نشر موقع "
داون" مقال رأي للكاتبة يسرى الغنوشي، قالت فيه أن سيادة القانون قد تآكلت بالفعل خلال السنة ونصف السنة الماضيتين منذ انقلاب الرئيس قيس سعيّد في 25 تموز / يوليو 2021، عندما أمر بحلّ البرلمان وإقالة الحكومة، بينما منح نفسه صلاحيات شبه مطلقة.
وقبل سنة بالضبط، اعتُقِل
راشد الغنوشي، رئيس البرلمان
التونسي المنتخب، في منزله في تونس العاصمة بينما كان بصدد تناول إفطار رمضان.
وأوضحت الكاتبة في مقالها الذي ترجمته "عربي21"، أنه بعد تعليق معظم مواد الدستور والحكم بمرسوم، فكل ما بقي على سعيّد فعله هو سحق أحزاب المعارضة التي رفضت الوقوف مكتوفة الأيدي، بينما قام بانتهاك الحريات وتفكيك المؤسسات الديمقراطية التي اكتسبتها تونس بشق الأنفس.
وأكدت الكاتبة على أن المنزلق الاستبدادي الذي شهده التونسيون منذ انقلاب سعيّد اتبع مسارًا مألوفًا وضعه المستبدون في بلدان أخرى: دستور جديد بسلطات تنفيذية غير خاضعة للرقابة تمت الموافقة عليه في استفتاء مشكوك فيه، وقوانين جديدة صارمة تقيّد حرية التعبير، والاستيلاء على السلطة القضائية لاستخدامها ضد المنافسين السياسيين، واستهداف أي منتقدين ومعارضين بإجراءات حظر السفر والإقامة الجبرية والسجن.
وأفادت بأنه تم استدعاء والدها مرات لا تحصى للاستجواب بتهم ملفّقة بعد استيلاء سعيّد على السلطة. وفي كل مرة خضع للاستجواب لأكثر من عشر ساعات، وكانت أسرته تنتظر بفارغ الصبر وتتنفس الصعداء عندما يخرج حرًا في النهاية رافعًا علامة النصر، بعد عدم عثور القضاة على أي دليل على مختلَف الادعاءات المنافية للعقل ضده.
واستدركت بالقول: "لكن بعد سنة ونصف السنة من محاولته إحكام قبضته على القضاء، وإقالة القضاة الذين رفضوا الانصياع لأوامره، تمكّن دكتاتور تونس الجديد من تنفيذ الاعتقال والحصول على الحكم الذي أراده؛ حيث حاصر أكثر من 100 عنصر أمني منزل عائلة الغنوشي مساء 17 نيسان/ أبريل، ليلة 27 رمضان، ونُقل الغنوشي إلى مكان مجهول، ومُنع من الاتصال بمحام لمدة 48 ساعة".
ومنذ ذلك الحين، بقي الغنوشي في السجن، وصدر ضده حُكمان بتهم ملفقة - أولا "التحريض" و"التآمر على أمن الدولة"، ثم قبول تمويل أجنبي - وهو ما يشكل انتهاكا لأبسط متطلبات الحق في محاكمة عادلة؛ حيث يواجه الغنوشي - البالغ من العمر 82 عاما - ثلاث سنوات أخرى في السجن، حسب مقال ابنته.
ولفتت الكاتبة، إلى أنه عندما مر العيد على والدها في السجن، تذكرتُ المرات العشر الأخرى التي قضى فيها والدها العيد في السجن في الثمانينيات، في سجون مختلفة وتحت حكم دكتاتوريين تونسيين مختلفين؛ مشيرة إلى أنه بعد عقد من الديمقراطية تمتع فيه التونسيون بمستويات غير مسبوقة من الحرية، كانوا يأملون أن تكون تونس قد تركت عصر الاعتقالات التعسفية والمحاكمات السياسية وراءها؛ لكن الآن، يجد التونسيون أنفسهم نعود إلى نفس مناخ الخوف والإفلات من العقاب والظلم.
وشددت على أن التونسيين يعرفون أن النضال ضد الدكتاتورية نضال طويل، مستمدين الشجاعة والقوة من رؤية تصميم الأفراد والحركات التي تناضل من أجل الكرامة الإنسانية والعدالة في ظل أنظمة استبدادية أخرى.
