نشرت صحيفة "
لوموند" الفرنسية تقريرا تطرقت فيه إلى ظاهرة استخدام
دبي كوجهة لتهريب الأموال وتخزينها من السياسيين والمسؤولين الأفارقة، مبينة أن المدينة أصبحت ملاذا شهيرا للأموال غير المشروعة، وتقدم العديد من المزايا للمتورطين في عمليات
الفساد.
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"؛ إن تسرب بيانات سرية يكشف أن أقارب العديد من رؤساء الدول الأفريقية، يمتلكون أصولا عقارية كبيرة في الإمارة.
وذكرت الصحيفة، أن ماري مادلين مبورانتسو٬ التي تعد واحدة من أقوى النساء في الغابون٬ وعملت في رئاسة المحكمة الدستورية في البلاد لمدة ٣٢ عام، وكانت صديقة مقربة من الرئيس السابق عمر بونغو٬ تم فصلها من منصبها بعد الإطاحة بالنظام من قبل المجلس العسكري في صيف سنة 2023، وأصبح يتعين عليها يوما ما الرد على مصدر ثروتها أمام العدالة الفرنسية.
وبحسب معلومات لصحيفة لوموند، فإن القضاة الفرنسيين يحققون في أعمال "غسيل واختلاس الأموال العامة" منذ آب/أغسطس 2018. ويأتي هذا الإجراء، الذي أدى بالفعل إلى إحالة جنائية، في أعقاب تحقيق أولي أجراه مكتب المدعي العام المالي الوطني، الذي اشتبه في قيام السيدة مبورانتسو بتمويل شقة في فرساي في سنة 2013 بمبلغ 1.45 مليون يورو من "الأموال القذرة". وفي العام نفسه، استحوذت أيضا على منزل مستقل في أحد الأحياء الراقية في العاصمة الأمريكية واشنطن.
لكن أصول مبورانتسو ربما تكون أكبر بكثير؛ فبحسب تسريب بيانات سرية تسمى "مفاتيح دبي"، اطلعت عليها صحيفة "لوموند"، دفعت مبورانتسو وأبناؤها، في شتاء 2013، 24 مليون درهم إماراتي (6 ملايين يورو) لعرض خمس شقق وفيلتين في دبي.
ويكشف الملف المسرب، الذي يعرض تفاصيل هويات أصحاب أو شاغلي مئات الآلاف من الفيلات والشقق الموجودة في هذه الإمارة، أن العديد من أعضاء الدائرة الداخلية للحكام المستبدين الأفارقة، استثمروا الملايين أيضا هناك. وكما هو الحال مع شركة ماري مادلين مبورانتسو، نادرا ما تتطابق المبالغ التي تنفقها مع وظائفها الرسمية، مما يثير الشكوك حول مصدر أموالها.
وتجدر الإشارة إلى أن تسريبات "مفاتيح دبي" هو تحقيق تعاوني، يعتمد على معلومات مسربة تتعلق بمئات الآلاف من
العقارات في دبي، بالإضافة إلى معلومات حول ملكيتها أو استخدامها، بشكل أساسي بين سنتي 2020 و2022
وتم الحصول على البيانات من مركز دراسات الدفاع المتقدمة، وهو مركز أبحاث أمريكي مقره في واشنطن العاصمة، يتكون من ضباط وأكاديميين أمريكيين سابقين، يدرس الجرائم والصراعات الدولية.
ثم تم إرسالها إلى وسيلة الإعلام المالية النرويجية "إي24"، واتحاد مشروع الإبلاغ عن الفساد والجريمة المنظّمة، الذي قام بتنسيق هذا المشروع الاستقصائي مع 72 وسيلة إعلامية حول العالم، بما في ذلك صحيفة لوموند.
وتأتي البيانات العقارية الموجودة في قلب المشروع من سلسلة من التسريبات لأكثر من 100 مجموعة بيانات، وتأتي غالبية البيانات من دائرة الأراضي والأملاك في دبي وشركات المرافق العامة الإماراتية.
أبناء رئيس غينيا الاستوائية وصهره
وقد تطرق التقرير إلى حالة باستور أوبيانج، على سبيل المثال؛ فقد اشترى نجل رئيس غينيا الاستوائية، تيودورو أوبيانج، فيلا تبلغ مساحتها حوالي 1000 متر مربع في دبي، مقابل 3.6 ملايين يورو في أيار/مايو 2020. وقبل ثلاثة أشهر، كان شقيقه الأكبر، تيودورين، قد أدين بشدة من المحاكم الفرنسية في قضية "المكاسب غير المشروعة"، بتهمة بناء إرث باريسي مهم عن طريق اختلاس الأموال العامة.
