدور ليبرمان، وهو زعيم الحزب القومي الذي قام منذ فترة طويلة بحملة لإنهاء امتيازات الحريديم: "إننا نرى بعض التغيير داخل المجتمع الحريدي. إنهم يفهمون أنه من المستحيل الاستمرار دون المشاركة بشكل أكبر في مجتمعنا".
وأشار بأن دمج المزيد من الحريديم المحافظين في الجيش ينطوي على مجموعة من التحديات الخاصة به، مثل معالجة الحساسيات المتعلقة بالرجال الذين يخدمون جنبا إلى جنب مع النساء. ومع ذلك، سعى أكثر من 2000 من الحريديم إلى الانضمام إلى الجيش في الأسابيع العشرة الأولى من الحرب، وهي نسبة ضئيلة من الجيش الحالي ولكن ضعف المعدل السنوي للمجموعة. وينضم عدد أكبر من العرب الإسرائيليين إلى الجيش مقارنة بالحريديم.
أفاد هؤلاء القلائل من الحريديم الموجودين في الجيش أنهم يشعرون بمزيد من الاحتفاء في مجتمعاتهم، مما دفعهم إلى الشعور بثقة أكبر أثناء المشي في أحيائهم بالزي العسكري.
قال نحاميا شتاينبرغر، 40 عاما، وهو محاضر وحاخام حريديم في القدس: "ما شهدناه منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر سوف يُنظر إليه على أنه أحد المحفزات الكبرى للتغيير في المجتمع الحريدي على مدار الثلاثين عاما القادمة".
إن تجارب شتاينبرغر الخاصة منذ يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر تُجسّد الكثير مما يجري على قدم وساق. وهو من بين ما يسميه بعض الخبراء الحريديم المعاصرين، الذين يقدر عددهم بـ10 في المئة من اليهود المتشددين الذين يسعون إلى التوفيق بين أسلوب حياتهم المتدين وما تتبنّاه دولة الاحتلال الإسرائيلي.
لسنوات، عمل شتاينبرغر على إيجاد أرضية مشتركة بين مختلف أجزاء المجتمع الإسرائيلي. وخلافا لمعظم الحريديم، أكمل أحد أشكال الخدمة العسكرية قبل ثلاث سنوات؛ وبعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، عاد إلى الجيش كجندي احتياطي، وساعد في إدارة مركز القيادة الذي يساعد القوات الجوية.
وعند عودته من الخدمة التي دامت قرابة ثلاثة أشهر في أواخر كانون الأول/ ديسمبر، أدرك مدى التغيير الذي طرأ. وبينما كان شتاينبرغر يسير بزيه العسكري عبر بيت فيغان، وهي إحدى ضواحي القدس لليهود المتشددين، ركضت مجموعات من الأطفال الحريديم خلفه، وأمطروه بالامتنان، على حد قوله.
وقال: "كان ذلك شيئا جديدا. شعرت وكأنني بطل". وفي غيابه، أهدى المصلون في كنيس يهودي متشدد قريب التوراة لجندي قُتل أثناء غزو غزة - وهو أمر لم يكن من الممكن تصوره قبل الحرب.
وعلى المستوى الشخصي، شعر شتاينبرغر أيضا بالتغير بسبب الحرب، فقد كانت فترة 12 أسبوعا من الخدمة إلى جانب جنود الاحتياط العلمانيين بمثابة معسكر تدريب فكري. ليلة بعد ليلة، كان هو وزملاؤه الجنود يناقشون السياسة والدين، ويعرضون بعضهم البعض لوجهات نظر بديلة.
وقال شتاينبرغر، إنه "أصبح أكثر تعاطفا مع الأشكال غير التقليدية لليهودية وأكثر قبولا للحملة العلمانية من أجل تشريع الزواج المدني"، بينما مرّت شانا إيروم، وهي ناشطة اجتماعية داخل المجتمع الحريدي، بتحول مماثل بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
خلال معظم حياتها المهنية، ساعدت إيروم، 44 عاما، في إدارة مهاجع للفتيات الحريديات اللاتي غادرن المنزل بسبب مشاكل مع عائلاتهن. ولم يخطر ببالها قط فكرة مساعدة الإسرائيليين العلمانيين.
وتقول إنها "قد صدمت من أعمال العنف ضد المجتمعات العلمانية على طول حدود غزة، وتأثرت بآلاف جنود الاحتياط الذين استجابوا للاستدعاءات العسكرية، فكرت إيروم في كيفية تجاوز الانقسام الاجتماعي".
