مما لاشك فيه أن العدوان الإسرائيلى الهمجى المستمر على قطاع
غزة قد أسقط القناع الزائف الذى ارتداه الكيان الصهيونى أمام العالم، ومع انكشاف الوجه القبيح له استفاق العالم وانتبه وأدرك حقيقة ما يحدث من معاناة فادحة للشعب الفلسطينى الذى يتعرض لأبشع أشكال الاضطهاد والتنكيل والجرائم ومصادرة حاضره ومستقبله.
المظاهرات الحاشدة التى خرجت فى جميع أنحاء العالم عبرت عن ضمائر الشعوب التى فجعتها مشاهد قتل الفلسطينيات والفلسطينيين وجثثهم وبيوتهم المدمرة وحياتهم التى تحولت إلى جحيم، وحتى الحكومات الغربية التى دأبت تاريخيًا على تأييد إسرائيل، ثم بدأت تُخفف من تأييدها، ثم أخذت تتحفظ على جرائم الكيان الصهيونى وتنتقدها، ثم باتت تعترض صراحة عليها وتعلن أسفها واشمئزازها منها.
رغم ذلك كله تمايز موقف الحكومة الألمانية بسياسة أثارت العديد من علامات الاستفهام، بعد أن أعلنت عن رفضها وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، ثم أعلنت أن مبيعات السلاح الألمانية لإسرائيل خلال الشهور السبعة الماضية قد تضاعفت عشر مرات عن معدلاتها، ثم أعلنت إيقاف مساهمة الحكومة الألمانية فى تمويل هيئة الأونروا، ثم إيقاف جميع مساعدات التنمية للأراضى الفلسطينية، ثم الإعلان المستمر عن تأييدها المطلق لإسرائيل وسياساتها ومساندتها وحمايتها على كل الأصعدة، والسؤال هو تأييدها فى مواجهة من؟!
تأييد إسرائيل فى مواجهة شعب من المدنيين العزل الذين فوجئ آباؤهم وأجدادهم بتدفق مئات الآلاف من اليهود من جميع أنحاء العالم إلى بلدهم فلسطين بدعوى أن لهم حقا تاريخيا ودينيا فيها. تأييد هؤلاء القادمين الذين يأبون الاعتراف إلى اليوم بإقامة دولة للشعب الفلسطينى أو حقوق للشعب الفلسطيني. تأييد هؤلاء الذين قرروا الاستيلاء على فلسطين التاريخية بأكملها بكل الطرق والوسائل والأساليب، فأقاموا المستعمرات الاستيطانية المسلحة فى أنحاء الضفة الغربية المحتلة لتقضى فعليًا على أى بارقة أمل لقيام الدولة الفلسطينية.
أو تأييد سياسات إسرائيل فى قطاع غزة الذى حولته إسرائيل إلى أكبر معتقل فى العالم، معتقل أكبر بكثير من معتقلات النازيين مجتمعة فى أوشفيتز، وبلزاك، وسوبيبور، وماجانيك، وتريبلنكا، وداشاو. ليس ذلك وحسب، فقطاع غزة اليوم يضم أكبر مقبرة جماعية فى التاريخ تضم رفات ضحايا المجازر التى ارتكبتها إسرائيل لعائلات وأسر كاملة أبيدت وتلاشت من الوجود.
المؤسف أنه عندما خرجت المظاهرات والاحتجاجات السلمية فى المدن الألمانية للتنديد بالجرائم الإسرائيلية فى غـــزة، منعت وزارة الداخلية الألمانية جميع المظاهرات المؤيدة لفلسطين وأضفت عليها طابع معاداة السامية، رغم أنها بعيدة كل البعد عن ذلك، ولم يصدر عمن شاركوا فيها أى تجاوز أو مخالفة.
ألم يأنِ للسياسة الألمانية أن تعترف بأن ما يحدث فى فلسطين هو هولوكوست فلسطينى مرعب لا يقل عن الهولوكوست النازى، وأنها بسياستها هذه هى ومن سبقتها من الحكومات الألمانية باتت موضع امتعاض من شعوب المنطقة العربية ومن العالم كله، وليس أدل عليها سوى قيام نيكاراجوا فى دعواها أمام محكمة العدل الدولية باتهام ألمانيا بأنها انتهكت اتفاقية منع الإبادة الجماعية واتفاقية جنيف لقوانين الحرب بما تنتهجه من سياسات داعمة لإسرائيل.
منذ أكثر من سبعين سنة وبموجب اتفاقية لوكسمبورج للتعويضات الألمانية المبرمة فى عام 1952 التزمت ألمانيا بأن تدفع لإسرائيل ما يعادل المليار يورو سنويًا تحت مسمى تعويض ضحايا النازية من اليهود، كذلك التزمت ألمانيا بدفع معاش شهرى لكل يهودى فى أى مكان فى العالم، إذا أثبت تعرضه لاضطهاد النازيين، واليوم يحصل على ذلك المعاش الشهرى قرابة 300 ألف فرد فى جميع أنحاء العالم خارج إسرائيل.