ويكشف ملف "مفاتيح دبي" أيضا مدى إرث عمهم كانديدو نسو أوكومو، الرئيس السابق لشركة النفط الوطنية (2004-2015)، الذي أصبح بدوره وزيرا للرياضة (2015-2018).
في هذا السياق، اشترى شقيق السيدة الأولى بين سنتي 2013 و2018 فيلا ضخمة على الواجهة البحرية في نخلة جميرا، وهي الجزيرة الاصطناعية الرمزية على شكل نخلة، بالإضافة إلى غرفة فندقية على مدار السنة وثلاث شقق مخصصة للإيجار.
لكن، كيف حصل السيد نسو أوكومو على مبلغ 58 مليون درهم (14.5 مليون يورو) اللازم لشراء هذه الممتلكات الفاخرة؟ من المؤكد أنه ليس معنيا بالتحقيق الفرنسي بشأن الأصول غير المشروعة في غينيا الاستوائية، لكن المحاكم الإسبانية وجهت إليه اتهامات بغسل الأموال في قضية فساد، على خلفية حرب الخلافة بين تيودورين وأخيه غير الشقيق غابرييل أوبيانج.
برازافيل بالكونغو أيضا
ويسمح سجل الأراضي في دبي بتتبع حاشية دينيس ساسو نغيسو، رئيس الكونغو برازافيل غير القابل للإزالة، الذي يتولى السلطة منذ سنة 1997. وقد استحوذت زوجة ابنه ناتالي بومبا بيمبي على فيلا في دبي، تبلغ مساحتها حوالي 700 متر مربع مقابل 14 مليون درهم (3.5 مليون يورو)، في شباط/فبراير 2018.
وقد أثارت أصولها بالفعل فضول النظام القضائي الأمريكي، الذي اكتشف شقة راقية باسمها في فلوريدا، عرضها عليها زوجها دينيس كريستيل ساسو نجيسو، نجل رئيس ووزير التعاون الدولي.
وباعتباره أحد أكثر الشخصيات نفوذا في البلاد، كان لفترة طويلة الرجل الثاني في شركة البترول الوطنية في الكونغو. وهنا أيضا، حصل على لقب "كيكي، رجل النفط"، ومن خلال هذه المكاسب النفطية تتغذى حساباته المصرفية.
وإذا ما أساءت السلطات الغربية واتخذت الإجراءات اللازمة، فإن الإمارة لن تتراجع. ومع ذلك، فقد تم استهداف دينيس كريستل ساسو نجيسو من خلال العديد من قضايا الفساد والاختلاس، وغسل الأموال المرتبطة بالشركة الوطنية للبترول في الكونغو.
وتؤكد الصحيفة أن ما يحدث حقيقة بديهية بالنسبة لرئيس منظمة الشفافية الدولية في فرنسا لباتريك ليفاس، الذي يؤكد أن "الحكام الفاسدين ذهبوا إلى دبي للعثور على ما يصعب العثور عليه بشكل متزايد في فرنسا وأوروبا"، ولا سيما "التعاون القضائي الذي يمكن تحسينه بشكل كبير"، و"الالتزام الضئيل أو المعدوم فيما يتعلق بالشفافية المالية".
بالنسبة لأندريا نجومبيت، مؤسس "ساسوفيت"، وهي مجموعة متخصصة في مراقبة حكم الكونغو برازافيل، فإن الملاذ الضريبي الإماراتي يعد بمنزلة قاعدة خلفية لهؤلاء الرجال والنساء الذين ينجذبون إلى السلطة قدر الإمكان.
ويقول الناشط: "بمجرد تعرضهم لمشاكل قانونية، نلاحظ عملية تصفية في أوروبا والولايات المتحدة لشراء عقارات في دبي من أجل تجنب المصادرة المحتملة".
واستفاد وزير الداخلية الكونغولي، ريموند زيفيرين مبولو، من سياسة عدم التدخل في دبي: ففي 19 أيار/مايو 2016، اشترى في اليوم نفسه فيلا وشقتين فاخرتين. وبلغت التكلفة الإجمالية للعملية: 3.3 ملايين يورو، وهو بعيد عن الإمكانيات المالية للوزير.