وأوضحت إيروم أنها "ساعدت في إنشاء شبكة مكونة من حوالي 1000 امرأة حريدية، في غضون ثلاثة أيام، لمساعدة عائلات جنود الاحتياط الذين ذهبوا للقتال، وكذلك الإسرائيليين الذين تم إجلاؤهم من منازلهم. ساعد بعض المتطوعين في رعاية الأطفال، والبعض الآخر في التسوق والأعمال المنزلية الأخرى"، مضيفة: "لا أعتقد أنه قبل الحرب، كان بإمكاني إقناع أي شخص، أو حتى نفسي، بالتطوع خارج مجتمعنا". لكن معظم المجتمع الحريدي قاوم مثل هذه التفاعلات.
وفي بني براك، وهي المدينة الواقعة شرق تل أبيب والتي تعتبر عاصمة دولة الاحتلال الإسرائيلي المتشددة، هناك عدد قليل من الملصقات للأسرى منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر والذين تنتشر صورهم في كل مكان في الأحياء العلمانية.
ولا يزال الزعماء الحاخاميون في المدينة غير متأثرين بدعوات الحريديم للخدمة في الجيش. داخل المجتمعات الحريدية، يخشى الكثيرون أن يبدأ نسيج حياتهم المنعزلة في التآكل إذا اضطر الرجال إلى تخطي دراسة الكتاب المقدس بدوام كامل.
قال مئير تسفي بيرغمان، وهو أحد الحاخامات الأكثر احتراما في دولة الاحتلال الإسرائيلي، خلال لقاء نادر مع صحفيين من صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية: "إن طريقة المساعدة هي دراسة التوراة"، متابعا: "لا يمكن لأحد أن يتخلى عن التوراة".
لإظهار كيف عكس الحاخام بيرغمان الرأي الحريدي السائد، أخذنا أحد المعلقين الحريديين للقاء فتيان من مدرسة قريبة. حيث سأل المعلق بتسلئيل شتاوبر: "كيف سنكسب الحرب؟ بالبنادق؟"، ليُجيب أحد الصبية: "ليس بالبنادق".
وسأل شتاوبر: "بماذا إذن؟"؛ ليرد صبي آخر قائلا: "فقط بالصلاة". فسأل شتاوبر: "فمن أين سنأتي بجنودنا؟"؛ فأجاب الصبي: "لو أن كل الجنود درسوا التوراة، فلن نحتاج إلى جيش". لكن المجتمع الحريدي ليس متجانسا، وقد ألمح بعض القادة إلى حدوث تغيير في العقلية.
يتسحاق غولدكنوبف، هو وزير حريدي في الحكومة وزعيم ثاني أكبر تحالف سياسي حريدي في دولة الاحتلال الإسرائيلي. وفي مكتبه الحكومي، جلس غولدكنوبف محاطا بصور الأسرى، وكثير منهم من النساء الشابات. لقد كان عرضا مذهلا في مجتمع غالبا ما يتم فيه حذف صور النساء، حتى في الإعلانات، خوفا من إزعاج المشاعر المحافظة للغاية.
وقال غولدكنوبف، إنه انتهك قواعد السبت اليهودي للمرة الأولى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، عندما تم استدعاؤه من الكنيس لحضور اجتماع عاجل لمجلس الوزراء. وكانت هذه أيضا المرة الأولى التي يزور فيها المقر العسكري الإسرائيلي. يتذكر جولدكنوبف أنه عندما شاهد المسؤولون الصور المبكرة للمذبحة، انهار أحد زملائه في الحكومة بالبكاء.
وقال غولدكنوبف: "لقد غيرتني الحادثة كثيرا"، موضحا أنها أدّت إلى تصلب موقفه تجاه
الفلسطينيين. وأضاف: "اعتقدت أن العالم كان ينهار". غير أنه الآن، مستعد للتنازل بأن بعض الحريديم يمكنهم الانضمام إلى الجيش؛ أولئك الذين من غير المرجح أن يصبحوا علماء توراة.
وقال: "أولئك الذين لن يدرسوا يجب أن يذهبوا"، مردفا: "إن العالم يقوم على ثلاثة أشياء: التوراة، والصلاة، والصدقة؛ الحقيقة هي أن أولئك الذين لا يدرسون يمكنهم الالتحاق بالجيش". ثم أوقف المقابلة مؤقتا ليعرض بفخر صورة جندي على هاتفه.. وكانت صورة لابن أخيه.