جاءت تلك الاتفاقية وقتها كطوق نجاة اقتصادى لإسرائيل، وساعدتها على استيعاب وتوطين أكثر من 700 ألف يهودى ويهودية فى فلسطين فى بداية الخمسينيات، وأسهمت فى خفض نسبة التضخم فى إسرائيل من 66% إلى 5% فى السنوات التالية، وباتت مدفوعات التعويضات الألمانية تشكل جزءًا رئيسيًا سنويًا مضمونًا من موارد الميزانية الإسرائيلية، وإلى اليوم يستمر تنفيذ تلك الاتفاقية، حيث يقدر الاقتصاديون ما قدمته ألمانيا لإسرائيل بموجبها خلال السنوات السابقة بحوالى 100 مليار يورو.
الأمر لا يقتصر على تلك المساعدات المالية الضخمة، إذ أشارت بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام إلى أن ألمانيا أرسلت أكثر من ألف محرك دبابة إلى إسرائيل، خلال السنوات العشر الماضية لتركيبها فى دبابات الميركافا-4 وناقلات الجنود المدرعة، كما تستخدم محركات الديزل الألمانية الصنع فى المركبة إيتان الإسرائيلية، فضلًا عن التعاون العسكرى التكنولوجى الذى تمول ألمانيا معظمه بمنح ومساعدات لتطوير وتصنيع الذخائر والمدافع والدبابات والغواصات والمنظومات المضادة للصواريخ، وبناء القدرات العسكرية الإسرائيلية بصرف النظر عمن ستوجه ضده، وعمن ستحاربه معدات الموت الاسرائيلية.
على الجهة الأخرى وفى محاولة منها لتجميل وجهها أمام العالم، تشدق مسئولو الحكومة الألمانية بتعهدهم بتقديم 125 مليون يورو للسلطة الفلسطينية لدعم مشروعات المياه والتعليم خلال العامين المقبلين، وبأن حكومتهم أبرمت اتفاقيات بقيمة 28 مليون يورو لدعم اللاجئات واللاجئين الفلسطينيين.
وليست الأرقام السابقة سوى أرقام هزيلة، إذا علمنا بأن منظمة مؤتمر المطالبات اليهودية المادية من ألمانيا التى تهدف لتحصيل تعويضات لضحايا الهولوكوست قد حصلت العام الماضى فقط على 767 مليون دولار كتعويضات إضافية تضاف للقيمة السنوية التى تلتزم بدفعها ألمانيا سنويا لإسرائيل والتى تتجاوز المليار يورو قيمة تعويضات ضحايا النازية.
ويبدو أن الحكومات الألمانية المتعاقبة لا تقرأ التاريخ إلا بالنظارة الإسرائيلية فلا تعرف ولا تعترف إلا بضحايا النازية من اليهود، وتحت هذه الحجة تساند إسرائيل مساندة عمياء مهما فعلت أو أجرمت، فلا مسئولية على ألمانيا إلا مسئوليتها عن ضحايا النازية من اليهود، على الرغم من أن النازيين الألمان قد قتلوا قرابة السبعة ملايين من المدنيين السوفييت، وثلاثة ملايين من أسرى الحرب السوفييت، ومليونين من المدنيين البولنديين، ونصف مليون من السلافيين، وربع مليون فرد من الغجر فى رومانيا والمجر وشرق أوروبا، وغيرهم.
المستشار الألمانى الذى عبر عن دعمه الكامل لإسرائيل صرح بقوله لا يوجد سوى مكان واحد لألمانيا فى هذا الوقت، وهو بجانب إسرائيل، تاريخنا ومسئوليتنا الناشئة عن المحرقة اليهودية تجعل مهمتنا الدائمة أن ندافع عن أمن دولة إسرائيل.
والسؤال الذى يمكن أن نوجهه للمستشار الألمانى وحكومته، أن تساند إسرائيل فى مواجهة من؟! فى مواجهة 35 ألف فلسطينية وفلسطينى أبادتهم إسرائيل فى غــزة خلال ستة شهور، أم 100 ألف فلسطينية وفلسطينى سيعيشون بقية حياتهم معاقين ومبتورى الأطراف ومصابين من القنابل والذخائر والصواريخ الإسرائيلية؟ أم فى مواجهة 25 ألف معتقل من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين تمتلئ بهم السجون والمعتقلات الإسرائيلية؟ أم فى مواجهة مئات الآلاف من الفلسطينيات والفلسطينيين المشردين ممن يرغبون فقط فى حق العودة إلى أرضهم وبيوتهم والحياة فيها أحرارًا آمنين.
(الشرق المصرية)