وقبل شهرين فقط، أكد السيد مبولو على شاشة التلفزيون الوطني إعادة انتخاب الرئيس المنتهية ولايته في الجولة الأولى، على الرغم من الاحتجاجات الكبيرة من جانب المعارضة.
يقول أندريا نجومبيت: "من المحتمل أن يكون توقيت مشترياته مرتبطا بهذا التزوير الانتخابي". ومنذ ذلك الحين، تم توسيع أصول في دبي بشقتين جديدتين، بما يعادل 1.7 مليون يورو إضافية.
في تشاد الشركة النفطية في حالة استياء
وفي فرنسا، تستهدف القضايا التي تفتحها المحاكم لتحقيق مكاسب غير مشروعة بشكل رئيسي عائلات الزعماء الكونغوليين والغينيين والغابونيين. لكن هناك عائلات أخرى من الزعماء الأفارقة التي تستثمر في دبي. ما هي القواسم المشتركة بينهم؟ على ما يبدو أنها المحسوبية واختلاس عائدات الذهب الأسود، التي يتم تقاسمها مع العائلة وليس مع الشعب.
وحيث كان محمد حسين بورما، صهر الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي (1990-2021)، واحدا منهم: في سنة 2012، بعد سنة من توليه منصب المدير التجاري للشركة التشادية للمحروقات، اشترى خمس شقق في أحد المجمعات السكنية٬ ناطحة سحاب في منطقة راقية بدبي، أكملها بعد ثلاث سنوات بفيلا ضخمة مطلة على ملعب للجولف.
وتتزامن هذه المشتريات المكلفة (ما يعادل 14 مليون يورو) مع عمليات استحواذ مشبوهة على "شقق سكنية" في كندا، الأمر الذي أدى إلى فتح تحقيق في تشاد، بعد أن كشفت عنها صحيفة "جورنال دو مونتريال".
ولم يعد حسين بورما في وضع جيد في تشاد، وهو مسجون منذ نهاية آذار/مارس الماضي، لأسباب لا تزال غير واضحة.
وبعد الاتصال به، احتج صهره على المعاملة القانونية والإعلامية التي تعاني منها عائلته، واستنكر قائلا؛ "إنه سر مكشوف، وهناك آخرون أقرب إلى النظام يمتلكون أصولا أكثر أهمية. وهو ما تؤكده جزئيا بيانات "مفاتيح دبي" التي تشير إلى أن العديد من الشخصيات السياسية التشادية، بدءا بالرئيس محمد إدريس ديبي، يمتلكون عقارا أو أكثر في دبي. ومع ذلك، فإن البيانات مجزأة جدّا، بحيث لا يمكن ربطها بملكية معينة.
في أنغولا الملياردير بالمنفى
من جانب آخر، اشترت إيزابيل دوس سانتوس، ابنة الرئيس الأنغولي السابق، عقارات في دبي. وأوضحت لشركاء صحيفة لوموند، أنها "مخصصة منذ أكثر من عشر سنوات، للاستخدام الشخصي"، مؤكدة أن لديها الوسائل اللازمة لشراء هذه الشقة.
وكانت أول مليارديرة أفريقية، التي غادرت أنغولا سنة 2017، موضع اتهامات بالفساد لسنوات عديدة. ويشتبه بشكل خاص في قيامها باختلاس مبالغ كبيرة من شركة النفط الحكومية.
بينما تنفي السيدة دوس سانتوس ارتكاب أي مخالفات مالية، وتعيش الآن بشكل دائم في دبي، وتواجه إشعارا أحمر من الإنتربول، دون أن تشعر بالقلق من سلطات الإمارة.
وفي الختام، أشارت الصحيفة إلى أنه بالنسبة لأنطوان دولين، الذي شارك في تأليف تقرير المنظمة غير الحكومية سوليدير في سنة 2007 حول أصل التحقيقات الفرنسية في المكاسب غير المشروعة، فإن وفقا له "الأمور تتغير: اتحادات الصحفيين تعمل، والمنظمات غير الحكومية تعمل، والتشريعات يجري تعزيزها ".
ويحذر قائلا: "لكن المعركة لم تنته تماما"، مشيرا بأصابع الاتهام إلى الوسطاء الماليين مثل البنوك الدولية الكبرى.