ونوهت الكاتبة إلى أن التونسيون يتابعون بفزع صور المجازر المستمرة في غزة وبقية أنحاء فلسطين؛ حيث يبدو الأمر كما لو أن العالم لم يكن يومًا مليئًا بالظلم كما هو اليوم، بأشكال عديدة.
وقالت إنه في وقت يسوده هذا الألم واليأس؛ فإنها تفتقد صوت والدها دائم الهدوء والطمأنينة، وتفاؤله الذي لا يتزعزع، مهما كانت الظروف والتحديات، مبينة أنه كان سيذرف الكثير من الدموع عندما يرى هذا الكم من الخسارة والألم، لكنه كان سيرفض الاستسلام لليأس، وسيبتهج بموجة التضامن العالمية مع القضية الفلسطينية ويرى فيها تأكيدًا لإيمانه بالإنسانية المشتركة والاعتراف العالمي بالحق في الحرية والعدالة، - وعلى عكس الديكتاتوريين في جميع أنحاء المنطقة - كان سيظل ملتزما بصلاحية وضرورة الحقوق والقوانين العالمية، بعد أن أمضى حياته في الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيزها ليس باعتبارها مستوردة أجنبية، وإنما باعتبارها إنجازات إنسانية مشتركة لا تتوافق فقط مع فهمه للإسلام بل يقتضيها أيضا.
ورأت الكاتبة أن الغنوشي كان سيؤكد اقتناعه الراسخ بأن الحرية والديمقراطية ضروريتان لمنطقتنا، تماما كما هما ضروريتان لتحقيق العدالة للفلسطينيين، وأن الدكتاتورية لا يمكن أبدًا أن تكون طريقا إلى التحرير، بل على العكس من ذلك. وبما أن تواطؤ الديكتاتوريات في المنطقة مع الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة يكشف عن العلاقة التي لا تنفصم بين الاحتلال والدكتاتورية، فإنه كان سيقول إن النضال من أجل الحرية، الذي كان مسعاه طوال حياته، جزء لا يتجزأ من النضال من أجل تحرير فلسطين.
وبينت أنه على الرغم من النكسات العديدة في تونس وفي جميع أنحاء العالم العربي، فإن نفس الرغبة في الكرامة والعدالة والحرية التي أشعلت الثورة التونسية وغيرها من انتفاضات الربيع العربي لا تزال قائمة ولا يمكن قمعها بشكل كامل، ولا يزال بوسع الأمل أن يتحدى اليأس، مع الإيمان بأن التضحيات المتراكمة للكثيرين سوف تصنع مستقبلًا أكثر إشراقا.
واعتبرت الكاتبة أنه "ربما يكشف الانقلاب على الديمقراطية التونسية الذي قام به سعيّد ومساعدوه مدى هشاشة المكاسب الديمقراطية، لكن التونسيين ظلوا صامدين في الدفاع عن مُثُل ثورتنا ضد الدكتاتورية؛ حيث شعر الغنوشي - بعد انقلاب سعيّد - بالعلامات المبكرة لمقاومة هذا الاستبداد الجديد من عدد متزايد من الأحزاب السياسية والقضاة والمحامين والصحفيين ومنظمات المجتمع المدني".
"فربما كان سعيّد يتصرف مثل المستبدين التونسيين من قبله، لكنه سرعان ما واجه معارضة أكثر تنظيمًا مما كانت عليه في عهد زين العابدين بن علي والحبيب بورقيبة، وهو ما رآه الغنوشي ثمرة عقد ما بعد الثورة وعلامة على أنه بمجرد تذوق الناس للحرية سيكون من الصعب إجبارهم على العودة إلى العيش في ظل الدكتاتورية"، حسب الكاتبة.
واختتمت الكاتبة مقالها بالتأكيد على أنها تتبنى تفاؤل والدها، وأن سجنه وسجن العديد من المعتقلين السياسيين الآخرين من مختلف ألوان الطيف السياسي التونسي دليل على رفضهم الخضوع للاستبداد، وأن التونسيين عازمون على نيل حريّتهم مرة أخرى.